نشرت صحيفة “صاندي تايمز” تقريرا أعدته مراسلتها لويس كالاغان من العاصمة التونسية، قالت فيه إن الرئيس قيس سعيد الملقب بـ”ربوكوب” (لطريقته الميكانيكية في الحديث) سحق أحلام الربيع العربي.
وجاء في التقرير، أن عياضي أنري، خرج عندما كان عمره 19 عاما مع أصدقائه إلى الشوارع في مدينة صفاقس، حيث تظاهروا وأجبروا الديكتاتور زين العابدين بن علي على الرحيل، في انتصار الحرية على الاستبداد. وبعد 11 عاما، بات الرجل بالنظارات البالغ من العمر 30 عاما ويحمل درجة الماجستير في الفلسفة، يبحث بيأس عن طريقة لمغادرة البلد. فقد عمل نادلا وبنّاء وكاتبا، لكنه لم يعثر على شيء يمكن أن يعتبره وظيفة مستقرة، ولم تعد الثورة إلا نوستالجيا من الماضي. ويرى أن الثورة كانت كارثة، حيث جلس على عتبات المسرح الوطني في شارع الحبيب بورقيبة: “لقد خيب بلدي أملي”.
تعيش تونس اليوم أزمة، ووصل التضخم إلى 9.8%، وخُمس القوة العاملة بدون عمل، وبات نقص المواد الأساسية من الحليب إلى الزبدة وبعض الأدوية أمرا عاديا. وقام الرئيس قيس سعيد بعد عام من استيلائه على السلطة، بكتابة دستور منحه سلطات واسعة. ولم تشارك إلا نسبة قليلة في الانتخابات البرلمانية يوم السبت، ولكنها تمثل مسمارا آخر في نعش الثورة التونسية.
وقاطعت الأحزاب الرئيسية الانتخابات، ولن يكون للنواب المنتخبين إلا سلطات قليلة. وبهذه الطريقة، ماتت روح الربيع العربي من تونس إلى القاهرة ودمشق، بشعور من العجز أمام عودة الديكتاتورية. ففي مصر، يجر الرئيس عبد الفتاح السيسي- الجنرال السابق في جيش حسني مبارك- البلد إلى مستويات غير معروفة من القمع. وفي ليبيا، انقسم البلد بين برلمان في الشرق يسيطر عليه العسكري خليفة حفتر، وبرلمان عاجز في الغرب. وسحق بشار الأسد الثورة السورية، وعزز قوته على بلد محطم يعاني من أزمة اقتصادية.
أما في تونس، فالرجل القوي الذي يسيطر هو رجل غير جذاب باستحقاق، كان مرة يدرس القانون حيث أطلق التونسيون عليه لقب “روبوكوب” بسبب حديثه المتكلف. ففي مقابلة استمرت 45 دقيقة عام 2019، تحدث بدون توقف عن سلطة لا مركزية ومجالس جهوية. وكان سعيد ناقدا بشدة للساسة الذين يقترحون برامج للتغيير الواسع ليفشلوا في تطبيقها. وكانت رؤيته للنظام السياسي في تونس واضحة: “امنحوا الرئيس مزيدا من السلطات”. وعندما حلّ البرلمان العام الماضي، دعم الخطوة عددٌ من المواطنين الذين رأوا فيها تحولا عن الأحزاب العاجزة مثل النهضة وبداية جديدة.
والآن يرى الكثيرون أن سعيد ذهب بعيداً جديداً. دعم التونسيون دستوره الجديد، حيث يرى سعيد أنه دليل على الشرعية، لكن نسبة المشاركة فيه لم تزد عن 30.5%، وقاطعت الاستفتاء معظم الأحزاب السياسية. ونقلت الصحيفة عن يوسف الشريف، مدير المركز العالمي لجامعة كولومبيا في تونس، قوله إن “غالبية التونسيين يرون أن الوضع كئيب جدا لدرجة أنهم لا يريدون سماع أي شيء عن السياسة” و”لا يهمهم إن كان البلد يتجه نحو الديكتاتورية أو يتكيف نحو الديمقراطية، كل ما يريدونه هو تحسن ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يحاول الشعبويون استغلاله”.
وتقول جماعات حقوق الإنسان إن تونس تتحول ببطء إلى بلد قمعي. فبعد مرسوم صدر من الرئيس في خريف هذا العام، بات من المحظور على أي شخص “نشر المعلومات الزائفة” على منصات التواصل، ومن يفعل يسجن لمدة 10 أعوام، مما يهدد حرية الإعلام. وفي الوقت نفسه، يعمل سعيد على إزالة كل آليات الرقابة على سلطته، بشكل يجعل من الصعوبة إزاحته عن السلطة. فالدستور الذي مُرر هذا الصيف، منح الرئيس سلطة غير مقيدة على الحكومة والقوات المسلحة والقضاة، ولو رشح سعيد نفسه لانتخابات جديدة، فسيفوز بالتأكيد.
وفي سيدي بو سعيد، البلدة الجميلة ببيوتها الزرقاء والبيضاء التي بناها المسلمون الذين هُجروا من إسبانيا في القرن السادس عشر، وأحب العيش فيها الناقد الفرنسي ميشيل فوكو، والشاعرة إديث ستويل، التقت كالاغان مع خالد (38 عاما) حيث قال لها إنها جاءت في أسوأ وقت، حيث يحاولون بناء تجارتهم الصغيرة على أمل تحسن الوضع، لكنهم في وسط إجراءات إدارية وبيروقراطية: “كان بإمكاننا عملٌ أفضل لو وحّد الجميع قواهم وعملوا للبلد”.
وتعتمد سيدي بوسعيد مثل بقية المدن التونسية على السياحة التي أخذت وقتا للتعافي بعد هجوم سوسة عام 2015 الذي قتل فيه مسلح منفرد، 38 سائحا منهم 30 بريطانيا، ثم ضربه كوفيد-19، وبعدها حرب أوكرانيا التي منعت وصول السياح الروس بسبب حظر الطيران الدولي. وقال سليم (40 عاما(: “الناس غير راضين هنا، لقد أعادت الثورة البلد 50 عاما للوراء”.
ويتذكر كيف أخذه صديق أثناء الثورة وقال إنهم يريدون ثورة: “قلت له: أي ديمقراطية” فأجاب: “الديمقراطية هي الشعور أنك حر لتقول للرئيس أنه لص”. وقال إنه لا يهتم سواء كان الرئيس ديكتاتورا طالما وجد طريقة لإعالة عائلته. وقبل الانتخابات البرلمانية يوم السبت، حفلت منصات التواصل الاجتماعي بالمنشورات التي تسخر من المرشحين منهم امرأة غنّت بزيّ رياضي أغنية بوب لدعم ترشيحها، وآخر ركب على حصان وطاف في الأحياء وطلب من الناس دعمه. وقال صحافي إنه اتهام للسلطات بأنها ليست مهمة وعاجزة، وأضاف: “حفنة من المهرجين”.
وقالت الصحيفة إن الكثير من التونسيين قرروا التخلي عن النضال على أمل تحسن الوضع، واختاروا الخروج إما بطريقة شرعية أو غير شرعية من خلال المهربين الذين ينقلونهم عبر القوارب في البحر المتوسط. وفي السابق، كان المهربون يعتمدون على اللاجئين القادمين من منطقة الصحراء الإفريقية. أما اليوم، فقد انضم التونسيون إليهم. ورغم بعد جزيرة بانتليريا الإيطالية عن تونس 50 ميلا، إلا أن الوصول إليها خطير، فالقوارب متهالكة وقديمة مصنوعة من الخشب. ومات حوالي 2000 شخص هذا العام أو فُقد أثرهم، وذلك حسب المنظمة الدولية للهجرة.
وهناك البعض لا يزال مؤمنا بالديمقراطية التونسية، حتى لو لم يصوّت الناس. ومنهم محمد علي بوعزيز، المحامي الذي كان جالسا في خيمته الانتخابية. وقال إنه قرر المشاركة كمرشح “لأن تونس تمر بوضع كارثي حاليا” وأشار إلى الخلافات السياسية على مرّ العقد الماضي، وعبّر عن أمله بأن يعيد البرلمان الجديد للناس الثقة بالسياسة.
المصدر: “القدس العربي”