عمّت مناطق في شمال وجنوب سوريا مظاهرات مهمة، استنكاراً للاجتماع الثلاثي لوزراء دفاع روسيا وتركيا والأسد، مع قادة المخابرات في موسكو مؤخراً، على الرغم من تصريح جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي بأنه ليس هنالك من ردّ فعل للمعارضة السورية – ويقصد الرسمية منها المُمثَّلة بالائتلاف – على الاجتماع والمسار الذي يعبّر عنه.
صدر بيان لافت أيضاً عن مجلس سوريا الديمقراطية «مسد» في شمال شرق سوريا يقول بعد التنديد باللقاء، إن المجلس ينظر «بعين الشك والريبة إلى الاجتماع بين وزيري دفاع الحكومة التركية والسورية، وبرعاية روسية»، ويعتبره خطوة باتّجاه «انتخابات حكومة العدالة والتنمية، وقرباناً لتأبيد سلطة الاستبداد في دمشق». في تعبيرات قوية تشيد بالثورة السورية في آذار/مارس 2011 ضد «سلطة الاستبداد في دمشق»، مع دعوة إلى توحيد قوى المعارضة في وجه الاستبداد و»بائعي الدم السوري».
كان مثيراً أيضاً وجود لافتات في تظاهرات شمال غرب البلاد، تقول بما معناه: نحن لا نريد صلحاً مع الأسد، بعد أن صار كلّ الذي صار.. إذا أردت المصالحة، اذهب وصالح الكرد! ورغم» تمنّع» النظام السوري – وهو الراغب- عن تلبية الغزل التركي المتصاعد في الأشهر الأخيرة الفاصلة عن اللقاء الأخير، رفضاً كما قال، لأن يكون مساهماً في حملة حزب العدالة والتنمية الانتخابية؛ إلا أنه لم يستمرّ في تمنّعه حين آن الأوان. واعتبر بيانه أن الاجتماع كان بين الطرفين السوري والتركي «بمشاركة روسية» وأنه جرى بحث جهود محاربة الإرهاب والأوضاع في سوريا ومسألة اللاجئين، وكان اللقاء إيجابياً». وليس هنالك أيّ شك في وجود زغرودة في صدر نظام الأسد مع تلك الخطوة الجديدة، لأن يدرك حجم أزمته وعمقها، وكونه ازداد ضعفاً وتهافتاً خلال العام الأخير بشكل دراماتيكي.
إلّا أنه رغم ذلك، كان الرئيس التركي قد استبق ما جرى بالإشارة إلى المكان المستهدف بهذه اللقاءات المتصاعدة، حين ذكر في 12/12 مؤخّراً، أنه «عرض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فكرة عقد اجتماع ثلاثي مع الرئيس السوري بشار الأسد، لافتا إلى أن بوتين رحب بالفكرة»، أي أنه يمكن اعتبار المبادر الرئيس والأوّل لهذا المسار هو الجانب التركي؛ كما يمكن التأكّد من نوع الخاتمة «السعيدة» لهذه اللقاءات، التي ستمرّ لاحقاً على لقاء بين وزراء الخارجية، وتُتَوّج بلقاء الرؤساء، خلال الأشهر الستة المقبلة، التي تفصل الأتراك عن انتخاباتهم المزدوجة. وفي تقرير قناة «خبر تورك» عن اللقاء، نقلت عن مصادر خاصة، أن الاجتماع «بحث 4 عناوين رئيسية، هي: العودة الآمنة والكريمة للاجئين (؟)، وإعادة العقارات لأصحابها حين عودتهم (؟)، وضمان محاكمات عادلة (؟)، إلى جانب استكمال التعديلات لإجراء انتخابات حرة ونزيهة (؟؟)». وأشارت القناة في الخاتمة إلى وجود قوات تركية على الأرض السورية، وإلى عزم تركيا «على تطهير المناطق المحاذية لحدودها من التنظيمات الإرهابية». هنا يمكن تأكيد ما هو مؤكد، من أن الهدف التركي المباشرة وإبعاد «قسد» من شمال شرق سوريا إلى أبعد ما يمكن جنوباً، لما يشكله ذلك من «خطر على أمنها القومي».. مع استنتاج آخر قد يكون الأكثر تأثيراً، هو ارتباط هذا المسار بالانتخابات المقبلة المزدوجة في منتصف العام الجديد، التي يكثر الحديث عن غموض آثارها على حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان. يكمن الهدف الروسي أيضاً – ومن غير لبس- في تدعيم الموقف الروسي في سياق الحرب على أوكرانيا وتطوراتها الداهمة شيئاً فشيئاً: هنا يمكن تحقيق المزيد من الارتباط مع تركيا، الضرورية بشكل حاسم في سياق تلك الحرب؛ ولا بأس أيضاً ببعض التدعيم لسلطة الأسد على الخطّ الروسي؛ ولا بأس أبداً بتهديد أكبر للمصالح الأمريكية واستفزازها بشكل غير مباشر، كما يحسبون. وباختصار، تشعر القيادة الروسية باقتراب لحظة الحقيقة في أوكرانيا، والفشل النسبي الذي ستخرج به، وهي تريد التعويض مسبقاً بتأمين نجاح نسبي في سوريا، لو استطاعت! وباعتبار أن مصير الأسد ونظامه قد أصبح محسوماً، كما يتكرّر في معظم التقارير والدراسات، فكلّ قشّة مرحّب بها من قبله يتعلّق بها، وسوف تساعده على الهروب المؤقت إلى الأمام. يُظهر صدور القوانين والتوجّهات المختلفة، أن الولايات المتحدة تريد إغلاق نهاية الطريق على الأسد ونظامه، من دون أن تتدخّل بقوة في المراحل الوسيطة، التي قد لا تكون قريبة الأفق على الإطلاق.
ليس هنالك وقت كافٍ لتخطيط محكم يساعد الحكومة التركية على تجاوز أزماتها قبل يونيو المقبل، وليس مضموناً أساساً أن تتمكّن الأطراف الثلاثة المعنية من حلحلة الموقف الأمريكي أو ضمان تغييره. ليس مضموناً أيضاً ألّا تكون تلك المعركة مخيّبة للآمال عسكرياً وسياسياً. كما أن هذا التوجّه في شمال وشرق سوريا ربّما لن يساعد بوتين في حفرته الأوكرانية، التي لا يبدو أن الغرب- الأقصى عبر الأطلسي وليس الأوروبي القريب – يريد له الخروج منها، قبل أن تتهلهل قواه ويأخذ درساً يستفيد منه في المستقبل. أما الأسد ونظامه الذي يتهاوى بسرعة مؤخّراً، ويعجز حتى عن تأمين قوت شعبه، فيكاد منظره يبدو مضحكاً في المشهد، لولا أن مأساة خانقة ومستحيلة تعصف به وبالسوريين تحت قبضته، حيث يسود… نظرياً. يبقى أن هناك فاعلين كبيرين في الشرق الأوسط، لا يثقان كثيراً بما حدث في موسكو وما سيحدث بعده، هما إيران وإسرائيل: الأولى، هنالك مأزق مهم عاشته سلطة الحرس الثوري مع انتفاضة النساء الإيرانيات غضباً لقتل المخابرات للفتاة مهسا أميني تحت التعذيب، بسبب حجابها. تصاعدت هذه الانتفاضة وشملت مناطق مختلفة لها مشكلات متنوعة مع النظام، وتصاعد القمع الحديدي وقتل المتظاهرين شنقاً بعد محاكمات صورية. وإذ ابتدأت تتكاثر التطورات التي تهمل العامل الإيراني مؤخّراً، فليس مضموناً المدى الذي يمكن أن تصل إليه توتّرات نظام من أهم سماته العصابية تحت التوتّر. يرى عديد من المراقبين أن اجتماعات موسكو تخفي استبعادها لإيران رغم تمويهه، من قبل روسيا وتركيا على الأقل. الثانية – إسرائيل- نالت حكومة نتنياهو الجديدة الثقة، وفي ساعتها ابتدأت طبول الحرب بتصريحات نتنياهو حول الاستيطان كأولوية لحكومته. سوف يقود التطرف اليميني والديني إلى تطرّف مقابل آخر، يحمل سمات يائسة غير محدّدة المعالم، من خلال استفزاز فلسطينيي المناطق المحتلة في عام 1967، وفلسطينيي إسرائيل الذين يشكلون خمس تعداد سكانها على الأقل. عند ذلك ستحاول الحكومة الإسرائيلية أيضاً الهرب إلى الخارج ومحاولة فرض برامجها الإقليمية في القوس الذي يشكّله لبنان سوريا والعراق وإيران. في السياق نفسه والبؤرة ذاتها، سوف يصل المزيد من الطلائع الصينية، وتتشكّل معادلات جديدة أكثر حداثة، تفرض إيقاعاً مختلفاً على التطوّرات، وتغييراً في مجمل العوامل والقوى الفاعلة وموازينها الخاصة. أمّا الانتخابات التركية والحرب الأوكرانية، فسوف تنتهيان غالباً إلى نتائج غير سارة لأصحابها، ولن يكون هنالك انتصار حاسم واضح واستراتيجي فيهما كليهما، في حالة وسمات السلطتين المعنيتين، سيكون نوعاً من الخسارة غير مضمون العواقب. نعم، ليس في الأفق ما هو مريح بالفعل، ربّما إلّا تناهي الوباء عن ظهور الناس، الأشدّ فقراً بينهم بالتحديد.
وكلّ عام وأنتم بخير… ما كان منه ممكنا!
المصدر: القدس العربي