في الاقتصاد قد تكون معرفة ما يحتمل أن يحدث في غضون 20 أو 30 عاماً أسهل أحياناً من معرفة ما سيحدث الأسبوع المقبل، وقد كانت السنة الماضية واحدة من السنوات التي اتسمت بأخطاء المتنبئين الكبيرة.
وأفضل الأمثلة (أو أسوأها) على ذلك هو التضخم الحالي، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي تنبأ مصرف إنكلترا بما يلي: “نتوقع أن يرتفع التضخم مرة أخرى إلى حوالى خمسة في المئة خلال ربيع العام المقبل، ونتوقع أن ينخفض بعد ذلك”، أما أحدث رقم لمؤشر أسعار المستهلكين فيشير إلى وصول التضخم إلى 10.7 في المئة.
لم يكن بوسع موظفي البنك بطبيعة الحال التنبؤ بأن روسيا ستغزو أوكرانيا، ولكن حتى من دون ذلك كان التضخم قد أخذ يتجاوز كل الحدود في ذلك الوقت، ويثير هذا الأمر التساؤل الذي لا مفر منه، إذا كان خبراء الاقتصاد يخطئون في فهم المستقبل القريب إلى هذا الحد فلماذا يتعين علينا أن ننتبه إلى توقعاتهم في الأمد الأبعد؟
تقدم مجموعة “غولدمان ساكس” أفضل إجابة على هذا السؤال، ففي عام 2001 نشر مصرف “غولدمان ساكس” الاستثماري ورقة قصيرة بعنوان “بناء اقتصادات عالمية أفضل في بلدان مجموعة ’بريك‘”، صك فيها الاسم المختصر (BRIC) للبلدان الأربعة التي ستعيد تشكيل الاقتصاد العالمي على مدى السنوات الـ 50 المقبلة، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين، وكان رئيس أبحاث البنك جيم أونيل هو المؤلف الرئيس للورقة، وقد أعاد هو والفريق النظر في الموضوع عام 2003 بنظرة أكثر تفصيلاً “الحلم مع دول ’بريك‘: الطريق إلى عام 2050″، وهي النظرة التي أشارت إلى أن دول ’بريك‘ يمكن أن تتفوق على أكبر الاقتصادات الغربية بحلول عام 2039.
وكان تأثير هذا العمل استثنائياً، فعلى مدى السنوات القليلة التالية كانت هناك صناديق مشتركة تابعة لـ “مجموعة بريكس” وقمة لهذه الدول، وبنك تنمية للمجموعة (حرف “س” في آخر الاسم المختصر جاء من دولة جنوب أفريقيا التي انضمت إلى المجموعة).
في الواقع يصعب على المرء أن يتذكر أي بحث اقتصادي كان له مثل هذا التأثير العملي الكبير، وهذا على رغم حقيقة أنه في حين حققت الصين والهند بالفعل قفزات كبيرة إلى الأمام وإلى حد كبير مثلما هو متوقع، فقد فشلت كل من البرازيل وروسيا في تحقيق إمكاناتها لأسباب مختلفة، وكذلك كان لدى متنبئي البنك انحراف آخر في الأحداث عام 2011.
ما الخطوة التالية إذاً؟
في وقت سابق من هذا الشهر حدّثت مجموعة “غولدمان ساكس” تنبؤاتها وصولاً إلى عام 2075، وينطوي عنوان التقرير وهو “الاقتصاد العالمي في عام 2075: تباطؤ النمو وصعود آسيا” على رسالته الأبرز.
سيكون بعض هذا مألوفاً مع تجاوز الصين للولايات المتحدة في حجم الاقتصاد بحلول عام 2035، أي بعد فترة وجيزة من بعض التنبؤات الحالية، وفي الواقع في وقت أبعد مما تنبأت به “مجموعة غولدمان” نفسها في إصدارات سابقة، ومن ناحية أخرى فإن التوقعات بالنسبة إلى الهند جديدة ومذهلة، فهي ستتجاوز الولايات المتحدة بحلول عام 2075 لتصبح ثاني أضخم اقتصاد على مستوى العالم بعد الصين. وإذا بدا هذا على مسافة بعيدة في المستقبل فإن التقرير يقول إنه “في عام 2050 من المتوقع أن تكون الصين والولايات المتحدة والهند وإندونيسيا وألمانيا أكبر خمس اقتصادات على مستوى العالم (بالدولار الأميركي).
إندونيسيا؟ هذا أمر جديد حقاً، على الأقل بمعنى أن النفوذ الاقتصادي لإندونيسيا بدأ يحوز الإقرار به تماماً في الغرب، ولكن لاحظوا أيضاً أن اقتصادات الخمس الكبرى، وفيما لا يزيد بكثير على 25 عاماً، لن تضم في عضويتها سوى بلدين متقدمين، كما أن اليابان وهي ثالث أكبر اقتصاد في الوقت الراهن ستسقط من هذه التوقعات.
إذاً ستبرز آسيا، وما من شك في ذلك، ولكن ماذا عن تحول ميزان القوى داخل العالم المتقدم حالياً بصرف النظر عن التراجع التدريجي لليابان؟
وهنا ثمة رسالة أخرى واضحة، إذ ربما لن تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على النمو السريع الذي تمكنت من تحقيقه على مدى العقد الماضي، ولكنها ستبتعد من أوروبا على نحو مطرد، ويذكر أنه في مرحلة ليست ببعيدة وتحديداً عام 2008 كان الاقتصاد الأميركي واقتصاد منطقة اليورو في الحجم نفسه تقريباً، وهو الآن أضخم كثيراً وستتسع هذه الفجوة على مدى العقود المقبلة ليصل الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة إلى 51.5 تريليون دولار بحلول عام 2075، وهذا بقيمة الدولار لعام 2021، في حين لن تتجاوز منطقة اليورو 30.3 تريليون دولار، وبالفعل ستتفوق الهند على أوروبا في وقت ما من خمسينيات القرن الـ 21، وكذلك ستصبح الاقتصادات الناشئة الأخرى أكثر أهمية هي الأخرى، كما يشير التقرير إلى أن نيجيريا وباكستان ومصر يمكن أن تصبح من أكبر الاقتصادات في العالم.
ما الذي نستنتجه من هذا كله؟
من منظور أوروبي أو ياباني بشكل خاص قد تبدو هذه النظرة قاتمة، إذ سنغدو أقل أهمية نسبياً وقد لا تكون التوقعات صحيحة بكل تفاصيلها، كما أن هناك توقعات أخرى تؤكد جوانب مختلفة.
فمن الممكن على سبيل المثال أن يتوقف النمو في الصين وألا يجتاز اقتصادها الولايات المتحدة في نهاية المطاف، لكن دعونا نتمهل قليلاً وأعتقد أنه علينا جميعنا أن نتقبل فكرة أن ما نسميه الغرب سيكون أقل أهمية، وأن أفكارنا في ما يتعلق كيفية إدارة المجتمعات لن تكون ذات أهمية، فيما ستكون قيم المجتمعات الأخرى أكثر احتراماً وفي هذا وجه حق.
سيكون من الصعب تقبل ذلك بالنسبة إلى أي شخص يؤمن بالقيم الحالية للديمقراطيات الغربية، إلا أن هناك سمة أخرى في هذه التوقعات تمنح الأمل، وهي أن نمو سكان العالم سيبدأ في التراجع خلال النصف الثاني من هذا القرن، وفي الواقع يتعين حدوث هذا إذا أردنا أن نخفف من تأثير البشرية على الكوكب، وهو ما يتوجب فعله بالتأكيد.
المصدر: اندبندنت عربية