منذ نحو 3 عقود نشاهد تصاعداً في الكفاح ضد مظاهر التمييز والاضطهاد اللغوي والثقافي والاجتماعي. هناك أمور مهمة في الثورة الإيرانية التي اندلعت في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي، لا يرغب معظم المحللين والمفكرين والسياسيين الفرس التطرق إليها، أو أنهم يمرون عليها مرور الكرام.
وبما أن هؤلاء هم الذين يملكون أكثر من غيرهم المنابر الإعلامية والسياسية والدبلوماسية والتواصلية مع الغرب، لذا يتكون الخطاب الغربي وفقاً للخطاب المنتج فارسياً، وذلك بسبب ضعف الخطاب الآخر غير الفارسي المشتت بين قوميات مختلفة وفاقد لسابقة تاريخية يتمتع بها الفرس إثر هيمنتهم على السلطة والمعارضة على حد سواء، ليس اليوم وأمس بل منذ عقود خلت.
لكن لا ينبغي أن نخلط بين هذا الوهن والقوة الكامنة التي يتمتع بها معسكر غير الفرس، إذا صح التعبير، والتي أخذت تتجلى خلال العقدين الماضيين، خصوصاً بعد تظاهرات 2017 و2019 والانتفاضة الثورية الراهنة.
لا أريد أن أفصل في أسباب قوة هذا المعسكر ولمحت في مقالات سابقة إلى دور هذه القوميات، خصوصاً العرب، خلال الانتفاضتين السابقتين غير أني سأركز هنا على دورها في الانتفاضة الأخيرة والتداعيات المترتبة على هذا الدور.
في الواقع تكونت إيران بشكلها الحالي من إمارات وممالك عدة كان بعضها حتى قبل تسعة عقود مستقلاً وبعضها الآخر يتمتع بحكم ذاتي واسع، وهي الآن فسيفساء من شعوب وقوميات أخذت تدرك تاريخها وحقوقها، كما أن المرأة أيضاً تتقاطع مع هذه الشعوب في مدى معاناتها الاضطهاد والتمييز، وهذا ما يحدد مدى اشتراك مصالحهم في تغيير النظام الاستبدادي الحالي.
الشعوب وتراثها الثوري
لم يشارك من الشعوب التي كانت ضمن الدولة القاجارية في ثورة الدستور (1906-1909) إلا شعبين، هما الفرس والأتراك الأذريون، فيما كان البلوش يشكلون حكومة مستقلة والعرب حكومة شبه مستقلة والأكراد بعيدين من الساحة بسبب تركيبتهم الاجتماعية والمذهبية، فمشاركة العرب الأحوازيين كانت تقتصر على مساعدات قدمها الأمير خزعل إلى الثوريين، فيما لم تشهد مدن عربستان أي حراك دعماً أو معارضة لتلك الثورة.
لقد خذلت القومية المهيمنة الأتراك الأذريين وكل شعوب الممالك المحروسة بتشكيلهم دولة قومية فارسية في 1925، خلافاً للطابع التعددي القومي للإمبراطورية القاجارية وتكرر الأمر في ثورة فبراير (شباط) 1979 التي شاركت فيها جميع الشعوب والقوميات بلا استثناء.
فمنذ نحو ثلاثة عقود ونحن نشاهد تصاعداً ليس فقط في مدى الوعي القومي لدى أبناء الشعوب غير الفارسية، بل في مجال الكفاح ضد مظاهر التمييز والاضطهاد اللغوي والثقافي والاجتماعي.
وإلى جانب ذلك وقبل أن تحدث ثورة سبتمبر 2022، شهد المجتمع الإيراني ثورة ثقافية وفكرية واجتماعية في أذهان الناس وأفكارهم وسلوكاتهم خلال العقدين الأخيرين، خصوصاً بين الشباب والنساء وغير الفرس.
ومن هذه الأمور يمكن أن نشير إلى الامتزاج أكثر فأكثر في عملية العولمة والتأثر بالثورة المعلوماتية ومعارضة الحجاب القسري وانتشار الفكر العلماني و”الزواج الأبيض” ومعارضة رجال الدين وتدخلهم في الشأن الحكومي والاهتمام باللغات والثقافات والفنون غير الفارسية.
ثورة قومية أم ثورة قوميات؟
يحاول الخطاب المهيمن أن يصف انتفاضة 2022 بالثورة القومية (انقلاب ملي)، فيما هي في الواقع ثورة القوميات والشعوب (انقلاب ملل)، وهنا سأشرح لماذا، خلافاً للثورتين السابقتين هناك تجل بارز للرموز والشعارات والهتافات واللغات الخاصة بالشعوب غير الفارسية التي تؤكد هوياتهم القومية لم نشهدها بهذا الشكل وهذا الحجم الواسع والبارز في الثورتين السابقتين، ثورة الدستور (1906-1909) وثورة فبراير 1979.
ينبغي أن أذكر أن الشعارات الرئيسة في هذه الثورة كانت كالتالي، “المرأة، الحياة، الحرية” و”الموت للديكتاتور” و”الموت لخامنئي”، لكن هناك شعارات وهتافات أخرى تم ترديدها في المناطق غير الفارسية فقط.
الشعب الكردي
استخدم الكرد في إيران لغتهم الأم في معظم الاحتجاجات والتظاهرات وكتبوا شعاراتهم ورددوا هتافاتهم بها إلى جانب الهتافات الفارسية والأخيرة بالطبع أقل بكثير من الهتافات الكردية.
شاهدنا شاهد قبر جينة (مهسا) أميني في مقبرة مدينة سقز في إقليم كردستان إيران الذي فجر قتلها الثورة الراهنة، ومكتوب عليه بالكردية اسمها الأصلي “جينة” التي منعت السلطات الإيرانية أهلها من تسميتها به، وأنها شهيدة سرمدية.
كما أن هتاف “المرأة، الحياة، الحرية” (جن جيان ئازادي) انطلق من تلك الوقفة على ذلك القبر في 17 سبتمبر 2022، كما سمعنا هتافات تؤكد الهوية الكردية والتكاتف الكردي وأخرى تمجد الزعيم الكردي عبدالرحمن قاسملو الذي اغتالته إيران في فيينا عام 1989، بل بعض الهتافات اليسارية التي تطالب بالتكافؤ وإدارة الأمور بالمجالس (الشورى).
وكذلك هتاف “جينة رمز اتحادنا للتحرر والانتصار” و”كردستان مقبرة الفاشيست” و”نحن كرد ولا نفشل، نحن أبناء القاضي وفؤاد”، وهم يعنون بالأول القاضي محمد مؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني ومؤسس جمهورية مهاباد الكردية (1945-1946) الذي أعدمه نظام الشاه، وفؤاد سلطاني أحد المناضلين الذين قتل في معركة مع القوات الإيرانية عام 1979.
وتتضارب بعض شعارات الأكراد مع ما يردده الفرس كشعار “من جوانرود إلى طهران نشهد اضطهاد النساء”، رداً على هتاف “من سنندج إلى طهران، روحي فداء لإيران” المردد في طهران وبعض المدن الإيرانية الأخرى.
وكذلك هتاف لم نسمعه إلا في كردستان وبلوشستان “الحرية والمساواة للكردي والبلوشي والأذري”، وكذلك سمعنا هتافات راديكالية منها “المحتلون الإيرانيون هم قتلة جينتنا” و”المرأة والحياة مستمرة نريد استقلال كردستان”، و”إذا لم تكن لدينا دولة، سيكون [الوضع الراهن] قدرنا إلى الأبد”.
كما أكد والد كومار درافتادة أحد قتلى الانتفاضة في مدينة بيرانشهر الكردية على قبره أنه سماه كومار وتعني بالكردية جمهورية أو جمهور تيمناً بجمهورية مهاباد، وكل قتيل يسقط في المناطق الكردية يصفونه بـ”شهيد كردستان” وليس “شهيد إيران أو شهيد الوطن” كما نسمع في طهران والمدن الفارسية الأخرى.
كما نشاهد فتح الكوفية الكردية “جامانة” وبسطها على بعض قبور القتلى الأكراد، وهو رمز يحل مكان العلم الكردي لخشيتهم من قوات الأمن.
وشاهدنا في معظم تظاهرات الإيرانيين بالخارج علم كردستان إلى جانب العلم الإيراني، ورأينا شعاراً يحمله الأكراد في تظاهرات برلين في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 التي ضمت أكثر من 80 ألف متظاهر يقول وكأنه يخاطب الفرس، “إذا تؤذيك كرديتي [هويتي الكردية] فالمشكلة فيك”.
يقطن الكرد ومعظمهم من أهل السنة مقاطعات في محافظات أذربيجان الغربية وكردستان وكرمنشاه وعيلام التي شهدت احتجاجات وتظاهرات دامية، وقدموا هم والبلوش أكثر من نصف الضحايا خلال الانتفاضة الثورية الأخيرة، فيما لا يشكل الشعبان إلا نحو 20 في المئة من سكان إيران.
الشعب البلوشي
شاهدنا وسمعنا الشعارات والهتافات التالية في إقليم بلوشستان “إيران، أرض الشعوب” و”يصرخ كل شعب: سلطة وطنية ومساواة” و”الحرية والمساواة للكرد والبلوش والأذريين” و”السلطة الوطنية حق الشعب البلوشي” و”اللغة البلوشية هي هوية الشعب البلوشي” و”التعليم بلغة الأم حق الطفل البلوشي” و”الثقافة والفن البلوشيان هما هوية الشعب البلوشي”.
ورفع العلم البلوشي في إحدى صلوات الجمعة في دزاب (زاهدان) عاصمة الإقليم، لكن حل مكانه العلم الإيراني في الأسبوع التالي ويردد بعض المتظاهرين أحياناً هتاف “من زاهدان إلى طهران روحي فداء لإيران”، ويبدو أن هذا وكذلك تصريحات رجل الدين المولوي عبدالحميد إمام مدينة زاهدان يؤكدان انتماء البلوش السنة إلى إيران ورفض الانفصال عنها، وكل هذا يظهر مدى خشية البلوش من توجيه اتهام “الانفصال” إليهم من قبل المركز، كما يشارك البلوش بأعلامهم الوطنية في تظاهرات الإيرانيين في دول المنفى، لكن ليس بمستوى الأكراد.
الشعب التركي الأذري
لم يصدح أي شعب بهتاف واضح المعالم في تأكيد ما يريده إلا الشعب التركي في إقليم أذربيجان الإيرانية حيث رددوا في كل تظاهرة خلال الانتفاضة الأخيرة، خصوصاً بمدن تبريز وأردبيل وأورمية هتاف “حرية، عدالة، سلطة وطنية”، بل حملوا هذا الشعار على لافتات كبيرة في مدينة تبريز عاصمة إقليم أذربيجان.
وفيما يعزو بعض أتراك إيران هذا الشعار إلى فترة الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به الإقليم (1945-1946) قبل أن يسحقهم الجيش الشاهنشاهي، يعتبره البعض الآخر تعبيراً عن المطالبة بالفيدرالية، وترى فيه فئة ثالثة رغبة الناس في استقلال إقليم أذربيجان عن إيران.
كما ردد المتظاهرون الأتراك هتافات أخرى خاصة بهم تنفي الحكمين الملكي والديني معاً، “أذربيجان يعرف طريقه، لقد نبذ الولاية والسلطنة” و”لا أميل للشيخ والشاه، بل أنا وطني”، وبالطبع الوطني هنا يعني وطني أذربيجاني.
وكذلك سمعنا منهم هتاف “تحيا أذربيجان، فليعمى الحساد” و”أذربيجان لا تنام، ولا يضيع دم آيلار”، وآيلار حقي كانت طالبة في كلية الطب بالجامعة الحرة في تبريز وقتلت خلال أحد الاحتجاجات.
لم تكن مشاركة الأتراك في هذه الثورة مساوية لوزنهم السكاني، وهم لا يقطنون إقليم أذربيجان فقط بل طهران وأقاليم أخرى في إيران، والسبب يعود إلى تحفظاتهم على القوى السياسية المشاركة في الثورة التي يتسم بعضها بالعنصرية ومعاداة الترك والعرب.
الشعب اللوري
لقد شاهدنا اعتزاز الشعب اللوري في كل من خرم آباد، عاصمة إقليم لورستان، وفي مدينة إيذج شمال الأحواز برموزهم القومية، ومنها الأناشيد والهتافات اللورية التي رددها المشيعون على قبر نيكا شاكرمي في خرم آباد التي اعتبروها شهيدتهم، وكذلك في تشييع الطفل كيان بيرفلك وعرض أفلامه قبل قتله من جانب قوات الأمن وهو بالزي اللوري البختياري.
وينقسم البختياريون، وهم الجيران الشماليون للعرب الأحوازيين، إلى فئتين، الأولى قومية متأثرة بالخطاب الفارسي الشوفيني المعادي للعرب، وأخرى قومية ويسارية تعارض هذا الخطاب وتؤكد الهوية الوطنية للبختياريين وتحاول كسب ود جيرانها العرب وهذا ما شاهدناه في تضامنهم في مدينة إيذج مع انتفاضة العطش الأحوازية في يوليو (تموز) 2021.
الشعب الأحوازي
لم يشارك الشعب العربي الأحوازي بكل ثقله في الانتفاضة الأخيرة لأسباب منها أنه لا يرى كل طموحاته في الشعار العام للثورة “المرأة، الحياة، الحرية”، وكذلك يخشى من مشاركة الملكيين والقوميين الفرس المعادين للعرب في هذه الانتفاضة، واحتمال هيمنتهم على الحكم بعد إسقاط النظام الإيراني، لكن وعلى رغم ذلك سقط بعض العرب في مدينة الأحواز ومدن أخرى إثر مشاركتهم في الاحتجاجات.
وشارك الأحوازيون في تظاهرات الجالية الإيرانية في الخارج، خصوصاً في بريطانيا وألمانيا والسويد بأعلامهم وشعاراتهم الخاصة.
وتم تعيين علي أكبر حسيني محراب محافظاً لمحافظة خوزستان (عربستان) وهو كادر استخباراتي وجنرال سابق في الحرس الثوري، ولهذا التعيين دلالاته في هذه الظروف السياسية بمنطقة تقطنها غالبية عربية وفيها طبقة عمالية واسعة وثورية.
ويستخدم النظام الإيراني العنف ضد القوميات غير الفارسية أكثر من المناطق الفارسية، وهذا ما شاهدناه في إقليمي كردستان وبلوشستان ومدينة إيذج وقبلها في عربستان.
وتم قبل أيام تعيين محمد كرمي حاكماً عسكرياً لمحافظة سيستان وبلوشستان، وهو جنرال من قوات الحرس الثوري كان قائداً لهذه القوات في منطقة جنوب شرقي إيران، وهذا يؤكد نوعية مواجهة النظام للمناطق غير الفارسية.
المصدر: اندبندنت عربية