تستحق ردة الفعل السورية إزاء تطورات ملف تطبيع العلاقات التركية مع نظام الأسد التوقف عندها، وخصوصاً بعد الاجتماع الثلاثي لوزراء دفاع روسيا وتركيا ونظام الأسد في موسكو وما تمخض عنه من أفكار ومبادرات. ففي الجانب الأهم، كانت تأكيداً على أن السوريين وبعد كل ما أصابهم من ويلات وكوارث ارتكبها النظام، وقد أكدت شعارات مظاهرات السوريين في مناطق السيطرة التركية في شمال غربي سوريا، وهتافات المشاركين فيها، أنهم ضد المصالحة مع النظام.
مظاهرات السوريين السلمية بشعاراتها حق للقائمين بها، ليس لأحد، أن يناقش فيه، بل إنه ربما كانت خطوة مطلوبة بعد صمت الأموات الذي مارسته القيادات المتربعة على سدة المعارضة السورية من الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات، التي لم تمتنع عن التعقيب على الأحداث والتطورات المحيطة بالملف السوري، بل امتنعت أيضاً عن تحليل ما يحصل وأثره على القضية السورية، وقول ما ينبغي على السوريين أن يفعلوه من أجل تحقيق تقدم في قضيتهم، وما هو مطلوب من أجل تجنب الأسوأ فيما يمكن أن يحصل في الحد الأدنى.
لقد خلقت أجواء مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد بالدعم الروسي، وصمت المعارضة، وتقصيرها عن القيام بما كلفت به نفسها أجواء غضب واسع وعميق، لا سيما وسط أكثر السوريين معاناة في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وعيشهم في الشمال الشرقي الواقعين بين سندان التنظيمات المسلحة وتطرف هيئة تحرير الشام، وتهديدات النظام، والخوف مما يمكن أن تجليه مسيرة تطبيع تركيا مع الأسد، وكلها عوامل، راكمت غضباً عارماً لدى السوريين.
وللحق فإن ما يحتاجه السوريون عموماً وسكان مناطق السيطرة التركية على وجه الخصوص، نهج وجهد، يتجاوز الغضب الذي يسم أغلب الحراك الشعبي السوري في سلوكه وردود فعله، ليس لأن الغضب موجة من أحاسيس، سرعان ما يمكن أن تهدأ ليحل مكانها أحاسيس أخرى بينها اليأس والإحباط، وهو أمر طبيعي.
إضافة إلى أن الغضب لا يعالج المشاكل والقضايا وخصوصاً، إذا كانت مثل القضية السورية، التي أصبحت شديدة التعقيد في وضعها الداخلي وفي علاقاتها الخارجية، وصارت أكثر حاجة إلى مزيد من القدرات والخبرات، التي تديرها عقول حكيمة ونظرات ثاقبة، وأساليب رزينة وهادئة، وكلها تدعو إلى أن يبحث السوريون عن قيادات جديدة للمرحلة المقبلة، يعطونها حداً كبيراً من الثقة، ويصطفون خلفهاً داعمين ومنفذين، ما يجنبهم ما تحمله المرحلة المقبلة من احتمالات، ويفتح آفاقاً لحل سوري أو يضعهم على سكة حل، وثمة مؤشرات كثيرة على نوايا إقليمية ودولية للسير إليه، وإن اختلفت بعض مضامينه أو تفاصيله.
ولا يحتاج إلى تأكيد أن مثل هذا المسار، لا يعالج الغضب الذي لا يوصل إلى نتائج عملية فقط، وإنما يخلق بدلاً عنه خطأ من فعل سوري افتقدوه، والأصح أنهم عجزوا عن توليده طوال السنوات السابقة، وتركوا أنفسهم وقضيتهم أسرى أهواء الغضب والخطوات المرتجلة، والسياسات المرتبكة، والقيادات العاجزة، وتلك الباحثة عن دور أياً كان، وأصحاب الأجندات، فصار السوريون إلى ما هم عليه وفيه.
وإذا عجز السوريون عن الخروج من غضبهم والذهاب إلى مسار عملي في تنظيم أوضاعهم السياسية والإجرائية، فإنهم سيتركون للأطراف الأخرى فرصة التصرف بغيابهم أو بسكوتهم اليائس، وسوف يتوالى في سياق ما سبق مستويان من السياسات: سياسات محلية تنفذها قيادات معارضة، ثبت أنها خارج مهماتها، وسلطات سيطرة الأمر الواقع من نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات والقابضون على السلطة في الشمال الغربي من جماعات مسلحة إلى هيئة تحرير الشام، وسيجد أغلب الجميع (بالرغبة أو تحت الضغط) إن لم نقل كلهم نقاط توافق، يتجنبون الخسارة من خلالها، وفي المستوى الخارجي الإقليمي والدولي وخصوصاً في محور إيران وتركيا تحت إدارة موسكو، سوف يتوالى طرح فرص تقارب المصالح، والتوافق على ما يمكن إنجازه، والعمل على إنضاج ظروف ما صعب التوافق عليه في الفترة المقبلة، وسوف يتطلب إنجاز كل ما سبق ضغوطات ومعارك ومواجهات سياسية وعسكرية، وبعضها سيأخذ شكل حرب من أجل تغيير خرائط الصراع في سوريا وحولها، ولعل أول الحروب وأشدها ستكون في الشمال الغربي، الذي تتعدد القوى فيه، وتشتد التنافسات فيه وعليه وسط غياب قوة موحدة تمثله، وتتولى قيادته.
مواجهات وحروب مناطق الشمال الغربي، سيكون لها ما يماثلها في المنطقتين الأخريين أو حولهما. فالوضع في شرق الفرات سيدخل بوابة تحمية جادة في المستويين الداخلي والخارجي، ورغم أن المستوى الخارجي هو الأهم بسبب الحضور الأميركي المباشر فيه، ما يجعل المواجهات والحروب الحاسمة فيه ضعيفة الفرص، فإن المستوى الداخلي قد يشهد حروباً ومواجهات، تحت تأثير تناقضات قائمة بين أطراف محلية، أكثرها يعادي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ويعارض مشروعها السياسي، ويسعى للخلاص من سيطرتها.
وبطبيعة الحال، فإن مناطق سيطرة نظام الأسد، لن تكون بعيدة عن المواجهات والمعارك السياسية والصدامات المحدودة، التي إن كان من غير المتوقع تحولها إلى حروب، فإنها سوف تؤثر على خرائط القوة السياسية والميدانية. حيث النظام يعيش أكثر أيامه صعوبة من خلال أزماته، فيما تمر علاقاته بفترة حساسة مع إيران وسط مساعي الأخيرة إلى تقنين وجودها، وتشديد قبضتها على الدولة والمجتمع في البلاد، فيما تتجه موسكو نحو تطوير الحضور التركي للحد من التمدد الإيراني والتعويض عن انسحاباتها من سوريا بسبب حربها في أوكرانيا.
لقد ألقت فكرة تطبيع علاقات تركيا مع نظام الأسد حجراً كبيراً في بركة الصراع في سوريا وحولها، فهزت مياهها الساكنة، ودفعت بعض الأطراف المتدخلة والمهتمة بالملف السوري إلى التحرك، ولن يطول الزمن بالآخرين ليتحركوا، ولا شك أن بعض التحركات ستأخذ أشكالاً عنيفة، ما يمهد إلى صراعات ومواجهات، يمكن أن يتحول بعضها إلى حروب تؤدي إلى تغييرات في حجم ووزن قوى الصراع، ويسهم في خلق فرص أفضل للتوصل لحل في سوريا.
وسط التطورات الممكنة والمحتملة في الملف السوري، فإن كل قوى الصراع الداخلي والخارجي حاضرة بقواها وأجهزتها وعلاقاتها، الغائب الوحيد عن الخريطة وتفاعلاتها هو الشعب السوري صاحب القضية وموضوعها، والذي بات بحاجة إلى ممثل فاعل ومتفاعل، قادر على أن يكون حاضراً بين الحضور في التعبير عن مصالح وطموحات السوريين لتوفير الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، ويضع حداً للتدخلات الخارجية في سوريا، وهذا ينبغي أن يكون شاغل السوريين، وليس الغضب وتوسيع دائرة الخصوم والأعداء.
المصدر: الشرق الأوسط