يعتبر مصطلح ومفهوم “الجندرة ـ الجينوس”،” Gender ـ GENUS “من المصطلحات والمفاهيم الرئيسية التي باتت ـ رغم عدم دقتها ـ معتمدة في المؤسسات الأممية، ولأجلها وحولها توضع سياسات وبرامج، تعتمد، ثم تدرج في سلك ما يجب على الدول الالتزام به إن هي ارادت الحصول على المساعدات والإسهامات الأممية. وهذا المفهوم / المصطلح حديث نما في إطار العلمانية*، وهو يهتم بتحديد النظرة والموقف من قضية الاجتماع الإنساني، بما يتضمنه هذا الاجتماع من ثنائية الانقسام بين الذكر والانثى، بيولوجيا واجتماعيا. وتستند هذه المؤسسات الأممية في تنفيذ برامجها لتغيير المفاهيم بهدف ” تحقيق المساواة على أساس الجندر” إلى ما تتيحه العولمة من إمكانات عبر التلفزيون والانترنت ووسائط التواصل الحديثة. الدليل المرجعي … المصطلحات والمفاهيم الأساسية وتمارين تدريبية حول الجندرـ ص 227
إن هذه الأهمية والمكانة لمفهوم / ومصطلح “الجندر” يدفعنا إلى العمل على التدقيق فيه وتجلية من زواياه المتعددة.
فالجندر ليس مفهوما أو مصطلحا ولد في المختبرات، وإنما شأنه شأن كل المفاهيم الاجتماعية ولد أول ما ولد جنينا، في مسار الحياة، ثم تدريجيا أخذ ينمو ويمتد حتى وصل الى ما هو عليه الآن، ثم تم تقعيد هذا المفهوم في مصطلح محدد واضح اعتمدته المنظمات الدولية، ومراكز البحوث الاجتماعية المختلفة، وبات استخدامه في الدراسات والأبحاث العلمية الاجتماعية محددا وواضحا.
تاريخيا يرصد الباحثون أن أول إشارة إلى مصطلح “الجندر” جاءت أواخر القرن التاسع عشر في إطار الحديث عن الشذوذ الجنسي، وذلك من خلال حدث أدبي واجتماعي في المجتمع البريطاني خاص بعضو البرلمان الكاتب والاديب “وليام بكفورد” الذي اتهمته الصحافة بالتورط فيما يمكن أن تدعى اليوم علاقة جنسية (شاذة) مع ابن اللورد كورتناي ذي الستة عشر عاما. الجنوسة ديفيد غلوفر ـ كورا كابلان ـ ص 12 ترجمة عدنان حسين ط1 دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية
“ان المعاني الحديثة لكلمة Gender لا تزال تحمل آثار هذه الاستعمالات التاريخية الأقدم إذ يستمر Gender في القيام بوظيفته كمصطلح نحوي على سبيل المثال،
______________________________________________
*في كتابه ” الجندر.. الابعاد الاجتماعية والثقافية حاول د. عصمت محمد حوسو تتبع جذور هذا المفهوم تاريخيا منذ الفكر الفلسفي اليوناني، مرورا بعالم الاجتماع العربي، ابن خلدون وصولا الى فلاسفة النهضة الاوربية،لكن ضبط المصطلح والتدقيق في مسار ما كتب يؤكد لنا أن الجندر كمفهوم وليد النظام الراسمالي والفكر العلماني.
إضافة الى كونه تعبيرا ملطفا عن جنس الشخص مع أنه لم يعد يستعمل كمرادف للفعل الجنسي” المرجع السابق ص14.
والتعابير المعتمدة الخاصة بالجنوسة جديدة نسبيا، ولم تكن موجودة قبل الحرب العالمية الثانية “، وحتى الآن فإن بعض اللغات الأوربية كاللغة الألمانية والفلندية لا تفرق بين الجنس والجندر، وتعتبرهما مصطلحان لمعنى واحد، وما يفرق بينهما سياق الاستخدام فقط،* ويكيبيديا ولم يبدأ قاموس أكسفورد الإنكليزي تدوين هذه الابتكارات اللغوية حتى وقت متأخر من عام 1989 ” المرجع السابق ص 9
يستخدم مصطلحا الجنس والجندر على سبيل التبادل احيانا في الكلام العادي، تضع بعض القواميس والتخصصات الاكاديمية تعريفين مختلفين لهذين المصطلحين، بينما تعتبرهما بعض القواميس والتخصصات الاكاديمية الأخرى متطابقين، لا تمتلك بعض اللغات كالالمانية والفلندية مصطلحين منفصلين للتعبير عن الجنس والجندر سوى من خلال السياق.
ويعرف قاموس أكسفورد للغة الإنكليزية مفهوم الجندر على انه ” كناية عن جنس الانسان في استخدامه الحديث (ولا سيما من المنظور النسوي)، وغالبا ما يقصد من استخدامه التشديد على الفوارق الاجتماعية والثقافية بدلا من الفوارق البيولوجية بين الجنسين”*.
في العام 1972 أدخلت عالمة الاجتماع الأمريكية “آن أوكلي” مصطلح الجندر إلى علم الاجتماع من خلال كتابها ” الجنس والنوع والمجتمع “، ثم انتشر المصطلح في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، وانتقل إلى أوروبا، وكان أول ظهور واعتماد دولي له عبر مؤتمر “السكان والتنمية ” الذي عقد في القاهرة سنة 1994 وتم تأكيد مفاهيمه في الدورة التالية للمؤتمر بكين عام 1995.
وفي الدليل المرجعي الذي أصدره برنامج تكامل USAID التابع للوكالة الامريكية للتنمية الدولية USAID وهو برنامج مدته سبع سنوات … ويعمل على تعزيز المساواة في الجندر في الأردن، تعريفا استهدف التمييز بين الجنس والجندر جاء فيه:
** الجنس: مرجع بيولوجي يشير إلى التكوين الجسدي / البدني للإنسان فيما يتعلق بالجهاز التناسلي ووظائفه ولا سيما فيما يتعلق بوجود كروموسوم واي Y
______________________________________________
* يستخدم مصطلحا الجنس والجندر على سبيل التبادل احيانا في الكلام العادي، تضع بعض القواميس والتخصصات الاكاديمية تعريفين مختلفين لهذين المصطلحين، بينما تعتبرهما بعض القواميس والتخصصات الاكاديمية الأخرى متطابقين، لا تمتلك بعض اللغات كالألمانية والفلندية، مصطلحين منفصلين للتعبير عن الجنس والجندر سوى من خلال السياق. “ويكيبيديا”
** الجندر: يشير إلى مجموعة من الأدوار والعلاقات ذات التكوين الاجتماعي والصفات والمواقف والسلوكيات والقيم وموازين القوى والقدرة على التأثير التي. ينسبها المجتمع إلى الجنسين على أسس تفاضلية، الجندر هو هوية مكتسبة يتم تعلمها وتتغير مع مرور الوقت وتختلف على نطاق واسع داخل المجتمعات وعبر الثقافات
الجندر لا يشير ببساطة إلى الذكر والأنثى، بل إلى العلاقة بينهما. الدليل المرجعي … المصطلحات والمفاهيم الأساسية وتمارين تدريبية حول الجندرـ ص17
وفي تحديده الأصول التاريخية لمصطلحي الجنس والجندر ذكر الدليل: “تعود كلمة جنس sex في اللاتينية الى كلمة sexus التي تعني الغدد الجنسية، أما أصل مصطلح الجندر gender مأخوذ من كلمة genus اللاتينية والتي تعني النوع أو الصفة أو الفئة”. المرجع السابق ص17
وتشير الموسوعة البريطانية في تعريفها الجندرة وعلاقتها بالجنس إلى أن البيولوجيا الجنسية والسيكولوجيا الجنسية بقيتا مندمجتين لفترة طويلة، وكل منهما يعبر الآن عن نفسه باستقلالية، ويشدد الدكتور عصمت محمد حوسو على أن المفهومين “الجنس والجندر ” ليسا مترادفين كما يختلط على الأغلبية وانما هما متقابلين ويكمل كل منهما الاخر” حوسو: الابعاد الاجتماعية والثقافية ص22 دار الشروق عمان 2009
وتعرف الموسوعة البريطانية الهوية الجندرية (Identity Gender) وطبيعتها الاجتماعية بأنها ” شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى، ومن ثم فإذا قام الرجل بوظيفة الأنثى أو قامت الأنثى بوظيفة الذكر فإنه لن يكون هناك ذكر أو أنثى وإنما سيكون هناك (نوع) أي (جندر)، بحيث لا تكون لدينا أسرة تقليدية ولا أبناء ولا رجل ولا امرأة” ….. وهذا يعني “أن الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة ـ ذكر أو أنثى ـ بل تؤثر العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية، وهي تتغير وتتوسع،
بتأثير العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل”. مفهوم الجندر والتحديات المعاصرة ، موقع عرب سايكولوجيarapsychology.com هذا يعني أن الأمر لا يعود إلى الاختلاف الجنسي الطبيعي، وإنما يتوقف وعلى حرية الاختيار، وعلى ما يعتقد أطراف العلاقة أنه مفيد لهم، ويقول “كرافت ابينغ”: “قل لي ماهي رغبتك أقول لك من انت”. الجنوسة ديفيد غلوفر ـ كورا كابلان ـ ترجمة عدنان حسين ط1 دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية
______________________________________________
*في معاجم اللغة العربية ليس هناك مثل هذه الفروق بين الجنس والنوع، والذي يراجع جميع هذه المعاجم القديمة والحديثة على السواء سيجد أن الفرق محصور في العموم والخصوص، وأن الجنس في هذه المعاجم أعم من النوع، على عكس ما ورد في بعض المعاجم الأجنبية التي اعتمدت في التفريق بين النوع والجنس، ففي القاموس المحيط: “الجنس بالكسر أعم من النوع، وهو كل ضرب من الشيء، وفي تاج العروس: الجنس بالكسر اعم من النوع ومنه المجانسة والتجنيس وهو كل ضرب من الشيء ومن الناس ومن الطير ومن حدود النحو والعروض ومن الأشياء جملة، وفي معجم اللغة العربية المعاصرة الجنس الأصل والنوع وفي اصطلاح المنطقيين ما يدل على كثيرين مختلفين بالأنواع فهو أعم من النوع فالحيوان جنس والإنسان نوع.
وقد تبنت الأم المتحدة مفهوم الجندرة واعتبرته مفهوما مركزيا في نشاطها واستهدافاتها، وتحدثت في أحد كتبها عن اثني عشر شكلا ونمطا من أنماط الأسرة،” كتاب الأسرة وتحديات المستقبل ـ مطبوعات الأمم المتحدة،
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أقرت في العام 1979 اتفاقية سيداو الخاصة بما دعي بالقضاء على أشكال التمييز العرفي ضد المرأة من خلال تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لدور الرجل والمرأة في المجتمع وتحمل هذه الاتفاقية بذور المفهوم الجندري الذي بات أكثر وضوحا وشمولا مع تقدم الوقت.
ويذهب مسؤولو الأمم المتحدة المكلفون بالإشراف على تنمية وتمكين هذا المفهوم إلى أن تحطم صورة الأسرة “التقليدية” أي الأسرة والعائلة القائمة على الزواج الطبيعي من مؤشرات الانتصار لما يدعونه بحقوق الانسان وإلى ذلك يشير آري هوكمان ممثل صندوق السكان في الأمم المتحدة UNEPA في هولندا :” إن ارتفاع معدلات الطلاق، وكذا ارتفاع معدلات المواليد خارج نطاق الاسرة تعد نصرا كبيرا لحقوق الانسان على البطرياركية”، مصطلح الأسرة في ابرز المواثيق الدولية: دراسة تحليلية مقدم من المهندسة كاميليا حلمي رئيس اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل ، والبحث مقدم في مؤتمر الخطاب الإسلامي المعاصر المنعقد في 28 ـ 29 يوليو 2011
وكما قلنا بداية فإن مفهوم الجندر مفهوم مركزي رئيسي يستهدف إحداث تغييرات شاملة وجوهرية في مختلف مجالات التفكير والسلوك ذات الصلة بالاجتماع الإنساني، بالأسرة والعلاقة بين الجنسين، بل وبوجود مفهوم الجنسين، وأدوارهما الاجتماعية المختلفة، فلا يعود الاختلاف البيولوجي هو المعول عليه، وتصبح المساواة المطلقة في الثقافة والاجتماع والدور بين الرجل والمرأة هو الهدف.
على العموم تعتبر الجندرية أن التمايزات الموجودة بين الرجل والمرأة ليست سوى فوارق بيولوجية عضوية، وأن المساواة مطلقة في الثقافة والاجتماع والدور، لذلك فان “كل تمايز هو أمر مصطنع يعود إلى عوامل دينية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وذهنية. “. خضر إ حيدر مفهوم الجندر .. دراسة في معناه ودلالاته وجذوره وتياراته الفكرية، ص 4، والتعريف أعلاه نقلا عن سعد البازعي، وميجان الرويلي: دليل الناقد الادبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان ط2 سنة 2000
ولهذه الطبيعة لمفهوم الجندر فإنه يغطي فضاء واسعا من الدراسات، و”يتدخل في الكثير جدا من العلوم، بل ويمثل بطبيعته ثورة اجتماعية، ويطلق حركة فكرية واجتماعية وأدبية واسعة الأفق تستوعب وتغطي الحركات النسوية في مختلف مراحلها إذ (الجندر ـ الجنوسة) مفهوم تمحورت حوله الدراسات النسائية في كافة المجالات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية والطبية والنفسية والعلوم الطبيعية والقانونية والدينية والتعليمية والأدبية والفنية وفضاءات العمل والتوظيف والاتصال والاعلام والتراجم والسير الذاتية ما جعله حقلا علميا ثريا لبرامج ودراسات تخصصية بدأت تنشط في الكليات والجامعات الغربية ، ولعل المحرك الأساسي لمثل هذه الدراسات هو الدعوة التحررية التي تبنتها الحركات النسائية في تركيزها على مفهوم الجنوس كعامل تحليلي يكشف الفرضيات المتحيزة المسبقة في فكر الثقافة عموما والغربية خصوصا”. خضر إ حيدر مفهوم الجندر مرجع سابق ص 149
وكما رصدنا في الفكر العلماني ثلاث مستويات من العلمانية، الصلبة والجزئية والبنيوية / المتسللة، فإن في بحث الجندرية والجندريين نرصد أيضا مستويات عدة مماثلة، ويشير خضر في مقال له إلى خمس مستويات أو تيارات تبدت فيها الجندرية على مدى أجيال متعاقبة (النزعة الانثوية المتطرفة، نزعة التمركز حول الأنثى، النزعة الليبرالية، الجندرية “النسوية” الراديكالية، النسوية السوداء)، ولكل من هذه المستويات أو التيارات ظروفها، ومناخاتها، ورموزها، ويحدد المستوى الجذري الصلب فيها وهو الرابع فيصفه بالجندرة الراديكالية:
“رابعا: الجندرية (النسوية) الراديكالية، وهذا التيار يدعو إلى إلغاء الأسرة النواتية الأم والأبناء أي التي يمارس عليها القمع والاستغلال والسطوة والعنف … وتركز هذه المدرسة على العائلة باعتبارها المنبع الأول لقمع المرأة في المجتمع، وفوق هذا لا تؤمن المدرسة الراديكالية بأن المرأة ستتحرر من القمع الجنسي عن طريق الإصلاح أو التغيير التدريجي اذ لا بد من الإطاحة بالنسق البطريركي الأبوي لتحقيق المساواة بين الجنسين“. خضر إ خضر ـ مفهوم الجندر ـ دراسة في معناه، ودلالاته، وجذوره، وتياراته الفكرية، مجلة الاستغراب العدد 16 السنة الرابعة 30 يوليو 2019
وفي إطار هذا المفهوم الراديكالي للجندرة تذهب الأمريكية “آن فوستس ستيرلنج” في دراستها التي جاءت بعنوان “الأجناس الخمسة” إلى أن ” تقسيم الخلق إلى ذكور وإناث أصبح واقعا تجاوزه الزمن، ولم يعد يعبر بدقة عن حقيقة الواقع الإنساني ذلك أن الواقع يحفل بخمسة أجناس وليس جنسين فقط، إذ بجانب الرجال والنساء، هناك المخنثون، والنساء الشاذات اللائي يعاشرن النساء، والرجال الذين يعاشرون الرجال”.
كاميليا حلمي مرجع سابق
لكن هذه الجندرة الراديكالية والتي تعبر بحق عن المفهوم الأصيل والواضح والمتبنى أمميا للجندرة، والتي وضعت له البرامج وخصصت له الميزانيات وأقيمت لنشره المؤسسات ليس هو مما يسهل تمريره في مجتمعاتنا، لذلك فإن هذا المستوى الراديكالي يتسلل من خلال مستويات أخرى أقل صداما مع المجتمع والبيئة والثقافة والمعتقدات الدينية، وهو يتحرك تحت دعاوى إصلاح شأن المرأة ودورها في المجتمع بعد رصد جوانب الخلل الذي يحيط بها في مجتمعاتنا.
إن العاملين ضمن منظومة “الجندرة ” في مجتمعنا العربي يدركون أن هذا الوجه الراديكالي للجندرة مما لا يمكن قبوله، لذلك هم يسلطون الضوء على ما يتضمنه هذا المفهوم من دعوة لتغيير وتعديل الأدوار الاجتماعية للمرأة والرجل في المجتمع استنادا لهذا المفهوم باعتبار ذلك من دواعي العدل والمساواة، دون التوقف أمام المفهوم الرئيس للجندرة الواضح في وثائق الجهات التي أطلقت هذا المصطلح، وتعمل على تعمميمه وضبط الحركة في اتجاهه.
ولعل ما عرضته الدكتورة “هبة حدادين” وهي مدربة وخبيرة جندرة في الأردن عن الجندر يمثل نموذجا لمثل هذا الجهد، إذ تحدثت عن أن الجندرة تمثل جهدا أمميا لإصلاح شأن المرأة وأدوارها في المجتمع: في الأسرة، والاقتصاد، والسياسة، وأن هذه الجندرة أي “النوع الاجتماعي”، وهو جهد لا يختص بالمرأة فقط ولا بالجنس ولا بالسيطرة على الرجل، وليست حركة تهدف لتدمير العائلة، ولا لنقض القيم والعادات والتقاليد المجتمعية، ولا تعني أيضا تخلي المرأة عن رعاية أطفالها، ولا ترك أنوثتها، بل تعني بالنوع الاجتماعي أدوار وحقوق وواجبات وممارسات المرأة والرجل في المجتمع، المرأة والرجل جسدان بروح واحدة لأن الكون قائم على ثنائية المرأة والرجل والله خلق البشر على هيئة نوعين وجنسين هما ذكر وأنثى، ولا يستطيع الكون أن يقوم على جنس واحد يستقوي على الآخر، كما يجب تعزيز التنشئة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين والعدالة في تكافؤ الفرص وإدراك أن أدوار النوع الاجتماعي ناتجة عن ثقافة المجتمع، ويمكن تغييرها للرجل والمرأة.” مجلة نكهات عائلية موقع جريدة الغد ـ عمان
ومشكلة مثل هذه المحاولات في تجميل الجندرة والابتعاد بها عما يتصل بأصل الأسرة والاجتماع الإنساني المبني على ثنائية الذكر والأنثى في الخلق والدور والمسؤولية، أن القائمين بها ليسوا هم المؤسسين لهذا المفهوم، وليسوا هم الذين نحتوه، ورسموا له طبيعته ومداه، وليسوا هم الممولين للأنشطة العاملة على نشر هذا المفهوم وتفعيله في المجتمع، وأن عملهم يقتصر على تمرير هذا المفهوم، والتمكين له في مجتمعاتهم، لذلك فإن المعرفة الحقيقية لهذا المفهوم ولآفاقه يجب أن تُستمد من الأصول التي انطلقت منه هذه الدعوة، وأيضا من المؤسسات والمنظمات التي انطلقت منها التحركات والمشاريع العاملة على رعاية هذا المفهوم والتمكين له.
إن كافة المفاهيم والعناوين الفرعية التي نصادفها في هذا الميدان من الشذوذ الجنسي على اختلاف أنواعه ” اللواط، السحاق” وما يتصل به مما يدعونه ب “الأشكال المختلفة للأسرة”، والنسوية، وملكية الانسان لجسده، تصبح من نتائج المفهوم العام للجندرة، لذلك يصبح من الأهمية بمكان أن ندقق في المعنى العام للجندرة وتجليات هذا المعنى في حياة المجتمع.
وإذا كان من المتفق عليه عبر المسار الإنساني كله أن الحيوات كلها “حياة الإنسان والمخلوقات كلها” قائمة على ثنائية الذكر والأنثى، وأن المجتمع الإنساني قائم كذلك على هذه الثنائية المبنية على اختلاف بيولوجي بين الجنسين يتولد عنه اختلاف في الوظيفة الجنسية والاجتماعية، وأن هذه الثنائية تحدد لكل من الطرفين دوره في الحياة الاجتماعية، وأن على هذه العلاقة المحددة بين الطرفين والتي تنظمها الشرائع الدينية أو القوانين أو الاعراف تقوم حياة المجتمعات منذ بدء الخليقة، فإن الجندرة في جوهرها تقول بغير ما تقدم.
إن الجندرة تعتبر الانقسام الجنسي ليس أكثر من انقسام بيولوجي لا يترتب عليه أي اختلاف مهم في الوظائف أو الأدوار أو المسؤوليات سواء داخل الأسرة أو داخل المجتمع، أي أن الانقسام المستند إلى الاختلاف البيويولجي ليس انقساما أصيلا تحدد على ضوئه الوظائف والأدوار، فالذكورة والأنوثة “ليست خلقا”، وليست “أمرا مفروضا بحكم التكوين البيولوجي”، رغم أنه يظهر للوهلة الأولى كذلك، وإنما هي خيار، وتربية، وبيئة. وهو خيار له وظيفة في هذه النظم والمجتمعات، وظيفة تخدم القوى المسيطرة في هذه المجتمعات.
وإذا كنا نعمل على تحرير المجتمعات فإن من أولى ما يجب عمله في مجال التحرر هو تحرير الناس من هذا القيد البيولوجي الذي قسمهم بين ذكر وأنثى، ورتب على هذا الانقسام اختلاف الأدوار والمهام، ليصبح وعي الإنسان بجنسه الذي يريد هو القضية، وهو المدخل للحرية، وهو المحدد لدوره في المجتمع، من شاء أن يكون ذكرا فله ذلك، ومن شاء أن يكون أنثى فله ذلك. أما الفاصل البيولوجي ” الأجهزة التناسلية، الحمل، الإرضاع” فليس لهذه أي تأثير قطعي من في الدور والمسؤولية والاستعداد، وقد يتمكن الانسان تجاوز هذا الفاصل في أي مرحلة من مراحل التطور العلمي.
ولأن الفرد هو مالك جسده، فله أن يفعل في هذا الجسد ما يريد، يمكن لمن ولد ذكرا أن يتحول إلى أنثى، والعكس صحيح، ومن شاء أن يحمل ويلد ويرضع له ذلك، ومن لم يشأ فهو حر فيما يشاء، وكون الفرد ذكرا لا يعني أن يحرم من الحمل والولادة، وكونه أنثى فلا يفرض عليه أن يحمل ويلد ويرضع، ويمكن استبدال قضية الإرضاع بالحليب الاصطناعي، ويمكن تجاوز قضية الحمل باستئجار رحم، ويمكن للرجل أن ” يتزوج” برجل، وكذلك يمكن للأنثى أن تتزوج ب”أنثى” ويكون لهؤلاء وهؤلاء أبناء، وأن تتشكل من ذلك أسر اجتماعية لها الحقوق والمكانة نفسها للأسر” التقليدية” في المجتمع.
ويمكن أن تكون هناك أسر دون الحاجة إلى أب، وأسر دون الحاجة إلى أم، والأم العزباء نموذج لما يمكن أن يحدث أو لما هو حادث، سواء جاء حمل هذه الأم من علاقة جنسية خارج الزواج أو من تلقيح اصطناعي، أو من استعارة واستئجار رحم، وقد تتوفر في أي زمن قادم إمكانية “رحم اصطناعي”، فيتم بذلك تجاوز قيد ” استئجار الرحم”، ويمكن أن يتطلع هؤلاء إلى أن يتيح العلم في أي مرحلة أن يحمل الرجل وأن يلد.
هذا هو المعنى الحقيقي للجندر، وخطورة المفهوم الذي بات معتمد دوليا ليس فقط في إعطاء الشرعية لمختلف أنواع ” الشذوذ الجنسي”، وما يتخلف عنه من ” أنواع مختلفة للأسرة”، وليس في أن هذا المفهوم يريد أن يقيم مجتمعا مخالفا لسنن وقوانين الحياة الاجتماعية والطبيعية، وإنما أيضا بكونه يتضمن بالضرورة نزع الشرعية عن المفهوم السابق للأسرة، وللعلاقة الجنسية، وللحلال والحرام في هذه العلاقات، وبالتالي تصبح النظرة الشرعية والإنسانية المعروفة لهذه العلاقات ولمفهوم الأسرة هو الشاذ والمدان والملاحق، وهنا يكون من الضروري استحضار قول الله تعالى في وصف قوم لوط عليه السلام حينما قرروا إخراج لوط وأهله من قريتهم أي نفيهم وإبعادهم باعتبارهم مدانين، ونزع نسبتهم إلى القرية (الوطن) حيث يعيشون (المواطنة)، أما بماذا هم مدانين فالتهمة هي “التطهر” أي رفض هذه الممارسة الشاذة وإدانتها. ” فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون” النمل / 56
وفي مثل هذه البيئة الفكرية يصبح من غير الممكن طرح مفهوم “الحلال والحرام في العلاقات الجنسية”، وإنما الطرح يتناول الإكراه والتوافق في هذه العلاقات ليس إلا، فالعلاقة الجنسية بين أي طرفين مقبولة ومفهومة ما دامت قائمة على قاعدة التوافق والرضا.
وبالتأكيد ليس هناك مجال لطرح مفهوم قوامة الرجل على المرأة، ولا مسؤوليته المميزة تجاهها، ولا مسؤولية المرأة المميزة تجاه تربية الأطفال وتجاه أسرتها وبيتها، فالمساواة كاملة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وهو معنى نقيض لمعنى التكامل والمشاركة في المسؤولية بين الرجل والمرأة الذي جاءت به الأديان وعرفته البشرية، وأقيمت عليه الحياة.
أما الحديث عن الأخلاق في مجال الجنس والأسرة وتقسيم العمل فيسقط تلقائيا لأنه يفقد أي أساس له.
وعند هذه الفاصلة يصبح الحديث عن رفع الظلم عن المرأة وتمكينها من الأدوار الاجتماعية والسياسية المتاحة لكل فرد في المجتمع، وفتح الأبواب لها للعمل والمساواة في الأجر… الخ، حديثا يتكئ على وقائع من الظلم الاجتماعي الحاصل على المرأة لتمرير مفاهيم وقيم تتناقض مع سنن الخليقة، ومع أساس وجود المجتمعات. ولقد أتينا في الفصل الخاص بالعلمانية والأخلاق على أمثلة وشواهد عديدة للجهود المبذولة لتفتيت الأسرة، ولإحلال الأشكال الجديد “للأسرة” التي يدعون إليها، وكلها أشكال متولدة عن “الجندرة”.
يجب أن نعترف بأن الجهود الدولية المنظمة والمثابرة والمتصاعدة تكسب نتيجة الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة في مجتمعاتنا مساحات إضافية داعمة لهذه الدعوة، ولهذا المصطلح، لكن هذه الكسب لا يعبر عن وعي حقيقي للمفهوم، ولا عن كون هذا المفهوم يلبي حاجة اجتماعية وإنسانية قائمة، وإنما عن حالة استغلال لواقع الظلم واختراق لقيم المجتمع الأساسية وتغريبه، ويساعد على نمو هذه المساحات افتقاد هذه الأمة على المستويين الوطني والقومي لتوازنها الاجتماعي نتيجة افتقادها لمشروع حضاري جامع، ونتيجة نمو للفكر المتطرف دينياً وطائفياً.