صدر عن دار موزاييك رواية كأنّك كنت هناك – قصة من الثورة السورية – للكاتبة السورية المنتمية للثورة يارا جلال. هذا أول عمل روائي اقرؤه لها.
كأنّك كنت هناك… رواية تعتمد لغة المتكلم في السرد على لسان دارين الشخصية المحورية فيها. دارين ابنة الغوطة الشرقية التي تتحدث عن وصول خبر استشهاد زوجها مهند في معتقلات النظام السوري المستبد المجرم، او على يد قوى اخرى محسوبة على الثورة… وذلك بعد اعتقاله أثناء قيامه بمتابعة نشاط الثورة السورية التي قامت في ربيع ٢٠١١م، عبر كاميرته وتقاريره الصحفية التي تفضح النظام وأفعاله الاجرامية بحق السوريين في بلدات الغوطة الثائرة، هذا الاعتقال الذي دام لسنوات وانتهى بخبر قتله داخل المعتقل…
تبدأ الرواية بعد مضي أربعين يوما على وصول خبر استشهاد مهند الى زوجته دارين، وهي تفتقده وتحزن عليه وتتذكر حياتها معه وعلاقتهما مع بعض منذ لحظة التعارف حتى وصول خبر استشهاده، متابعة سنوات حياتهما المشتركة التي دامت لسنوات.
تعرّفت دارين على مهند في جامعة دمشق حيث التقت به ضمن نشاطات طلاب معارضين للنظام الذين بدؤوا يخططون لثورة على نمط الثورة في تونس ومصر مطلع عام ٢٠١٢م، شاركت دارين وصديقتها المقربة كاتيا في تلك النشاطات. اعجبت بمهند وقررت التقرب منه، كان نموذج فارسها المستقبلي، الذي تتمنى ان تتعايش معه وتكون اسرة معه وتنجب الأطفال وتعيش في حياة ملؤها الحب والوئام، كما تحلم كل فتاة. لذلك خططت مع صديقتها كاتيا لخلق فرصة لقاء به وحصل ذلك، تكررت اللقاءات وحصل التناغم النفسي والعاطفي بينهم، ورويدا رويدا صرّح لها مهند عن حبه لها وهي كذلك تجاوبت معه. صارت علاقتهم أوثق وبدأوا يخططون للزواج. في ذات الوقت بدأت التظاهرات تحصل وتنتشر في كل أرجاء سوريا، وكان مهند من قادة النشاط في بلدته داخل الغوطة، كان يخطط وينسّق للتظاهرات، ويصورها ويحملها على الانترنت ويرسلها الى القنوات الفضائية ليعرف العالم بثورة السوريين، ويعرف رد فعل النظام العنفي الوحشي بحق الشعب السوري. كانت دارين بجوار مهند كل الوقت، حتى انهم تزوجوا في هذه الظروف القاسية، حيث كان النظام قد انتقل للقصف والتدمير واجتياج البلدات والأحياء الثائرة.
كان مهند يتابع مع بعض الناشطين الآخرين تصوير ونشر ما يحصل، واضعا نفسه ومن معه من الناشطين مثل صديقه سعيد، تحت الخطر، خطر القنص والاعتقال والقتل تحت القصف، لكنه استمر يقوم بدوره كل الوقت. وفي احدى الغارات على البلدة الثائرة في الغوطة التي يُعتقد أنها دوما خرج مهند وسعيد لمتابعة تصوير ماحصل ولم يعودا. كان لغياب مهند مع صديقه وعدم معرفة مصيرهم وقعا مؤلما جدا على دارين، خافت ان كان اختطفوا او اعتقلوا، ولم تعرف عنهم اي شيء، وبقيت تنتظر مجيئ مهند أو وصول اي خبر عنه. استمر ذلك لسنوات. كان قد مر خلالها على سوريا والغوطة الكثير. استشرس النظام في قمع الثورة وبدأ الحراك السلمي ينتقل الى العمل المسلح، الذي لم يكن مضبوطا ولا يخضع لارادة الشارع الشعبي الثائر بمقدار خضوعه الشللي للمانح و لبعض التوجهات العقائدية الدينية المتزمتة التي انعكست بالسوء على واقع الشارع الثائر، هذا اضافة لظهور الوجه الطائفي للنظام، واستدعاء ميليشيات حزب الله والأفغان الطائفيين كذلك الدعم الإيراني الروسي للنظام بالمال والسلاح والمقاتلين…
لقد تحررت البلدات الثائرة في الغوطة وكثير من البلدات السورية من النظام المجرم. الذي حمّل مسؤولية اخرى على الناس وهو ادارة حياتهم العامة، وتأمين حاجاتهم الحياتية وتنظيم علاقتهم، التي استولت عليها المجموعات المسلحة المحسوبة على الثورة بكل عيوبها وعدم كفايتها ودرايتها.
أضيف الى واقع المناطق المحررة الداخلي المضطرب، حصار خانق من قبل النظام وحلفائه، الذي وصل الى مرحلة موت الناس جوعا، وأكل الأعشاب ، فوق ذلك قصف وتدمير وبراميل متفجرة ضمن سياسة الأرض المحروقة، كانت سياسة النظام قائمة على قتل الثائرين واهلهم، حاضنتهم الشعبية وتدمير بلداتهم. المهم ان تنتهي الثورة بأي ثمن. لم يتورع النظام عن القصف على الغوطة بالسلاح الكيماوي المحرم دوليا والذي ادى لمقتل حوالي الألف وخمسمائة شهيد من النساء والأطفال والشيوخ، تحت نظر العالم وصمته وعاره. استمر النظام واجرامه وحرب الابادة على الناس بدعم روسي إيراني يضاف اليها الحصار الخانق القاتل للناس الثائرين جميعا. في ذات الوقت تم اختطاف مهند وسعيد. استمرت دارين صابرة على امل ان يعود اليها يوما زوجها وحبيبها وأملها مهند. ولكنه لم يأتي وزادت ظروف الغوطة سوءا تحت الحصار والتدمير والتجويع والقصف والقتل اليومي، مما جعل الناس تتقبل فكرة الخروج من بلداتهم إلى إدلب في الشمال السوري المحرر…
خرجت دارين مع اهل البلدة تاركين وراءهم روحهم التي تبحث عن جذورها في بلادهم التي يريدونها محررة. التحقت بأهلها الذين سبقوها إلى الشمال السوري ومن هناك إلى تركيا حيث تعيش والدتها واقربائها. وصلت دارين الى ادلب، استقبلتهم الخيام والحياة الضنك والفقر والحاجة والتشرد الذي طبع نفسه على حياة الكل…
كان واقع دارين افضل من واقع غيرها، فقد ذهبت الى عائلة من معارفهم في إدلب كانوا قد سكنوا عندهم قبل عقود عندما كان يعمل والدها هناك. استقبلوها مثل ابنتهم وهي عملت في التدريس وساعدتهم وبقيت على تواصل مع امها في تركيا. لم تشأ أن تغادر سوريا لعل مهند يعود وتلتقي به لتعود لها روحها و تحقق كل أحلامها وآمالها… خرجت قصص المعتقلين وسجون القتل وصور قيصر، بحثت بهم كثيرا، ولم تعثر على اثر لمهند حتى جاءها خبر اختطاف مهند وسعيد من أحدهم، أخبر دارين ان المختطفين هم فصيل إسلامي كان يعمل في دوما، وقد يكونوا قتلوه، ولم يتأكد الخبر لها أكثر من ذلك. خاصة ان مهند مطلوب من النظام واجهزته الامنية ومن القوى المتحكمة على البلدات الثائرة، لذلك لم يتم التأكد حول هوية من قتله…
تنتهي الرواية الشهادة ودارين تعمل مدرسة في إدلب وتعيش على ذكرى زوجها وحبيبها مهند، وعلى امل بانتصار الثورة السورية وعودة الناس المقتلعين من بلداتهم وبيوتهم إلى بلادهم معززين مكرمين منتصرين…
في التعقيب على الرواية اقول:
نحن أمام رواية اخرى للثورة السورية تنطلق من واقع حال الثورة السورية منذ بداياتها وبعد مضي سنوات عليها. الثورة التي تستمد شرعيتها من المظلومية المجتمعية الواقعة على الشعب السوري. ظلم النظام واستبداده و بطشه وقمعه وفساده وطائفيته ، كل ذلك دفع الناس للقيام بالثورة لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الأفضل، ثورة تستمد زخمها من نضال السوريين منذ معقود بما فيها محاولة الثورة في الثمانينات والتي راح ضحيتها عشرات الالاف من الضحايا…
لم يغب عن الرواية البعد النسوي الذي يمثل حجر أساس عند اغلب الروائيات السوريات، وان المظلومية المجتمعية تنعكس على المرأة في واقع ظلم ذكوري مجتمعي يجب أن نتجاوزه وان نتخلص منه.