عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر صدرت رواية احتضار الفرس للكاتب السوري المتميز خليل صويلح. وكنا قد قرأنا بعض رواياته منها عزلة الحلزون واختبار الندم وكتبنا عنهم…
احتضار الفرس رواية خليل صويلح الأحدث تعتمد أسلوب المتكلم في السرد على لسان الراوي نفسه. وهي معاصرة جدا حيث تتحدث عن واقع سوريا بعد مضي عشرة سنوات على ثورتها التي حصلت في ربيع ٢٠١١م…
يعمل الكاتب صحافيا في احدى الدوريات ومنذ زمن بعيد، له مقال ينشر بشكل أسبوعي . يعيش وحيدا في شقة سكنية في أحد أحياء دمشق. أصله من إحدى قرى القامشلي، له جذور بدوية، استقر منذ زمن بعيد في دمشق. في العقد السادس من عمره، يعاني من كثير من الأمراض، لم يبق له في قريته الا امه الكبيرة في السن والتي تعاني من أمراض مختلفة، لم يزرها منذ زمن بعيد، حيث ظروف سوريا التي تعيشها منذ عشر سنوات. ثورة الشعب مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. ردة فعل النظام الذي قتل المتظاهرين واستباح البلد والشعب ودمّر الشجر والحجر. مع دخول كل الدول في الحرب السورية، باحثة عن مصالحها. مآلات مأساوية لسورية بعد عشر سنوات. دخول روسيا وإيران كمحتل لسوريا بدعوى من النظام لحمايته. رعاية امريكية للانفصاليين الاكراد في الشمال الشرقي السوري وشرق الفرات، مع سيطرة على النفط والغاز واستثماره أو سرقته ان صح التعبير. السوريين المهجرين الواقعين بين سندان النظام والجماعات المسلحة المتشددة التي كان نموذجها الأسوأ داعش وما فعلت: استباحت البلد والناس واعتمدت على المشهدية في القتل والتنكيل بغطاء ديني مُدّعى. الشعب المشرد داخل البلاد وخارجها. الشعب الجائع والفقير والمسكين… كل ذلك حاضر في ذهن الكاتب الذي جاءته رسالة تتحدث عن إحضار جيش النظام لتابوت ابن أحد الأشخاص في الخارطة السورية وسلمته لاهله على أنه شهيد، دفن برعايتهم على عجل وسلموا للاب وثيقة شهادة ابنه ليفتخر بها. الاب انتظر حتى الليل اخْرج التابوت فتحه ثم فتح كيس الجثة وجد أشلاء لجثة تفتقد إلى يد وأغلب اعضاء الجثة مبتورة. لم يتأكد انه ابنه أم لا… هكذا حال القتلى الذين يموتون في الحرب على الشعب السوري. أشلاء تحت أنقاض بناء من برميل متفجر وصاروخ من طائرة او قذيفة مدفع… كلها ميتات متنوعة تنهال على السوريين. يصل خبرا للكاتب أن أمه قد توفت. يقرر الذهاب من دمشق الى قريته في القامشلي، لم يكن متاحا له إلّا ركوب طائرة شحن روسية تحمل توابيت قتلى ومرضى سرطان كانوا يتعالجون في دمشق. ركب معهم كبضاعة. وصل الى القامشلي وجد المدينة وقد صبغت باللون الانفصالي الكردي مع ما يعنيه من تمايز مجتمعي وخوف وهوان. لم يبق للنظام هناك الا بيت المحافظ الذي يشبه سجنا له. ذهب إلى القرية. كانت شبه مهجورة. اصابها ما اصاب سوريا كلها اغلب اهلها غادرها ولم يبقى الا العجائز. ذهب الى قبر امه، بكاها كثيرا وندم انه لم يراها منذ زمن بعيد وهي آخر ما تبقى له من عائلته. اكتشف تفاهة حياته وكيف فرّط بأهم ما في حياته وهي أمه… جلس وقتا هناك وعاد إلى دمشق. كان لا بد أن يأتي برا في واسطة نقل عادية استغرق ذلك حوالي الثلاثين ساعة. الطريق الطويل. الانتقال في مناطق سيطرة مختلفة. البعض تحت سيطرة الكرد الانفصاليين والبعض تحت سيطرة إسلاميين متشددين النصرة وأمثالها. والبعض تحت سيطرة النظام. حواجز حواجز حواجز… وعند كل حاجز تجد نفسك مشروع ضحية. اخذو الراكب جواره صائد الصقور في أحد الحواجز، ولم يعرف مصيره. ماتت امرأة كانت برفقة زوجها، كان يصحبها إلى دمشق للعلاج. حواجز للنظام والقوى المهيمنة في كل منطقة جديدة تقطعها الحافلة من القامشلي الى الشام. لم يغادر الكاتب الإحساس العميق بالموت الذي يحوم حوله وحول السوريين كل الوقت. يسترجع روايات وقصص وتواريخ واحداث بطلها الأوحد الاكبر الموت، عاين سوريا المقطعة الأوصال والتي توزعها غنيمة كثير من قوى الأمر الواقع مشروعيتهم الوحيدة السلاح واستعدادهم قتل كل من يقف بوجههم، استرجع تدمر وما أصابها أيام هيمنة داعش عليها. دمروا التاريخ وحولوا سوريا بعد ذلك لموقع نهب للماضي عبر الآثار، والآخرين نهبوا الحاضر عبر سرقة النفط والغاز . عاد إلى دمشق يتابع عمله ويرصد ما حوله بكل عمق وتفلسف، يتوقف أمام جاره المصور الحربي الذي صوّر أهم الحروب في الخمسينات في جميع أصقاع العالم وكيف مات دون أي اهتمام وكيف سطا على بيته أحد الحيتان الجدد من أزلام النظام الذين يتعيشون على مآسي الناس، دمروا كل أرشيفه وحوّلوا بيته الى دار دعارة… أصبحت الشام مركز دعارة كبير وأصبحت مصبّا لنهر الهاربين من الموت الملاحق لهم. قادمين من جوار دمشق وغوطتها والأرياف المجاورة ، مشردين يستوطنون الشوارع والحدائق، أصبحوا ضحايا نصب واحتيال وتجار البشر والدعارة والاتجار بالأعضاء، لا يسلم من ذلك الاحياء والاموات. وراء هذه الحياة القاتمة منتفعين من رجال النظام أو من مدعومين من النظام يستعملهم ادوات ظاهرة تستثمر الحال السوري الذي يشبه موته موتا معلنا يمارس على كل من بقي في سوريا. التي يهاجمها الجراد الطائفي الإيراني. تغيير البنية السكانية والمجتمعية، في محاولة جادة لانتزاع هوية البلد بعد أن طردوا اهلها او قتلوهم او هجّروهم…
يعيش الكاتب كل ذلك بعين المراقب المتشرب لكل المآسي الاجتماعية والمجتمعية التي حاقت بالسوريين وهو منهم. يحلم بحبيبته التي تركته لتصبح بعضا من أملاك أحد الضباط الذي اشتراها ببيت وحياة مرفهة لتلبي رغباته الجنسية حين يشاء… يستعيد الكاتب ذكرى الكثيرين من اصدقائه أغلبهم ماتوا أو رحلوا، يحسدهم انهم لا يعيشون احتضار سوريا التي تموت رويدا رويدا تحت نظره وهو عاجز أن يفعل أي شيء…
تنتهي الرواية عند لحظة انهيار نفسي للكاتب وهو يعايش كل هذه المآسي يحلم أن تعود له حبيبته بنقرتها المتميزة على الباب، بالياسمين الذي تحضره له، ووضعته أمامه على طاولته. يغيب عن الوعي وهو مدرك ان حبيبته لن تعود…
في التعقيب على الرواية اقول:
نجح الكاتب أن ينقل لنا صورة المأساة السورية بكل ألمها وبقدرة تصويرية رائعة مستفيدا من ذخيرة معلوماتية لروايات أو حوادث استفاد منها ليرسخ في ذهننا كقراء عمق المأزق السوري والواقع الأسود الذي يعيشه كل السوريين: من رحل ومن بقي…
رغم كون الكاتب في دمشق وكتبها وهو هناك فقد نجح في توصيف الواقع بتورية مدروسة في الحديث عن النظام الطائفي المجرم، وأنه المسؤول عن كل ما حصل في سوريا، النظام الذي يستمر باستثمار خرابها ودمارها وتشريد شعبها دون أن يتحدث بالمباشر عنه، لكن الواقع يشير الى المجرمين وأفعالهم. وواقع الضحايا ينوّر عمق المأساة وعمق الجرم الذي أصابهم بشرا وحجرا ومستقبلا…
سوريا التي اصبحت مرتعا للدول تستعمرها عمليا روسيا وإيران وأمريكا والميليشيات الطائفية حزب الله اللبناني والميليشيات الانفصالية ال ب ي د فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا. التي أصبحت شبه دولة وتخدم مصلحة الأمريكان. الشمال السوري المحرر وواقع الاكتظاظ البشري والأفق المسدود وحال هيئة تحرير الشام وعدم معرفة إلى أين تسير الأمور مع صمت العالم كله وترك المأساة السورية تتفاقم…
السوريون الذين زُرعوا في المخيمات مشردين، أو البحار غرقى، او في الغرب يبحثون عن مأوى وكرامة و وطن بديل…