قبل البدء لابدّ من تأكيد عدة حقائق موضوعية، بل غدت مسلمات في الذهنية الشعبية العربية على الأقل.. أولها: – إن إسرائيل دولة عنصرية وعدوانية منذ نشوئها عام 1948 وعدوانها غير قائم على مصلحة عارضة تريد تحقيقها كما في معظم الصراعات الدولية التي تنشأ.. إنما هي اغتصبت جزءاً هاماً من وطن دونما وجه حق، وتسعى اليوم للإجهاز على ما تبقى منه ناهيك باحتلالها لأجزاء من الأراضي العربية، وتمسكها بها، والعالم غارق في صمته (الجولان السورية) وثانيها:
– إن إسرائيل، من جهة أخرى، أكدت دوام وجودها، وهذا يجب ملاحظته لمعرفة تقصيرنا ونواقصنا، أقول لم تحقق وجودها بالقوة العسكرية وحدها، و(إن كانت القوة موجودة، إن لم تكن لديها فلدى الدول الداعمة لها) بل أكدت وجودها بكل ما يلزم الدولة المعاصرة من عوامل لقيامها (إدارة سياسية صحيحة، صناعة وزراعة وتجارة، مراكز بحث علمي، علاقات واسعة مع دول العالم أجمع) ما أدى إلى تطورها المستمر في وسط معاد لها كلياً إن لم يكن بين الحكام، فحسب، فهو موجود وبقناعة راسخة لدى شعوب المنطقة كافة..!
– بقاء العرب على تخلفهم إن لم يكونوا قد ازدادوا فرقة وتخلفاً، وإن بنسب مختلفة، وتتباين الدول العربية في شكل حكمها بين ممالك وجمهوريات وإمارات.. لكنها في الجوهر تجاه أنظمتها السياسية واحدة.. إذ هي أنظمة تحاكي نموذج دول ما قبل الثورات البرجوازية، وإن اختلفت في رعاية شعوبها بسبب الريوع النفطية العالية التي تتمتع بها الكثير من البلاد العربية. أما مواقفها تجاه القضية الفلسطينية فهو، في جوهره، واحد. وهو موقف مائع لم يأخذ سبيل الجدية أبداً، وغالباً ما تميل الدول باتجاه مصالحها، وهذا أمر طبيعي، ولكني أعني الموقف الاستراتيجي في المنطقة، أو كما يسميه علم السياسة بالأمن القومي، وتمارسه أمم الأرض كلها..! ولا أعني المواقف العسكرية، وكلها تملك جيوشاً وتصنف عالمياً بأنها قوية، ولديها من الأسلحة ما يكفي.. ولكني أعني موقفاً سياسياً واحداً يستفيد من إمكانيات هذه الدولة أو تلك وبما تملكه من قدرات سياسية واقتصادية لهما تأثيرهما في العلاقات الدولية التي لها تأثيرها أحياناً أكثر من تأثير الجيوش نفسها..
– لا تختلف قيادات الشعب الفلسطيني بكياناته السياسية المختلفة عبر الاثنين والسبعين سنة الماضية إذ هي مشتتة تتبع في سياستها هذه الدولة العربية أو تلك وتقمعها، في الوقت نفسه، هذه الدولة العربية أو تلك.. وقياداتها وما بينها من صراعات أبدية أيضاً..!
ولابد، مع مرور هذه الذكرى الأليمة، من الإشارة إلى عدة محطات مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية ودونما دخول في تفاصيل كثيرة يمكن القول:
– إن البداية جاءت من رفض قرار مجلس الأمن (بغض النظر عن صحة الموقف أو خطئه)، فإن ما حصل بعده مباشرة خطأ جسيم.. أي بقاء الشعب الفلسطيني دونما أي كيان على ما تبقى له من أرضه الفلسطينية، إذ سلمت الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الأردن ومصر ليبقى الشعب الفلسطيني مشتتاً في المهاجر معلقة آماله على الحكام العرب الذين وعدوه أو بعضهم لدى تهجيره بأنه عائد لأرضه خلال أيام أو أسابيع.. و(ساهمت بعض الدول العربية في عملية التهجير إذ قدمت له الشاحنات لتهريب المدنيين من ضربات منظمة الهاجانا العسكرية الصهيونية).
– بعد خسارة الحرب عام 1948 بزمن ربما طال بعض الشيء، وفي عام 1964 التفَتَ العرب ومعهم الفلسطينيون إلى الواقع الفلسطيني، فعمدت أغلب التنظيمات الفلسطينية، آنذاك، ومن خلال مؤتمر القمة العربي الذي دعا إليه، آنذاك، الرئيس جمال عبد الناصر، إلى تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية كياناً واحداً يمثل الشعب الفلسطيني، وتعمل على تعبئة “قوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركة التحرير” كما جاء في وثائق المؤتمر الذي انعقد في القدس في 28 أيار 1964 وانتخب قيادة لها، وكانت خطوة مهمة جداً..
– حرب 1967 التي كانت نكبة ثانية إذ هزمت ثلاثة دول عربية دون حرب فعلية، إذ تكشف الهجوم الإسرائيلي المباغت عن ضعف العرب، وتخلف عدتهم، وتدريبهم، واستهتارهم، رغم ضجيج الشعارات الذي بلغ عنان السماء.. وإذا كانت حرب تشرين 1973 قد حققت تقدماً في بداياتها فإن نتائجها كانت مدمرة.. إذ قادت أنور السادات إلى إلقاء سلاح مصر والذهاب إلى إسرائيل لتوقيع اتفاق سلام أصاب العرب عموماً بذهول لكنَّ حافظ الأسد في سورية تبعه بعقد اتفاقية فصل القوات التي كانت في جوهرها مثل فعل السادات إن لم تكن أسوأ إذ أمنت الحدود مع إسرائيل، ولعلَّ إسرائيل لم تكن ترغب بأكثر من ذلك، وانشغل الجيش السوري في لبنان، وبدأت اغتيالات الوجوه الوطنية اللبنانية ثم حدثت مذبحة تل الزعتر التي أعقبتها نتائج كارثية لعلها الأكثر مرارة في تاريخ الكفاح الفلسطيني بعد قيام دولة إسرائيل ومنها:
أولاً: لجم الحركة الوطنية اللبنانية وإبعادها عن فعل المقاومة الذي بدأته بقوة وتأثير، زرعا آمالاً وطنية لا للشعب الفلسطيني فحسب بل لشعبي سورية ولبنان أيضاً، وثانياً: إبعاد منظمة التحرير عن مجالها الحيوي في لبنان ما كان له ارتدادات خطيرة، كاتفاقات أوسلو التي أتت في سياق ذلك التدهور والانكسار.. أما ثالثة الأثافي: فكانت بتسليم الملف الفلسطيني إلى إيران عبر حزب الله ليقع العرب أجمعين، بعد ذلك، في كارثة ربما توازي في فظاعتها الوجود الإسرائيلي نفسه. (وهذا ما نلمحه اليوم في سورية ولبنان والعراق واليمن.. ويمكن الإشارة أيضا كبند رابع إلى تلك الفقاعات التي يقوم بها الإسلام السياسي الفلسطيني ولا تجلب غير الويلات للشعب الفلسطيني دون تقديم أي شيء إيجابي ملموس للقضية إذ غالباً ما تصب أفعال الإسلام السياسي الفلسطيني في مصلحة إيران.. وما يمكن اعتباره بندا ًخامساً: هو أخطر ما تتعرض له القضية الفلسطينية هو عملية التطبيع التي تدار تحت الطاولات اليوم وخصوصاً في ظرف تسعى في إسرائيل وأمريكا لتصفية القضية بكاملها..
ولعلَّ الأنسب في هذه الذكرى الثانية والسبعين لبداية النكبات الفلسطينية التي تأتي في ظروف تتردى فيه الحال العربية، هو العمل السياسي مع العرب أجمعين وعلى نحو موحد لإيقاف هذا التدهور، وقد يكون الأمر صعباً، ولكنه ليس بمستحيل إذا عرفنا قيمة الإمكانيات السياسية التي يملكها العرب باستغلالهم ما بأيديهم من ثروات وما لدى دول العالم من مصالح متناقضة.. وربما يكون البدء بالعمل الجدي لوقف زحف التطبيع الذي لا مبرر له، ولا فوائد ترجى منه، ثم إنّ العمل على سحب الملف الفلسطيني من يد الإيرانيين أمر في غاية الأهمية.. والابتعاد عن المقتل الذي يأتي من شعارات السياسيين التي تستخدم لتهييج الجماهير البسيطة واصطيادها..
المصدر: نينار برس