مرتكزات العدالة الانتقالية في سورية بعد التغيير (*) (3 – 3)

د- عبدالله تركماني

إنّ نجاح العدالة الانتقالية في تحقيق الأهداف المتوخاة منها يظل متوقفًا على توافر مجموعة من الشروط (1):

  • توفر الإرادة السياسية الحقيقية لطي صفحات الماضي ومنع تكرارها في المستقبل، ووجود رغبة صادقة للانتقال نحو الديمقراطية.
  • اختيار اللحظة الملائمة لتنفيذ تدابير العدالة الانتقالية.
  • تحديد المشكلات التي تسببت في الصراع والخلاف، ووضع خطة استراتيجية للتعاطي مع انتهاكات الماضي عبر تدابير متدرجة ومحددة زمنيًا.
  • إيقاف جميع مظاهر العنف، وتجاوز عناصر الخلاف والصراع والتخوين، والتركيز على المشترك والمصالح العليا للوطن.
  • بلورة تحالفات وتوافقات تدعم اعتماد العدالة الانتقالية ومقاومة الاتجاهات الراغبة في بقاء الأمور كما هي عليه.
  • الحرص على استقلالية الهيئة المعنية بالعدالة الانتقالية، بعيدًا عن أي اعتبارات حزبية أو سياسية أو عرقية أو أيديولوجية، والعمل على تمكينها من الصلاحيات والإمكانات البشرية والمادية والتقنية اللازمة لمباشرة أعمالها على أحسن وجه.
  • الانفتاح على مختلف الكفاءات الوطنية، من سياسيين ومثقفين وخبراء أكاديميين وحقوقيين، داخل الهيئات المعنية بالعدالة الانتقالية.
  • الحرص على استحضار الضحايا في جميع مراحل العدالة الانتقالية.
  • ترسيخ ثقافة التسامح والمصالحة ونبذ العنف والانتقام، وتوعية المجتمع بأهمية العدالة الانتقالية، وانخراط الإعلام والأحزاب السياسية والنخب المثقفة وفاعليات المجتمع المدني في هذا الصدد.
  • استحضار التجارب الدولية الرائدة في هذا الشأن.
  • التزام الدولة بمتابعة التوصيات التي خلصت إليها الهيئات المعنية بالعدالة الانتقالية، والعمل على ترجمتها ميدانيًا.

وقد التزم مشروع اليوم التالي في تطويره للأهداف الكلية للعدالة الانتقالية بثلاثة مبادئ (2): أولها، تعددية الآليات، لتهيئة العملية لتتناسب مع السياق السوري: محاكمة من كان مسؤولًا عن الجرائم، وتقصّي الحقائق، والتعويضات، والمشاورات الوطنية، وتخليد الذكرى، والإجراءات التأهيلية التي من ضمنها الدعم النفسي والاجتماعي. وثانيها، التمشّي مع المعايير والأعراف الدولية، التي تتناسب مع ثقافة البلد، وينبغي أن تؤخذ النتائج السياسية لتلك الخيارات بعين الاعتبار، في كل مرحلة من مراحل العملية، المحافظة على المرونة والتفاعل مع سياق الأحداث وتغيّرها. وثالثها، المدى القصير والمدى البعيد، فمن ناحية لا بدَّ أن تفي العدالة الانتقالية بالمطالب العاجلة في موضوع المساءلة الفورية، وتساعد على استرداد سيادة القانون، وتقرر بوضوح القطيعة مع النظام السابق. ومن ناحية أخرى، فإنّ تعافي الضحايا واسترداد ثقة المواطنين وإصلاح المجتمع، تتم كلها عبر فترة ممتدة من الزمن.

 سادسًا: كيفيات تطبيق آليات العدالة الانتقالية في سورية المستقبل

تعترض المرحلة الانتقالية، التي تمتد بين سقوط نظام آل الأسد الاستبدادي والتأسيس للدولة الديمقراطية، تحديات كثيرة تتمثل بالتنازع على مصير النظام المندثر وكيفية محاسبة رجالاته، خاصة أولئك الذين لطّخوا أياديهم بدماء الشعب السوري وأفسدوا بالمال العام، وعلى الحلول المباشرة الواجبة لتأمين حاجات المجتمع وأمنه. وتكتنف تلك المرحلة مهمات متنوعة، كصياغة دستور جديد وتشريعات تضمن حقوق الإنسان والمواطنة وقضاءً مستقلًا وإعلامًا حرًا وتنمية متكاملة ومؤسسات نزيهة لضمان الأمن. وأكثر ما يهددها هو العمى الأيديولوجي لدى البعض والتعصب الفئوي لدى البعض الآخر، اللذان ينذران بنشوء بؤر متفجرة للنزاعات الطائفية أو المذهبية أو القومية، ما يفسح في المجال أمام تصاعد العنف وإسقاط مشروع الانتقال الديمقراطي برمته في أتون الفوضى والصراع الأهلي.

إنّ هدف ومنهجية مؤسسات العدالة الانتقالية في سورية المستقبل هو السعي إلى بلوغ العدالة، خلال مرحلة الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الديمقراطية، ومعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، ومساعدة الشعب السوري على الانتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف، وذلك من خلال توخّي القضاء هدفًا مزدوجًا: المحاسبة على جرائم الماضي، ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع، وفق استراتيجية تعتمد إعادة بناء وطن للمستقبل يتسع لجميع مكوّنات الشعب السوري، قوامه احترام حقوق الإنسان والآليات الديمقراطية وسيادة القانون. ومن هنا تأتي أهمية بناء مؤسسات العدالة الانتقالية لمعالجة كل مخلّفات الماضي، باعتبارها إحدى الوصفات العلاجية لكيفية التعامل مع مخلّفات السلطة المستبدة.

وتتنوع أشكال هذه العدالة بحسب الخلفيات التي تحددها والأهداف المتوخاة منها، وعادة ما تتركز آلياتها في إحداث لجان لتقصّي الحقائق بصدد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشفها بتفصيل أمام الرأي العام، أو من خلال المقاربة القضائية ومحاكمة الجناة أمام القضاء المحلي أو الدولي، أو عبر تقديم تعويضات مادية (أموال وخدمات اجتماعية وتربوية ونفسية وصحية..) ومعنوية (تقديم اعتذار رسمي للضحايا وحفظ الذاكرة..)، وجبر الضرر للضحايا عمّا لحق بهم من مآسٍ ومعاناة، أو بإعمال إصلاحات تسمح بتعزيز دولة المؤسسات، وترسيخ سيادة القانون وتجاوز سلبيات الماضي وإكراهاته.

ويمكن الحديث هنا عن مسألة العفو ودوره في إرساء المصالحة الوطنية، وليس لتغييب العدالة. إذ إنّ استخدام هذا الطريق ضروري ولكن لا يمكن أن يكون عامًّا، بل محدودًا وخاصًا، يستعمل بشكل دقيق لإغلاق ملفات تم إنهاؤها وتمت المصالحات في شأنها، وليس عفا الله عمّا مضى.

لقد توصلت العديد من المجموعات البحثية العاملة في هذا المجال إلى تحديد أبرز الخطوات، التي يُنصح باتباعها مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حالة في المسائل التفصيلية والإجرائية، حيث يجب أن تؤمّن الملفات والمستندات الموجودة لدى الجهات القضائية والأمنية، كي تكون مصدرًا مساعدًا في عملية بناء الآليات للانطلاق في العمل. ومن غير المستحسن أن يكون هذا العمل لاحقًا لسقوط سلطة الاستبداد، بل يجب أن يتم السعي إلى البدء في التحضير له بشكل مسبق.

إنّ مرحلة التحوّل الديمقراطي في سورية قد تطول أو تقصر، تبعًا لحجم المشكلات والصعوبات ولنوعية المعوّقات السياسية التي تعترضها، والناتجة عن الآثار السلبية لنظام الاستبداد طوال خمسة عقود، وبخصوصية المجتمع السوري وتنوّع مكوّناته ودرجة تطوره الاقتصادي والثقافي، والأهم مدى تبلور البديل السياسي ونضجه. وكلما كانت هذه المشكلات واضحة وتمت معرفة أسبابها وملابساتها، كلما كانت القدرة على تجاوزها أسهل، ونجحت قوى التغيير في خلق تفاهم وطني عريض وإحباط الألغام الأيديولوجية التي خلّفها تباين الخيارات السياسية والفكرية، وتجاوز سوء الفهم والتنافس المَرَضي بين الجماعات والأشخاص، كلما كانت التكلفة أقل.

وهكذا، في سياق المرحلة الانتقالية ستشغلنا أسئلة كثيرة وحاسمة في سورية، من أهمها: ما نوعية الجرائم والانتهاكات التي يجب المساءلة عليها؟ ثم ما هي مستويات المسؤولية؟ وما نوعية المسؤولية: هل هي جنائية أم مدنية؟ وما الفترات الزمنية التي تحتاجها عملية المساءلة والمحاسبة؟

بداية، الحل هو إسقاط نظام الاستبداد القائم، بنية وسلوكًا، مع ” الحرص على مؤسسات الدولة والممتلكات العامة، وقطع الطريق على أي شكل من أشكال الطائفية ونزعات الانتقام الغرائزية، ومماهاة السلطة الديكتاتورية الفاسدة بقطاعات طائفية بعينها. هذه مهام أساسية في المرحلة الانتقالية، إلى جانب المباشرة ببناء منظومة جديدة، سياسية وقانونية، تكفل للمواطنين جميعًا، بمن فيهم أنصار النظام البائد ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب السوري والأموال العامة، حقوقهم في دولة قانون ومؤسسات وحريات ” (3).

وتعتمد العدالة الانتقالية على مجموعة آليات (4): منها آليات قضائية لملاحقة مرتكبي الجرائم الخطرة ومحاكمتهم، لأنهم يتحملون مسؤولية جنائية شخصية/فردية عن أفعالهم الإجرامية، وآليات غير قضائية داعمة للآليات القضائية ومكملة لها، كلجان الحقيقة والمصالحة، لجان تقصّي الحقائق، جبر الضرر و/أو تعويض الضحايا، إصلاح المؤسسات، إحياء ذكرى الضحايا وغيرها.

ويمكن تقسيم عمل مؤسسة العدالة الانتقالية إلى خمسة محاور (5):

1 – صندوق لتعويض الأذى الجسدي والمادي للمواطنين المتضررين.

2 – إنشاء محاكم خاصة مستقلة عن القضاء العادي، محكمة في دمشق للقضايا الكبرى، ومحاكم فرعية في كل المحافظات للنظر بالجرائم المرتكبة خلال الأحداث. ويجب أن يكون قضاة هذه المحاكم من القضاة المشهود لهم بالنزاهة والحيادية والاستقلال.

3 – تشكيل لجان السلم الأهلي والمصالحة الوطنية، تضم شخصيات ثقافية وعلمية وقانونية وفنية ودينية واجتماعية ذات احترام، للتوجه إلى المناطق التي شهدت نزاعات أو إشكالات دينية أو طائفية أو قومية، لتهدئة النفوس وإرساء الصلح وتبديد الشكوك وإعادة الثقة بين مكوّنات المجتمع، وتكون من مهماتها أيضًا المساهمة في الكشف عن المفقودين والمختطفين والمعتقلين وإعادتهم لأهلهم. كما العمل على إقامة لجان وجمعيات للدعم والعلاج النفسي لضحايا الانتهاكات.

4 – تشكيل مكاتب إعلامية، مهمتها القيام بحملة شاملة لشرح مفهوم العدالة الانتقالية ووسائلها ودورها، يديرها مختصون قانونيون واجتماعيون، وتساعدهم لجان من الشباب المتطوعين، يجري تدريبهم لإيصال فكرة العدالة الانتقالية إلى كل المواطنين ومساعدتهم للتفاعل مع هيئاتها والثقة بها وتقديم طلباتهم إليها ومتابعتها.

5 – إنشاء مكتب تخليد الذكرى، ومهمته توثيق الأحداث التي مرت وتوضيحها وتأريخها، بما في ذلك تخليد أسماء الضحايا الذين قضوا، عبر النُصُب التذكارية أو إطلاق أسمائهم على المدارس والأماكن والساحات في المواقع الجغرافية التي سقطوا فيها، وإدخال هذه المعلومات في كتب التاريخ، حتى يكون ما مرَّ على البلاد درسًا يستفيد الجميع منه ويشكل عبرة للأجيال المقبلة.

إنّ تشكيل لجنة وطنية للحقيقة والعدالة، ضمن إطار عملية العدالة الانتقالية، سيكون لمنظمات المجتمع المدني دور أساسي فيها، لما تنطوي عليه من أبعاد مستقبلية (6): تشكيل لجان التوثيق والتدقيق، وتدريب الكوادر المتخصصة في قضايا التوثيق، وتفعيل الحوار المجتمعي في سورية حول حقوق الإنسان، وكشف حقيقة الانتهاكات في الماضي، وتبنّي ودعم برامج للتنمية السياسية والاجتماعية والثقافية لصالح مدن وجماعات ومناطق معينة لحقت بها انتهاكات جسيمة.

وتتلخص مهمات لجان العدالة الانتقالية في تخصصين أساسيين (7): أولهما، نوعي مرتبط بكشف ومعالجة الانتهاكات المرتكبة، من خطف واعتقالات تعسفية وقتل وتعذيب. وثانيهما، زمني متصل بالفترة التي ستنكب اللجنة على مقاربة الملفات المطروحة. أما مرجعياتها فهي ” تتنوع بين القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وأحكام وقرارات المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان، والاجتهادات الفقهية لمختلف المقررين والخبراء في مجال حقوق الإنسان، وخلاصات ونتائج أعمال لجان الحقيقة والمصالحة عبر العالم، والمقتضيات القانونية الوطنية غير المتعارضة مع القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني “.

 ويتعين على السوريين الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى، التي مرت بأحوال مشابهة واختارت طريق العدالة الانتقالية لتحقيق المصالحة (8): قبل كل شيء، يجب أن يكون هناك إجماع سياسي على ضرورة تحقيق عملية عدالة انتقالية. كما ينبغي عدم توقّع نتائج سريعة للعملية، بل يجب إعطاء الوقت الكافي لبلوغ الأهداف والنتائج المرجوة، ما يتطلب تمكين المؤسسات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني من أداء دور رئيسي وفاعل في وضع استراتيجية للعدالة الانتقالية تأخذ في الحسبان واقع سورية. كما سيكون من المفيد الاستعانة ببعثة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة، وبمحكمة الجنايات الدولية، لضمان محاكمة عادلة لكل شخص يثبت ضلوعه في ارتكاب جرائم شديدة الخطر (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية).

إنّ عملية الانتقال الديمقراطي في سورية المستقبل ليست جوابًا على وضعية سياسية فقط، بل هي جواب عن وضعية مركّبة مظهرها الأمثل التمزق الاجتماعي، المتمثل في تخريب العلاقات الإنسانية التي تقوم على التواصل بين الأفراد والهيئات والمكوّنات القومية والدينية والمذهبية. وفي هذا السياق يأتي دور الهيئات المدنية التي تعدُّ الإطار الأكثر تأهيلًا لتبنّي خيار فتح الحوار الوطني في القضايا التي تهم الشأن العام. الأمر الذي يحتاج إلى مشروع قانوني متكامل وهيكليات قانونية، وصولًا إلى تحقيق العدالة المنشودة، لاسيما مساءلة المرتكبين للجرائم، وليس إلى الانتقام.

وفي كل الأحوال، لابدَّ من التشديد على مبدأ ربح الجميع، بمعنى أنّ المسؤولين الحاليين الذين سيصبحون سابقين، ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب السوري وبالفساد العام، يتوجب عليهم إدراك أن تفاوضهم بشأن التحول الديمقراطي هو ضمانة لعدم تعرّضهم للعنف في المستقبل. كما أنّ على ضحايا الانتهاكات أن يدركوا أنّ مستقبل سورية يتعلق بمدى قدرتهم على تجاوز الماضي من أجل الشراكة في سورية المستقبل. وهذا لن يتم إلا عبر المفاوضات المشتركة من أجل وضع خريطة طريق للانتقال الديمقراطي، مما يتطلب (9):

  • ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع جرائم الماضي، في إطار العدالة الانتقالية.
  • تحديد فترة زمنية لتتبع المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان.
  • تشكيل هيئة عليا للحقيقة لكشف انتهاكات الماضي، لها فروع في جميع المحافظات السورية، تتمتع بشخصية اعتبارية ومعنوية من خلال استقلالها المالي والإداري.
  • تبييض السجون من كافة المعتقلين وسجناء الرأي والضمير، وتمكينهم من حياة مدنية ومعاشية كريمة.
  • إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها، مع تغيير وظائفها من أمن النظام إلى أمن الشعب.

ومن المعتقد أن مسيرة المصالحة الوطنية سوف تمر بعدة مراحل، تحتمل التعثر في مرحلة أو أكثر، وهي (10):

1 – استبدال الخوف بعيش مشترك بعيد عن العنف.

2 – إرساء الثقة، إذ يُفترض على كل فريق، ضحية كان أم معتديًا، أن يستعيد الثقة بنفسه وبالآخر ويعترف بإنسانية الآخر.

3 – نحو المحاكاة والتماهي، بحيث يقبل الضحايا بالإصغاء إلى من تسببوا لهم بالعذاب، ويعترف المعتدون بالعذاب الذي تسببوا به لضحاياهم.

وخلال مسيرة المصالحة الوطنية ثمة خطر يتمثل في أن تُحجَّم المصالحة لتقتصر على مجموعة من المراحل الشكلية، التي تبدو منطقية. كذلك، هناك احتمال حقيقي بالتعثر في كل مرحلة.

وهكذا، فإنّ تعميم ثقافة المساءلة مكان ثقافة العقاب يعطي إحساسًا بالأمان للضحايا، ويوجه تحذيرًا لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكات في المستقبل. كما أنها تعطي قدرًا من الإنصاف لمعاناة الضحايا، وتساعد على كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية.

ولا شك أنّ ثمة تحديات كثيرة ستعترض تطبيق العدالة الانتقالية في سورية، وهي مرهونة بسيناريو تغيير النظام، ومن أهمها (11):

1 – انقسام المجتمع، بعد أن أدت السنوات التسع للثورة السورية إلى تفاقم التوتر الطائفي والإقليمي، مما عمّق الانقسامات الاجتماعية.

2 – عدم كفاية الموارد الأساسية، خاصة بعد عطالة الاقتصاد السوري طوال سنوات الثورة، لتطبيق العدالة الانتقالية، مما يستوجب الحصول على الدعم المالي الدولي المشروط.

3 – القدرة المحدودة والشرعية المهددة، إذ إنّ مشروع اليوم التالي يقترح أن يبقى الباب مفتوحاً أمام ” دور دولي في تطبيق إطار عمل العدالة الانتقالية “.

4 – الحاجة العاجلة إلى المساءلة، بعد انتقال السلطة، لقطع الطريق على ثأر الضحايا من الانتهاكات الماضية، كجزء من تصميم إطار عمل العدالة الانتقالية.

ويقترح مشروع اليوم التالي استراتيجيات سابقة للعملية الانتقالية (12): تشكيل لجنة تحضيرية للعدالة الانتقالية، الإعداد لحماية وتقييم المعلومات، إطلاق مساعي التوعية والتواصل مع الشعب، النظر في كيفية تكامل المؤسسات المعنية، رصد الاهتمام الدولي، إعداد الكوادر والشركاء المحليين، التمهيد للجنة الوطنية للعدالة الانتقالية.

سابعًا: خاتمة

يخطئ من يعتقد أنّ التحول نحو الديمقراطية في سورية هو مجرد مخطط ذهني سهل التنفيذ، ويخطئ إن ظن أنّ هذه الطريق لن تكتنفها صعوبات ومشكلات عديدة. مما يعني أنّ الانتقال لا يتحقق بمجرد إزاحة الاستبداد وتوفير بعض الحريات والقيام بانتخابات، بل هو عملية تاريخية تحتاج لزمن غير قصير، وبديهي أن يشهد في بعض المحطات صراعات على السلطة وإصرار القوى المضادة على تخريب الثورة وإيقافها والارتداد عنها.

في سورية المستقبل لن تقف الثورة عند حدود تغيير بنية النظام، وإنما ستمتد وظيفتها للحديث عن توحيد المجتمع السوري المتنوع في إطار دولة المواطنة الحقة، فكل النشطاء ومن كل المكوّنات والشرائح الاجتماعية يلتفون حول هدف الحفاظ والارتقاء بمكانة الدولة السورية. وهنا تدخل مسألة العدالة الانتقالية وكشف الحقيقة وتعويض الضحايا، لاسيما ضحايا الثورة، وجبر الضرر، والأهم من كل ذلك السعي لإصلاح النظام القانوني وأنظمة القضاء والشرطة والأمن.

إنّ أهم ما يواجه عملية التحوّل الديمقراطي في سورية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية، بما يؤدي إلى رفع مستوى الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل – إنسانيًا وقانونيًا – مع الماضي بطريقة تجنّب المجتمع السوري ردود الفعل بالانتقام أو الثأر أو الكيدية أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة، أو الاستقطابات السياسية والنزعات الإقصائية.

الهوامش

1 – إدريس لكريني، المرجع السابق، ص 517 – 518.

2 – مشروع اليوم التالي، المرجع السابق، ص 34 – 35.

3 – عبدالله تركماني، ” أهم تحديات المرحلة الانتقالية في سورية “، المرجع السابق.

4 – نزار أيوب، المرجع السابق.

5 – أنور البني، المرجع السابق.

6 – تحرير رضوان زيادة، المرجع السابق، ص 115.

7 – إدريس لكريني، المرجع السابق، ص 512.

8 – نزار أيوب، المرجع السابق.

9 – عبدالله تركماني، ” دروس بعض نماذج التحول الديمقراطي لمستقبل سورية “، المرجع السابق.

10 – فادي فاضل، المصالحة في القانون الدولي: غاية ومسار لا عفوية ومصافحة، في محمد جبرون وآخرون، المرجع السابق، ص 280 – 281.

11 – مشروع اليوم التالي، المرجع السابق، ص 36 – 37.

12 – مشروع اليوم التالي، المرجع السابق، ص ص 39 – 42.

(*) – محاضرة/أونلاين في المؤتمر الأول للباحثين السوريين في العلوم الاجتماعية، في الفترة من 15 إلى 17 كانون الثاني/يناير 2021.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى