مراقبون يؤكدون رغبة أردوغان في تهدئة الأجواء قبل اقتراع الأتراك في يونيو المقبل وسد الطريق على المعارضة.
لقاء مفاجئ مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ثم تصريحات متكررة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الرغبة في تحسين العلاقات مع مصر وسوريا، دفعت كثيرين للتساؤل في شأن أسباب تحويل أنقرة دفتها للعودة إلى سياسة “صفر مشكلات” التي اتبعتها في بداية حكم أردوغان قبل أقل من عقدين. وأجمع محللون ومراقبون على أن ذلك التحول يرجع جانب كبير من أسبابه إلى قرب الانتخابات الرئاسية التركية المقرر إجراؤها في يونيو (حزيران) من العام المقبل.
وكانت اللقطة الأبرز في محاولات التقارب التركي هي المصافحة بين أردوغان والسيسي في العاصمة القطرية الدوحة، في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إذ كان الحدث مفاجئاً للمتابعين، باعتباره الأول بين الرئيسين، ولأن أردوغان دأب على مدار سنوات على انتقاد مصر والسيسي بشدة، منذ إطاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي عام 2013 إثر ثورة 30 يونيو، وعلى رغم إجراء البلدين “محادثات استكشافية” على مستوى نائبي وزيري خارجية البلدين لتطبيع العلاقات العام الماضي، لكن تلك الجهود توقفت منذ سبتمبر (أيلول) 2021.
لقاء السيسي وأردوغان الذي استمر بين 30 و45 دقيقة، وفق تصريحات الرئيس التركي الذي اعتبر اللقاء “خطوة أولى نحو مزيد من التطبيع في العلاقات بين البلدين”، فيما اعتبرها بيان للرئاسة المصرية “بداية جديدة في العلاقات الثنائية بينهما”. ولم يستبعد الرئيس التركي حدوث التطور نفسه في علاقات بلاده مع سوريا، مؤكداً أنه “لا مكان للقطيعة في السياسة”.
منجز اقتصادي
وبرأي أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة باريس رامي الخليفة العلي، أن الانتخابات المقبلة في 2023 لها دور في تغير سياسات تركيا، إذ يسعى أردوغان لتحقيق منجز اقتصادي معين حتى لا يتم استغلال تلك النقطة ضده من قبل أحزاب المعارضة، مؤكداً أن هناك رغبة تركية في تجاوز الأزمات بإعادة ترتيب العلاقات مع دول الإقليم.
وقال العلي لـ”اندبندنت عربية” إن محاولات التهدئة التركية التي ينتهجها أردوغان ليست جديدة، لكن هناك عوامل عدة أدت لتغيير النهج التركي بالمنطقة، من أبرزها وصول إدارة جو بايدن للحكم في الولايات المتحدة والتي كان لها موقف سلبي تجاه أنقرة أكثر من إدارة سلفه دونالد ترمب ومارست كثيراً من الضغوط ضد تركيا، مضيفاً أن أنقرة أرادت تصفية أزماتها مع دول المنطقة لتستعد لمواجهة التغير في السياسة الأميركية تجاهها بوصول الإدارة الديمقراطية، كما لفت إلى حجم الأزمات التي تعرضت لها تركيا خلال الفترة الماضية، بخاصة الاقتصادية، بارتفاع نسب التضخم وانهيار العملة نتيجة التوتر الذي شهدته العلاقات التركية – العربية.
وعن جدية محاولات تركيا للتهدئة في المنطقة، قال الأستاذ بجامعة باريس إن كل طرف لديه مصلحة للوصول إلى حلول وانفراجة للأوضاع سياسياً واقتصادياً. بالنسبة لتركيا، وعلى الجانب السعودي مثلاً، يبحث أردوغان عن تنفيذ مشروعات واستثمارات، بينما المملكة تواجه خطراً آخر لا يقل عن الأزمة مع تركيا وهو الملف الإيراني، بالتالي فإن ترتيب الأوضاع مع أنقرة مصلحة مشتركة متبادلة بين أغلب أطراف المنطقة، سواء مصر والسعودية وسوريا.
وأشار الخليفة، إلى أن البطء في عملية التغيير من قبل تركيا يؤكد تمسكها بخطوط أساسية عدة لسياستها الخارجية، مضيفاً “نحن في خضم عملية تغيير تركيا لسياساتها الخارجية في عديد من الملفات ونحتاج إلى وقت لنحكم إلى أين ستمضي”.
رسائل داخلية
واعتبر السفير حسين هريدي مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق أن تصريحات الرئيس التركي في شأن إمكانية التقارب مع نظيريه السوري والمصري وعدم وجود ثوابت في السياسة اعتماداً على تغير مصالح الدول، هي رسائل للداخل التركي مع اقتراب الانتخابات بإمكانية التطبيع مع دول الجوار، مشدداً على أن كل هذه التصريحات والتحركات مرحلية بينما لم تغير تركيا من سياساتها مطلقاً.
وأكد هريدي لـ”اندبندنت عربية” أنه لا يرى أية خطوات جدية من الجانب التركي للتقارب مع دول الجوار، لكنها مجرد إجراءات وتحركات شكلية من دون تغيير فعلي في السياسات وجوهر استراتيجيات أردوغان، مشيراً إلى إمكانية وجود تغيير مستقبلاً في سياسات الجانب التركي التي تعلن الرغبة في التوافق، مطالباً الجانب المصري باستمرار التعامل بحذر مع التقارب التركي.
وإلى جانب قرب الانتخابات، هناك عوامل أخرى دفعت أردوغان للرغبة في التقارب مع العرب، بينها فشل الرهان على جماعات الإسلام السياسي لإسقاط أنظمة رأتها تركيا في وقت ماضٍ “عقبة” في طريق توسعها، وذلك بعد صمود الجيش السوري وثورة 30 يونيو في مصر، وفق تعبير مساعد وزير الخارجية الأسبق.
وأشار إلى أن أردوغان وهو رجل سياسي براغماتي رأى عدم إمكانية تحقيق آماله من خلال الاعتماد على الإسلام السياسي فاختار أن يتحرك في طريق التقارب، ورفض اعتبار ذلك عودة إلى سياسة تصفير المشكلات “لأن تركيا سارت في طريقها لسنوات أعتقد من الصعب الرجوع عنها بخاصة لمرحلة ما قبل 2011″، مشيراً إلى أنه حتى سياسة “تصفير المشكلات” كانت وراءها أهداف سياسية.
الدور المصري
في المقابل، يجد المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو أن عملية تحسين العلاقات لا تتعلق فقط بأنقرة، وإنما أيضاً بمصر التي عليها أن توضح هل تريد التقارب فعلاً وهل ما زالت لديها شروط لأن هذا ما سيسرع أو سيبطئ من خطوات تطبيع العلاقات.
وأوضح أوغلو لـ”اندبندنت عربية” أن تركيا جادة في جهودها للتقارب مع مصر منذ فترة، لكن القاهرة هي من لديها بعض المطالب، يمكن تحقيق بعضها، والبعض الآخر يصعب تنفيذه مثل ملف الدور التركي في ليبيا، مشيراً إلى أن ملف جماعة الإخوان يعتبر منتهياً من الطرفين وليس هو الشاغل الأكبر حالياً، مؤكداً أن لقاء المصافحة بين السيسي وأردوغان لو لم يسفر عن اجتماعات بين مسؤولي البلدين سيبقى الوضع على ما هو عليه.
وأضاف أن تركيز السياسة التركية على تهدئة الأمور إقليمياً يرجع إلى الانتخابات المرتقبة العام المقبل، باعتبارها الشاغل الأكبر لكل السياسيين في تركيا، لذلك الكل يحاول سحب الأوراق من الطرف الآخر، موضحاً أن “المعارضة كانت تظهر نفسها على أنها تريد تصحيح مسارات علاقات أنقرة مع دول المنطقة، لذلك لجأت حكومة أردوغان لتحسين العلاقات مع مصر والسعودية وإسرائيل والإمارات وآخرها لقاء المصافحة”، كما أشار إلى الوضع الإقليمي في شرق المتوسط وأهمية “استمالة” مصر وإبعادها عن مزيد من التقارب مع اليونان تحديداً والاتحاد الأوروبي بوجه عام.
تشكك سوري
وواصل أردوغان تصريحاته في شأن العلاقات مع محيطه الإقليمي، وذلك خلال فعالية لأصحاب الأعمال بأنقرة الثلاثاء الماضي، حيث أكد أن إدارته ستعمل على “زيادة أصدقائها”.
وبدا أن النظام السوري منتبه للربط بين الانتخابات التركية ومحاولات التقارب، حيث رفضت دمشق طلب أنقرة في شأن ترتيب لقاء بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، مؤكدة أنها تفضل تأجيله لما بعد الانتخابات التركية، وذلك بحسب تصريحات صحافية لعضو هيئة القرار والتنفيذ المركزي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا أورهان ميري أوغلو. وأكدت تلك التصريحات ما ورد في تقرير لوكالة “رويترز” نشر السبت الماضي، ونقل عن مصادر سورية أن نظام الأسد يقاوم جهوداً روسية لعقد قمة تركية – سورية.
تاريخ الخلاف
كان الخلاف المصري – التركي قد بدأ في أعقاب موقف أنقرة من إطاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي إثر ثورة 30 يونيو 2013، وكان اتفاق ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني بين تركيا وليبيا في نوفمبر 2019 نقطة فاصلة في تأجيج الصراع، خصوصاً أن الاتفاق الأمني اتخذته أنقرة ذريعة لدعم القوات العسكرية التي كانت تساند المجلس الرئاسي الليبي في مواجهة الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر. وأعقب ذلك التصريح الشهير للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 20 يونيو 2020 باعتبار خط سرت الجفرة “خطاً أحمر” بالنسبة إلى مصر.
لكن منحنى الخلاف الثنائي انخفض بعد ذلك، ومع بداية عام 2021 شهدت العلاقات بين البلدين بعض التحسن، وكانت أولى بوادره تصريحات أردوغان في مارس (آذار) من العام ذاته بأن البلدين أجريا اتصالات استخباراتية ودبلوماسية واقتصادية وبأنه يرغب في علاقات قوية مع القاهرة. وبعد ذلك بأسبوع طلبت الحكومة التركية من ثلاث قنوات مصرية مقرها إسطنبول وتقول القاهرة إنها مرتبطة بجماعة الإخوان المصنفة إرهابية في مصر، وقف بعض برامجها السياسية وخطابها المعادي للسلطات المصرية، كما تحدثت وسائل إعلام عربية عن إغلاق تركيا ما وصفته بمقار الإخوان في البلاد.
وأجريت “مباحثات استكشافية” على مستوى وزيري الخارجية في القاهرة مايو (أيار) 2021 وبعدها بأربعة أشهر في أنقرة، لم تسفر سوى عن بيانات مقتضبة حول بحث القضايا الإقليمية. ومنذ ذلك الحين، أي على مدار أكثر من عام، توقفت اللقاءات الرسمية، وبدا التردد في خطوات البلدين تجاه الآخر، إذ أعلن وزير الخارجية التركي في أبريل (نيسان) الماضي عن زيارة قريبة من نظيره المصري إلى تركيا، لكنها لم تتم.
ولم يرفع أي من البلدين مستوى التمثيل الدبلوماسي عن مرتبة القائم بالأعمال، وهو المستوى المعمول به منذ تبادلت الدولتان سحب السفراء في ديسمبر 2013، إلا أن وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، قال في 28 نوفمبر، إن “تركيا ومصر قد تستأنفان العلاقات الدبلوماسية الكاملة وتعيدان تعيين سفيرين في الأشهر المقبلة”، وذلك بعد أسبوع من مصافحة رئيس البلدين.
المصدر: اندبندنت عربية