ثلاث قمم في الرياض للاحتفاء بالرئيس الصيني وتعميق العلاقة السعودية والخليجية والعربية مع الصين. وهذه القمم تأتي في لحظة يشهد فيها الاقتصاد الصيني تراجعاً موقتاً وعابراً وانتكاسةً في إدارة مكافحة وباء “كوفيد 19″، ما يجعل بكين بالغة الامتنان لهذه الدفعة العربية غير المتوقعة التي لا يمكن لغير السعودية أن تؤمنها.
يسعى شي جينبينغ إلى تأكيد مكانة بلاده كقطب عالمي، بانياً هذا الموقع بتحالفات اقتصادية وتجارية لا اشتراطات سياسية فيها ولا محاولة أو مظاهر لفرض الهيمنة. وفي المقابل، يعمل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على تغيير هياكل اقتصاد المملكة ضمن “رؤية 2030” ومعها هياكل سياستها الخارجية، اعتماداً على التمايز الذي ظهر في مناسبات عدّة، لكن خصوصاً في قرار “أوبك +” في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي خفض الإنتاج النفطي بدلاً من رفعه كما أرادت الولايات المتحدة، المعتادة طيلة عقود على توجيه قرارات منظمة “أوبك” والتحكّم بها.
أتاحت هذه القمم فرصاً عديدة للرئيس شي كي يلتقي القادة العرب في زيارة واحدة، خصوصاً أن نحو عشرين بلداً عربياً باتت مشاركة في “خطة الحزام والطريق” الصينية. لكن الاهتمام الرئيسي لشي، في هذه الرحلة الثالثة له إلى الخارج منذ تجديد ولايته، تركّز على أكثر من أربعين صفقةً واتفاقاً ومذكّرات تفاهم وقّعت خلالها وقدّرت قيمتها بنحو ثلاثين مليار دولار. وفي سياقها طُرح بجدية إمكان أن تسعّر بكين جزءاً من عقود النفط والغاز مع الخليجيين باليوان الصيني بدلاً من الدولار، كما نوقش استكمال اتفاق التجارة الحرّة مع دول الخليج التي تعتبرها الصين ركيزة استراتيجيتها التجارية للإقليم، وقد وُضعت مع السعودية أسسٌ لإقامة قاعدة تجارية واستثمارية في المنطقة. ولأن المصالح الصينية – العربية باتت “متشابكة إلى حدّ التكامل”، كما تردّد خلال القمم على نحو غير مسبوق، بدا من الطبيعي أن توقع الصين والسعودية على اتفاق “شراكة استراتيجية شاملة”.
ربما تُدرج الصين هذا الاتفاق في سياسة “التوازن” التي سبق أن أشارت إليها تبريراً لتوقيعها على اتفاق بالتسمية نفسها مع إيران (آذار/ مارس 2021) لمدة 25 سنة، تحصل خلالها على نفط إيراني بأسعار متدنية مقابل استثمارات صينية في مشاريع واسعة للبنية التحتية (طرق، موانئ، شبكة اتصالات متطوّرة…). لكن بكّين تميّز بالضرورة بين الحالين، فالاتفاق مع السعودية يملك مقوّمات كثيرة للانطلاق في أقرب الآجال، استناداً إلى اقتصاد حيوي وورش 2030 التي تجتذب الاستثمارات، ولا سيما المشروع الضخم القائم في مدينة “نيوم” وما يوفّره من فرص بالنسبة إلى التكنولوجيات الجديدة.
في المقابل، لمست بكين على الأرض أن الاقتصاد الإيراني دخل مرحلة ركود منذ عودة العقوبات الأميركية في 2018، بعدما مرّ بمرحلة انتعاش في 2016 و2017 مع تنفيذ الاتفاق النووي. وكان الناطق باسم الخارجية الصينية قد صرّح بأن الاتفاق الاستراتيجي مع إيران “لا يتضمّن أي عقود أو أهداف كمّية ومحدّدة”. وتفيد دراسة لـ”معهد دول الخليج العربية في واشنطن” بأن المسار الذي اتخذه هذا الاتفاق بقي غامضاً، ولا تزال حكومة إبراهيم رئيسي تحجم عن عرضه على البرلمان للمصادقة عليه، بسبب الشعور العام بأن الاتفاق لم يعزز الاقتصاد الإيراني ولم يُحدث تغييراً جوهرياً في المسار الأوسع للعلاقات، ولم يُخرج إيران من عزلتها الدولية. عدا ذلك تجد طهران صعوبة في الاندماج في خطة “الحزام والطريق”، وتعتقد بكين أنه حتى إذا رفعت العقوبات فإن إيران لن تتمكّن في المديين القصير والمتوسّط من الاندماج في الأسواق المالية العالمية، وبالتالي فإن الانفتاح عليها سيبقى أدنى من ذلك الحاصل مع السعودية والإمارات.
رغم أن قمم الرياض عُقدت تحت شعار “التعاون والتنمية”، إلا أن الأبعاد السياسية لم تكن غائبة، ولا تدلّ إلى ذلك المواقف الواردة في البيان الختامي فحسب، بل لأن الاقتصاد والتنمية يغدوان أكثر فأكثر مفتاح تغيير السياسات والاستقطابات. فالجامعة العربية اعتبرت أن القمة العربية – الصينية “خطوة جديدة لبناء نظام اقتصادي دولي أكثر توازناً”، وهذا يعبّر أيضاً عن توجّه سعودي – خليجي إلى ما يدعم استقرار المنطقة وفصلها عن الصراعات الدولية. لم يكن في المواقف السياسية التي تضمّنها البيان الختامي ما يفاجئ، سواء بدعوته إيران إلى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والتعاون مع وكالة الطاقة الذرّية لضمان “سلمية” برنامجها النووي، أم بدعمه جهود التوصّل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية استناداً إلى المبادرة السعودية لإنهاء الحرب في اليمن، أم بالنسبة إلى القضية الفلسطينية وأزمتَي لبنان وسوريا… أي أن البيان لم يتضمّن ما يستفزّ الولايات المتحدة، وذلك بإرادة الطرفين الصيني والعربي، لكن التعاون الاقتصادي والوضع الجيوسياسي الناجمين عن تلك القمم يؤسسان لواقع إقليمي لم تكن واشنطن تريد له أن ينشأ بمعزل عنها.
صحيح أن الصين تمتنع تقليدياً عن الخوض في الصراعات الداخلية والإقليمية واعتماد سياسات محدّدة فيها، إلا أن تأثيرها يتزايد، ودائماً على خط مناقض لتوجّهات الولايات المتحدة. فهي تتمايز، مثلاً، عن نهج إيران في إدارة أزمة البرنامج النووي، لكنها ترفض كلياً أسلوب فرض العقوبات الأميركي. صحيح أيضاً أن الدول التي تتعاون مع الصين لا تعوّل عليها أمنياً أو سياسياً، فهي لا توفّر ضمانات إلا في الإطار الذي يمسّ بأمنها المباشر أو يمنحها قدرة على المناورة (كوريا الشمالية؟)، إلا أن تجارب العقدين الأخيرين ووقائعهما، وحتى ما قبلهما، طرحت علامات استفهام كثيرة حول “الضمانات الأميركية” وحدودها بالنسبة إلى دول الخليج وغيرها، بل إنها تطرح الآن علامات استفهام أكبر حول انعكاسات العوائق الأميركية على الاقتصادات الوطنية وتحكّمها بالاستقرار الذي تنشده الدول كافة، خصوصاً بعدما أصبح واضحاً أن “التحديات” ليست دائماً خارجية مرتبطة بالقدرات الأمنية بل داخلية تتعلّق بالاقتصاد والتنمية.
خطوة بعد خطوة تثبت السعودية ودول الخليج أنها المنطقة المستقرة في الإقليم، وأنها قادرة على الانفتاح على الولايات المتحدة والصين وحتى على روسيا في آن، ولم تعد مستعدة للانخراط في صراعات لا تعني أمنها والحفاظ على استقرارها، وبالتالي فهي لا تتوقّع من الدول الكبرى سوى أن تقبل خياراتها وتحترمها. هذا ما تحاول الصين أن تثبته، وكما أنها نأت بشراكتها الاستراتيجية مع إيران عما يثير مخاوف الخليج، فإن من شأن شراكتها الاستراتيجية مع السعودية ومصالحها المتقدمة مع الدول العربية أن تشكّلا واقعاً رادعاً للعدوانية الإيرانية.
المصدر: النهار العربي