تلاشى عالمنا الذي فتحنا أعيننا عليه , لم يبق منه سوى ذكريات متناثرة , كان عالما صغيرا ..البيت , الحارة , المدرسة , الأقارب , الأصدقاء , معالم المدينة , شوارعها الرئيسة , أزقتها الضيقة , العاصي , النواعير , الكورنيش على طرف العاصي من جسر الشهيد شفيق العبيسي إلى البشريات .
كانت حماة صغيرة , تتمركز البيوت في الوادي حول النهر , إلى الشمال الحاضر الكبير يمتد لكم واحد أو يزيد قليلا من ساحة الساعة مركز المدينة , بعد ذلك كان هناك أطراف المدينة بيوت الفقراء والوافدين حديثا ومعظمهم من أصول بدوية .
إلى الجنوب تنتهي حماة بحي العليليات الشعبي المتسلق على تلة لاتبعد عن ساعة حماة سوى كم واحد أو أقل قليلا .
من الغرب أيضا هناك مايقرب من كم واحد أويزيد قليلا وصولا إلى نهاية واحد من أقدم أحياء حماة وهو باب قبلي . ومن الشرق تضيق المسافات أكثر وصولا إلى حي الشريعة الحديث وأبنيته المتناثرة وقتها والقابع في التلال المشرفة على العاصي ولا يتسع البناء أيضا إذا اتجهت للقسم الشمالي من المدينة سوى لمسافة تساوي بالكاد ما اتسع إليه الشرق في السوق .
باختصار كان بإمكانك إذا تركت أطراف المدينة أن تعبر حماة مشيا من الجنوب للشمال خلال حوالي نصف ساعة , وأكثر من ذلك بقليل إذا عبرتها من الشرق للغرب حيث تضطر للسير ببطء في التلال خاصة لجهة الغرب .
أما معظم الأقارب والأصدقاء فكانوا على مسافة لاتزيد في معظم الحالات عن ربع ساعة مشيا على الأقدام .
لم نكن نحتاج لسيارة ولا باص ولا أي وسيلة نقل للتنقل , حتى للذهاب والعودة للثانوية البعيدة في طرف المدينة وقتها – ثانوية ابن رشد – .
صغر المسافات , لم يكن تقارباً في المكان فقط لكن في العلاقات الحميمية بين الجيران وبين الأقارب وأصدقاء الحارة والمدرسة .
كانت حارتنا ومدرستنا هي العالم , وبقية حارات المدينة عوالم أخرى حتى أننا كنا نشعر بشيء من الاغتراب حين ندخل في حارات الآخرين .
كانت اتصالنا بالعالم الخارجي ضعيفا إلى حد لايصدق , دع عنك الرحلات المدرسية النادرة , عندما صرت في نهاية الدراسة الثانوية , وقتها قررت أنا وصديقي المرحوم الدكتور بشار الجمال أن نقوم بمغامرة السفر إلى حمص وحدنا والعودة قبل المغرب .
أما السفر لدمشق وحلب فكان شيئا يشبه الأحلام الجميلة , والحدث الذي ينطبع في ذاكرتنا أكثر مما ينطبع في ذاكرة هذا الجيل رحلة إلى القمر .
كنا نعيش في بساطة من الصعب تصورها اليوم , لكن جيلنا كان مفعماً بروح عالية من الطموح والآمال , وكنا نرى الطرق أمامنا مفتوحة بلاحدود .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي