يصرّ بعض اللّبنانيّين، على الإستمرار في مسيرة الوهم التي بدأوها منذ منتصف السبعينات. هذا الوهم الذي كرره نائب لحركة أمل قبل أشهر في قرية جنوبيّة، حين وعد أهلها بأن صناديد المقاومة: “سيرمون إسرائيل في البحر”. دعونا نتذكّر معا هذه المسيرة منذ عام 1975. ففي هذه الحقبة، وفي الثّمانينات من القرن الماضي، حمل لواء الحرب مع إسرائيل، ودائما على أرض لبنان، أصحاب القضيّة أنفسهم، بكلّ ما لديهم من سلاح وعناصر. كان إلى جانبهم، جيش حافظ الأسد، أحد أقوى الجيوش العربيّة، المزود بألوف الصواريخ، والطائرات العسكريّة، والمدافع، والجنود، إضافة إلى امتداد جغرافي لبلاده يلاصق إسرائيل ويمكن أن يفتح عبرها، جبهة أخرى عريضة لتشتيت قوّاتها. الأسد المخضرم، القائد “إلى الأبد”، فرض واقعيّا على الدّول العربيّة كلّها، أن تقف إلى جانبه، سياسيّا وماليّا، وأن تتحاشى غضبه. كما كان يحظى بحليف مطلق يدعمه، هو نظام ولاية الفقيه في إيران، وصناديد حزبها في لبنان وميليشياته. كان يمسك كذلك، بصناديد حركة أمل الشّيعيّة، وقوّات وليد جنبلاط من الدّروز، والمقاتلين من أهل السّنّة في الشّمال وبيروت والبقاع، وبقوّات سليمان فرنجية من الموارنة المردة، وكذلك بصناديد حزب البعث، والقومي ألسوري، وكان يخنق كلّ قدرات الجيش اللّبناني والقيادة السّياسيّة. بل والأهم، أنّه كان يحظى بدعم كامل من القطب السّوفياتي، وهو قوّة نوويّة عظمى، يدير حلفا لعدّة دول (حلف وارسو). ووقفت إلى جانبه الصين الماويّة، ومعظم دول عدم الإنحياز في العالم. ورغم ذلك، إحتلّت إسرائيل بيروت. وخرجت المقاومة الفلسطينيّة من لبنان، وهي تلّوح لمودعيها، ويلّوحون لها، باشارة النّصر. في نهاية الثّمانينات سقط الإتّحاد السّوفياتي، وانهارت منظومة حلف وارسو، وتبدّلت توجهاتها. كما تبدّلت توجّهات حركة عدم الإنحياز. قبل الأسد بتسوية اتّفاق الطائف في لبنان. واتّفق مع الأميركيّين على إدارة واستكمال هذه التسوية. إستجاب لشروط إسرائيل لعقد مؤتمر مدريد، وأهمها أن لا يكون هناك وفد عربي مشترك إلى جانب الفلسطينيين، فيدافع كل وفد عن مطالبه الوطنيّة الخاصّة.. إعتقد الأسد أنّ الإستجابة لمطالبه، يحسم موضوع الصّراع مع إسرائيل. فهو يمسك بيده “العصمة” لقبول الفلسطينيين السّير في عملية سلام مع إسرائيل. لم تقبل إسرائيل بمطالبه، فخرج الأسد غاضبا وردّ بأنّ أوقف تنفيذ أحكام اتّفاق الطّائف التي كانت تحوّلت أحكاما دستورية. وفرض هيمنة سلطوية ترهيبية كاملة على قادة لبنان. وطلب منهم الإنصياع لتعليمات مندوبه السامي في لبنان. ومنح من يمشي بخطاه، نعيم السلطة. وحده سمير جعجع رفض ذلك فأرسل إلى السجن. ثم أطلق العنان للإيرانيين وميليشياتهم لحرب مفتوحة مع إسرائيل تحت عنوان “المقاومة”. غرق الأسد، وأغرق قادته، بنعيم لبنان وثروات قاداته السياسيين بدءا من رفيق الحريري نفسه. وترك لحلفائه أن يغرفوا من معين تلك الثروة أيضا. بالمقابل تلقّفت الولايات المتّحدة اللّعبة الإيرانية على السّاحة اللّبنانية، فظبطتها ضمن حدود ألقرارات الدّولية بشأن لبنان. إسرائيل أكّدت أن لا مطامع لها في لبنان. تمّ توقيع تفاهم نيسان عام 1996، الذي فرض على إيران وميليشياتها، الإعتراف ضمنا بوجود إسرائيل، من خلال منع عمليات تتجاوز حدود العمليّات العسكريّة المتعلّقة باحتلال إسرائيل في لبنان. إيران أمسكت لبنان وسورية خرجت ضمنا من اللعبة. من الواضح أنّ الذين دخلوا تحت عباءة سورية، من صناديد الرفض والأوهام في لبنان، والقادة السياسيّين الممسكين بلعبة الطّائفية وغيرهم، لم يفهموا معنى أن يجلس وفد حزب إيران إلى الطاولة مع وفد عسكري إسرائيلي في إطار مشابه لإتّفاق الهدنة. لم يجرؤ أحد منهم أن يقول الحقيقة، وهي أن تفاهم نيسان، كان أوّل الغيث في اعتراف “المقاومة” عمليّا، بإسرائيل. لطالما استمعنا إليهم يشيدون بهذا الحزب “الذي فرض على إسرائيل الإعتراف ب”المقاومة” والشعور بالخوف أمام سلاحها. إنسحبت إسرائيل مطمئنة إلى أنّ “المقاومة” تعرف حدودها. مات الأسد الأب المخضرم. جاء الأسد الإبن الهاوي، فسلّم إيران مفاتيح لبنان، بل مفاتيح سورية نفسها. وخرج من عباءته العربيّة. لم يعد له حاجة في لبنان، فطرد منه. أمّا المقاومة الفلسطينيّة، وبكلّ بساطة، تحرّرت من الأسد، فأفصحت عن حقيقة رغبتها بنزع الأوهام من سياساتها. وسعت الى تحويل الواقع لمصلحتها. كان أولى ثمار هذا الموقف، أن أعادت إلى شعبها صنع القرار بشأن مستقبله. مسيرة الفلسطينيين الذّكيّة، ستقودهم عاجلا أم آجلا، إلى دولتهم المستقلّة. أمّا سياسة سورية، فأوصلتها إلى أحداث 2011 ألمستمرّة، والتي دمّرتها، ومزّقت شعبها، وشتتته في كافة أنحاء المعمورة. حلّت إيران مكان سورية في لبنان. لكن مطالب إيران في لبنان لا تتّصل بأهداف تزعج إسرائيل. فقد كان واضحا أنّ التّهديدات الفارغة التي تكرّرها بشأن تدمير إسرائيل، هي لعبة لشد العصب الإسلامي وجماعات “الرفض” في لبنان والمنطقة. هي اللّعبة الطّائفيّة المفضوحة منذ عصر الخلافة العثمانيّة. عام 2006 خرجت “المقاومة” عن الحدود المتّفق عليها. فتمّ تأديبها سريعا. ولذلك، نجد الهدوء التّام على الجبهة. والمضحك المبكي، أنّ جماعات “الرفض”، ترقص على قبور القتلى، وترفع شعار أنّ السّلاح هو الذي يقيم “التوازن” ويردع إسرائيل. تركت إسرائيل الحزب ينعم بشعاراته”، وإنجازاته”، وتابعت تدمير سورية. غارات تلو الغارات فيما تكرّر “المقاومة” شعارها الممجوج: “سنرد في الوقت المناسب”. كلنا نعلم أنّ الطيران الإسرائيلي هو الذي قصف المرفأ، ممّا أدّى إلى تفجير النيترات هناك. لم تجرؤ “المقاومة” وحلفاؤها على الإعتراف بذلك. فتحوّل حزب إيران، وحليفه بشار، وحلفاؤهما في لبنان، إلى متّهمين، وسيدفعون عاجلا أم آجلا الثّمن. والأنكى، أنّهم يطالبون بالعدالة ويمنعون القضاء من التحقيق. قال نصر الله “لو كنت أعلم”. الآن صار يعلم بعد أن دمّر بلده، وقتل المئات منهم، وشرّد الآلاف حمل الحزب وجماعته من أهل الرفض، على الدّول العربية المعتدلة، فتزايدت إتّفاقيّات السّلام العربية مع إسرائيل. وها هم الآن يناشدون العرب، مساعدة لبنان للخروج من محنته الإقتصاديّة. رفضت جماعة “الرفض في لبنان” الإقرار بإتّفاق الهدنة لعام 1949، والقرار 1701 لعام 2006، لإنهاء كلّ إشكاليّة مع إسرائيل، وتحرير إرادة لبنان من ضغوط مصطنعة. فلمّا أصرّت إسرائيل على موضوع الغاز والنفط، وجدوا إطارا يمنحها مطالبها. حصلت أميركا وإسرائيل على مطلبهما في الغاز والنفط سواء في مياه لبنان الإقليمية، أو مياه “فلسطين” التّاريخية. وحصلت فرنسا على حصتها في أعمال التّنقيب عن الغاز والنفط. لم يعد العرب يشكلون تهديدا لإسرائيل. شعار العروبة بالمفهوم السّياسي القومي سقط واقعيا. أمّا شعار العروبة في ظلّ تبادل المصالح والتّعاون المتبادل، فهو الذي ظلّ ضرورة قصوى أصر أهل “الرفض” على الحفاظ على سلاح “المقاومة” خارج كل إطار قانوني لمفهوم المقاومة. فلما واجههم “ألعدو” بسلاح الإقتصاد، وصار شعبنا يئن من المشاكل الإقتصادية بعد أن نهبت أمواله، رفضوا السماح بكشف مصير ألأموال المنهوبة، بغية حماية الزعماء الطائفيّين الفاسدين لأنّهم يحمون سلاحهم غير الشرعي. يشتمون الإستعمار، ويعيقون استكمال أحكام الدستور، لتحرير إرادة اللبنانيين من البواعث الطائفية التي تحفظ الإستعمار. الواقع الداخلي في إيران يزداد غليانا، ولم تعد السّلطة قادرة على ضبطه كما فعلت عام 2011. إنفجرت حرب أوكرانيا، ولم يعد الإتّفاق النّووي مع إيران، حتى لو تمّ توقيعه، قابلا للحياة. بل صار التّعاون معها تهديدا حقيقيّا لمصالح الغرب في الشّرق الأوسط، بعد التمرّد السعودي وتحرير إرادتها السّياسيّة والعسكريّة من “الحماية” الأميركيّة. ضجوا اعتراضا على مطالبة البطريرك بمؤتمر دولي حول لبنان، وها هو الآن يطالب الأمم المتّحدة بتنفيذ قراراتها. يبدو واضحا أنّنا على أبواب مرحلة جديدة. جريمة العاقبية ليست مسألة عابرة أبدا. ستكون كرة ثلج. لم يتمّ لفلفتها دوليّا كالسّابق. إيرلندا تطالب بتسليم القتلة، والمجتمع الدولي متأهب ينتظر ردّ لبنان وحزب إيران. النفي لم يعد ينفع. إما تسليم القتلة، أو إجتماع عاجل لمجلس الأمن وقرارات موجعة. لن تفيد صرخة “لو كنت أعلم” مجدّدا. على اللّبنانيّين جميعا أن يدركوا الواقع، والتّعامل معه بحكمة، لحماية مصالحنا. لن يخرج لبنان من هذا الواقع، إلا بالإقرار بأنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.”الدّولة القومية” في لبنان حقّ للبنان، كما هي لكلّ دولة أخرى، لكن ضمن التزام اللّيبراليّة الدّوليّة أي نظام المؤسّسات. ويجب استعادة القرار الوطني الحرّ، وتحييد لبنان عن صراعات الآخرين، والمطالبة بالتزام كلّ القوى الإقليميّة بما في ذلك سورية وإسرائيل، بتنفيذ القرارات الدّوليّة بشأن لبنان. وعلينا ان ننكبّ عمليا على الإصلاحات المنشودة، لاستعادة الصّحة لنظامنا السّياسي، والإقتصادي، والإجتماعي، والأمني. ثمّة حاجة لأنّ ندرك الواقع، ونتعلّم من الماضي، كي نبني المستقبل. هكذا يمكن بناء السّلم في لبنان بعد النزاع.
المصدر: جنوبية