هل من تغيرات استراتيجية تركية أميركية في المنطقة؟

أحمد مظهر سعدو

تشهد المنطقة انزياحات نسبية في كثير من المحددات الاستراتيجية للسياسات الأميركية والتركية كما تشهد الجغرافيا السورية بعض التغييرات في بعض نواحٍ تنفيذية تتكئ على أبعاد متجددة في الاستراتيجيا، ضمن مفاعيل دولية وإقليمية دراماتيكية، من الممكن أن تكون صدىً لما يجري في أوكرانيا، بعد الغرق الروسي في الوحل الأوكراني منذ شباط الفائت وحتى اليوم.

لكن من المؤكد أنه ليس هناك تراجع تركي عن جل المسائل الاستراتيجية التي دأبت الدولة التركية في الاشتغال عليها خلال العقدين الأخيرين من الألفية الجديدة، وخاصة عبر منحيين اثنين هما: مقارعة الإرهاب بكل تلاوينه الداعشية والـ”ب ك ك”، وهي قضية ترى أنقرة أنه لا يمكن التراجع عنها حتى تحقيق المصلحة التركية القومية بكليتها، من منطلق أن جذر الإرهاب يهدّد ليس فقط أمن الوطن التركي بل هو يعبث في كل المحيط الإقليمي الذي يؤثر بالضرورة على مجمل الوضع الداخلي في تركيا، وهو ما بدت مفاعيله المباشرة عبر الهجوم الإرهابي الذي تبين أن وراءه إرهاب “ب ك ك”، وأسفر عن مقتل ستة أشخاص وجرح 81 آخرين وسط مدينة إسطنبول بتاريخ  13 من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، حيث جرى التخطيط والتدريب له في عين العرب (كوباني).

إضافة إلى أن المسألة الاستراتيجية  الثانية التي وقفت تركيا إلى جانبها كخيار أكيد كانت نصرة المظلومين من الشعب السوري والشعوب الإسلامية المجاورة والإقليمية في العراق وأفغانستان، وهي قضية ما برحت تعمل من أجلها الحكومة التركية حتى لو نادت بالانفتاح مع نظام الأسد، إلا أنها ما زالت تعمل ضمن مصالحها الاستراتيجية على الوقوف إلى جانب حق السوريين في اختيار الدستور والحكم الرشيد الذي يحقق لهم الحرية والكرامة والحق والعدل، قد تتغير الأساليب والتكتيكات المنبعثة من أتون الاستراتيجيا لدى الأتراك، لكنها وفي الجوهر لن تشكل انزياحات كبرى أو تراجعاً عن جملة الخطوط الاستراتيجية التركية التي عملت عليها حكومة حزب العدالة والتنمية منذ 11 عاماً أو يزيد. ولا يمكن القول إن تغييراً كليّاً سيطولها.

أما عن الاستراتيجيات الدولية، خاصة الأميركية منها، فإن للإدارات الأميركية المتعاقبة استراتيجيات منجدلة فيما بينها لا تخرج عن المصلحة الأميركية أولاً وأخيراً، ثم الحفاظ على أمن إسرائيل في المنطقة، وهو الأهم لديها ضمن استراتيجياتها في الشرق الأوسط، وخاصة الوضع في سوريا.

وقد استمرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على هذا المنحى ضمن مسارات بطيئة ومترددة وغير مهتمة كثيراً، لكن العديد من الإشكالات الأمنية التي سببتها لها “قسد” وما حولها من إرهاب يتعدى بممارساته على الجوار، ومن ثم تعكير صفو العلاقة مع تركيا الدولة الحليفة في الناتو، يبدو أنها ستدفع الإدارة الأميركية إلى تفكير جدي في الانسحاب من شمال شرقي سوريا، وهو ما رشّح عن بعض القراءات داخل مراكز صنع القرار الأميركية، وقد أدى إلى تخوفات كبيرة من قبل “قسد” وتوابعها، فراحت تطالب النظام السوري المتهالك بالوقوف إلى جانبها في حربها ضد تركيا.

لا بد من القول إن الإدارة الأميركية لا يمكنها التفريط بعلاقة هي الأهم والأكثر مصلحة مع الدولة التركية الحليف الاستراتيجي للإدارة الأميركية في حلف الناتو وصاحبة الدور الكبير في المنطقة برمتها، وخاصة عبر القناة المفتوحة مع الروس، وسبق أن تخلت الإدارات الأميركية عن الأكراد في شمالي العراق، وامتنعت عن الموافقة عما فعلوه من محاولة استقلال الإقليم، لذلك ليس من الصعب عليها اليوم التخلي عن “قسد” والانسحاب شبه الكلي – حسب التصورات – من هذه المنطقة.

ويمكن الاعتقاد أن الترجيح ضمن السياسات الأميركية في قادم الأيام قد يكون في هذا المنحى، وإن كانت بعض المتغيرات التي قد تحصل نتيجة المفاوضات تحت الطاولة بين أميركا وروسيا، التي يقال إنها تجري في الأراضي التركية، وبرعاية من الحليف التركي، من الممكن أن تغير في بعض الحسابات، وبالتالي النتائج، فيما لو لاقت تقدماً ما، أو نجاحات حقيقية، أو حتى عكس ذلك.

من هنا فإننا سوف نشهد خلال الأيام والأسابيع المقبلة، وضمن الاستراتيجية التركية المعدلة بعض التغيرات نحو الموقف من الشمال الشرقي لسوريا. وتركيا اليوم وضمن استراتيجية أنقرة “المعدّلة”، تستهدف الموارد الاقتصادية والنفطية لـ”قسد” التي تستند عليها في تمويل الإرهاب وهي سياسة مستمرة وطويلة ستفضي إلى تجفيف منابع الدعم، وما زالت تركيا تحاول تنفيذ أجنداتها واستراتيجياتها عبر أساليب متنوعة  متعددة، حيث أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم الجمعة الفائت، أن هدفه إقامة “حزام أمني من الغرب إلى الشرق” على طول الحدود الجنوبية لتركيا. وستشمل هذه المنطقة التي تكلم بخصوصها الرئيس التركي، مدينة عين العرب (كوباني) التي أخذتها “قسد” عام 2015، بعد الحرب الدولية على تنظيم الدولة، ومن خلال دعم من الولايات المتحدة الأميركية حينها.

وعين العرب هي منطقة استراتيجية تفصل بين مناطق عمليتي “درع الفرات، وغصن الزيتون” شمال غربي سوريا، ومنطقة عملية “نبع السلام” شمال شرقي سوريا، حيث تنتشر القوات التركية والجيش الوطني على طول الحدود ما عدا منطقة عين العرب.

وتشمل المنطقة المستهدفة من قبل الخطة التركية كلا من مدينتي (تل رفعت) شمالي حلب ومدينة (منبج) شرقي حلب، بالإضافة إلى مدينة عين العرب، وذلك من أجل استكمال المنطقة الأمنية التي سيكون عرضها 30 كيلومتراً على كل طول  الحدود بين سوريا وتركيا.

السياسة العسكرية الاستراتيجية التركية تؤكّد أنها لن تسمح بأي تماس مع القوات الأميركية المتمركزة هناك، ولا حتى الروسية، وقد نفى وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، المزاعم التي تشير إلى أن القوات التركية “قصفت نقطة مراقبة أميريكية” شمالي سوريا، وقال في تصريحات صحفية: “ليس من الوارد إطلاقاً أن نلحق الضرر بقوات التحالف أو المدنيين، وهدفنا الوحيد الإرهابيون، إذ عدم إلحاق الضرر بالمدنيين والبيئة من أهم مبادئنا”.

من خلال هذه القراءة نرى أن هناك تغيرات ما من الممكن أن تجري ضمن السياسات الأميركية والتركية، لكنها جميعاً ستصب في سياقات ومصالح هذه الدول أولاً، وكذلك في تقليم أظافر الإرهاب في المنطقة، التي سيستفيد منها الجيش الوطني السوري، وهو الذي ما انفك يجري استعداداته العسكرية للمشاركة في المعارك البرية فيما لو حصلت، وهي في الحقيقة وفي حال السيطرة على مدن استراتيجية مثل: (منبج وتل رفعت وعين العرب) فإنها ستسمح لأعداد كبيرة جدًا (قد تتجاوز المليون) في العودة الطوعية إلى مدنهم التي تم تهجيرهم منها من خلال الإرهاب القسدي إلى تركيا، وكذلك إلى مناطق أخرى في الشمال السوري.

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى