منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات من القرن الماضي , نشأت في روسيا طبقة من ” الأغنياء الجدد ” استطاعت بسرعة جمع مليارات الدولارات من طرق متعددة غير مشروعة في معظم الأحوال مستفيدة من مرحلة التحول في الاقتصاد الروسي من الاقتصاد المملوك للدولة إلى اقتصاد السوق . تشكلت تلك الطبقة من كبار موظفي الدولة والقادة الحزبيين والأمنيين ومن بيئتهم العائلية والاجتماعية المقربة . وكمثال لمصادر ثروتهم فقد قام بعضهم بشراء أصول مملوكة للدولة بأبخس الأثمان مثل المصانع والمناجم والمزارع الحكومية ووسائل الانتاج والنقل …الخ .. ثم باع تلك الأصول بأسعار تعادل أضعافا مضاعفة سعر الشراء لشركات أجنبية مهتمة بالسوق الروسية , أو تملك تلك الأصول وقام بتشغيلها مع شركاء مستثمرين من خارج روسيا , وفي ظل الفوضى الاقتصادية والسياسية التي سادت روسيا في عقد التسعينات فيمكن للمرء تصور كل أشكال الاثراء غير المشروع تحت حماية عصابات حلت محل الدولة في كل مكان بما في ذلك تهريب البضائع من الخارج إلى روسيا , ومن روسيا للخارج , وفرض الأتاوات على التجار , والتجارة بالبشر ..الخ .. خلال عهد يلتسن من عام 1991-1999 ازدادت تلك الطبقة نفوذا في السياسة الروسية وأقوى مجموعة من الطبقة الأوليغارشية وهي ” مجموعة المصرفيين السبعة ” كانت تملك بين 50-70% من المال الروسي بين الأعوام 1996 – 2000 أحدث تعاظم نفوذ الطبقة الأوليغارشية الروسية في الدولة ردود فعل في المؤسسة العسكرية الروسية رغم أن الصلات لم تنقطع بين الطرفين , ورغم وجود تبادل في المنافع والمصالح على صعيد الأفراد . وعندما جاء بوتين للسلطة كافح بقوة لتحجيم نفوذ االأوليغارشية الروسية السياسي , كما بذل جهدا للحد من نشاطاتها غير القانونية , لكنه لم يحاول هدم بنية تلك الطبقة , فهو لم يمتلك قط البديل الاقتصادي , كما أنه ليس بعيدا عن نشاطها الاقتصادي والاجتماعي . وبصيغة أخرى فقد أعاد بوتين التوازن للعلاقة بين الدولة الروسية وحاميتها ” المؤسسة العسكرية ” وبين الطبقة الأوليغارشية مستخدما الايديولوجيا القومية , والآثار الايجابية لفرض القانون وتحسين وضع الطبقة الوسطى والفئات المحدودة الدخل . مع ذلك وبعد محاولات تحجيم الأوليغارشية فقد بقيت مهيمنة على اقتصاد روسيا , ففي عام 2013 نشر مصرف كريدي – سويس المعني بتقديم الخدمات المالية تقريرا يقول فيه إن 35% من الثروة الروسية تقع بيد 110 من الأفراد , ويظهر ذلك طابع الاقتصاد الروسي اليوم , حيث تقلصت حصة الدولة في الاقتصاد لصالح الأوليغارشية الروسية . تصف المصادر الغربية الأوليغارشية الروسية بضعف الثقافة , فهم لايحبون القراءة , ولا العروض الموسيقية والمسرحية , وأفضل ما يباهون به هو امتلاك اليخوت الفارهة . أما أرصدتهم البنكية فيحبون ايداعها بالمصارف الأجنبية , أو شراء أصول في لندن وأسبانيا كالعقارات والأندية الرياضية . ويعيش أبناءهم وعائلاتهم معظم الوقت في بريطانيا وفرنسا وسويسرا وأمريكا , وهناك يتلقون التعليم في المدارس والجامعات . وقد شاهدنا كيف صرخت الصحفية الأوكرانية في اللقاء الصحفي مع رئيس الوزراء البريطاني جونسون ” أبناء بوتين يعيشون خارج روسيا ” . الطبقة الأوليغارشية الروسية مندمجة مع العولمة إلى حد كبير , وعلى الأغلب لا تروقها السياسات القومية لبوتين , لكنها الطرف الأضعف في السياسة , وما يفعله بوتين في بعث الروح القومية وتصعيدها , ومداعبة الحلم الروسي الامبراطوري , مخصص في أحد الوجوه للتغلب على نفوذ الطبقة الأوليغارشية ومنعها من الوصول للسلطة السياسية . تشكل الحرب في أوكرانيا فرصة لتلك الطبقة للقفز نحو السلطة حال فشل بوتين , كما تشكل فرصة لبوتين لتكريس سلطته كبطل قومي إذا استطاع أن ينجح في حربه الأوكرانية . فمعركة أوكرانيا ستقرر فيما إذا كان للقوميات التوسعية فرصة تاريخية للعودة على حساب العولمة أم أن العولمة أصبحت قدراً لامفر منه , ومايقوم به بوتين ليس سوى محاولة يائسة لاعادة عجلة التاريخ للوراء.