خريطة التفاهمات والمشروعات الأمنية الجارية في الإقليم تتطلب مراجعة بنوده التاريخية وهذه أبرز المسارات الأمنية المطروحة عربياً وإقليمياً.
يكشف تطور الأوضاع العربية سياسياً واستراتيجياً أن هناك حاجة ملحة إلى إعادة التركيز على الثوابت العربية – العربية التي يتعامل معها النظام الإقليمي العربي الذي يواجه في الوقت الراهن تحديات عاتية، من إعادة طرح وتدوير الأفكار الإقليمية والنظام الشرق أوسطي، وهو ما يتطلب إعادة استشراف الوضع العربي في نطاق التحديات والأخطار الراهنة.
وفي ظل جملة من المشاريع المقترحة التي تدعو إلى استبدال النظام الإقليمي العربي بنظام بديل ومستجد، يقفز التساؤل إلى أين وصل النظام الإقليمي الراهن؟ وماذا عن اتفاق “الدفاع العربي المشترك”؟
الوضع الراهن
تشير جملة التطورات العربية الإقليمية والدولية الراهنة إلى عدم وجود إدراك على مستوى بعض الدول بضرورة الاتجاه إلى إحياء النظام الإقليمي العربي بكل مؤسساته الحالية، أو على الأقل التوجه نحو إحياء اتفاق “الدفاع العربي” بدلاً من الاعتماد على الطرف الإقليمي أو الدولي، أو تجميد نص الاتفاق الدفاعي الذي يعتبر أحد أهم ركائز العمل العربي في مواجهة أية أخطار أو تحديات تواجه الدول العربية، ولم يتم العمل بها في ظل اندلاع الأزمات العربية، لتشابك المواقف وتعدد الرؤى وعدم وجود اتفاق جمعي على ما يمكن طرحه، وقد حدث ذلك تباعاً خلال الأزمات العربية المتلاحقة.
ويغلب على معظم الترتيبات والتفاهمات الأمنية في الوطن العربي طابع رد الفعل، أي أنها أنشئت في وقت معين للرد على حدث أو قضية ما، ومن ثم فقد يحدث أن جمدت من بعدها، سواء بانقضاء هذا الحدث أو لفشل الترتيبات في حلها، وهذا نراه واضحاً على سبيل المثال في قوات درع الجزيرة التي أنشئت لمواجهة الخطر الإيراني والعراقي آنذاك خلال فترة حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها، فلا هي حمت الكويت من الغزو العراقي، ولا أصبحت تمثل قوة ردع لإيران في المنطقة، وهذا الأمر أيضاً حاضر مع مجلس الدفاع المشترك المؤسس بموجب معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي الذي أنشئ لمواجهة التحديات الإسرائيلية، وأصبح الآن مجمداً بلا وظيفة حقيقية له، وهلم جراً.
يذكر أنه قد جرى تفعيل الاتفاق خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 من طريق مشاركة قوات عربية لمصر وسوريا بطرق عدة، مثل المشاركة بالمعدات الفنية والقوات والأموال، إضافة إلى قرار وقف إمداد الدول المتعاونة مع إسرائيل بالبترول.
إلا أنه لاحقاً تجاهلت الدول العربية تفعيل الاتفاق أثناء الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982، على رغم أن لبنان إحدى الدول الموقعة على الاتفاق، كما فشلت الجامعة العربية بعد ذلك عام 1990 في وقف العدوان العراقي على الكويت.
الترتيبات الأمنية
يمكن القول إن المنطقة العربية تتجه نحو مزيد من التعزيز والتوسع في إنشاء الترتيبات الأمنية في المنطقة مع انقضاء وتراجع الترتيبات الأمنية التقليدية، ويأتي هذا التعزيز والتوسع في مثل هذه الترتيبات بسبب تنامي التهديدات غير التقليدية التي تهدد أمن المنطقة العربية، وتغليب كل طرف عربي مصالحه الوطنية على المصالح الشاملة للوطن العربي، مع استمرار ظاهرة الاستعانة بالقوى الكبرى الأجنبية للرد على التهديدات الإقليمية من دون العمل على تطوير استراتيجية أمنية عربية موحدة لمثل هذه التهديدات، إضافة إلى أن هذه التحالفات والتفاهمات تؤدي إلى نوع من السباق المحموم نحو إنشاء تحالفات وتحالفات مضادة، مما يدخل المنطقة في حال من عدم الاستقرار.
وتنقسم الترتيبات الأمنية في المنطقة العربية خلال الوقت الراهن وارتباطاً بالمقارنة مع وضع “اتفاق الدفاع العربي المشترك” إلى ترتيبات أمنية قائمة وترتيبات أمنية حديثة، ومنها قوات “درع الجزيرة” و”مجلس الدفاع المشترك” و”تحالف دعم الشرعية في اليمن”، والترتيبات الأمنية بين دول الخليج العربي والقوى الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، التي أخذت شكل اتفاقات تعاون عسكري أو اتفاقات أمنية، والترتيبات الأمنية العراقية – الأميركية والترتيبات الأمنية الروسية – السورية.
المتوقع استراتيجياً
من المتوقع أن يجري تجميد ترتيبات أمنية قائمة بالفعل نظراً إلى فشلها في تحقيق الهدف الرئيس منها وانعدام الرغبة السياسية في دعمها، ومنها “قوات درع الجزيرة” إذ أصبحت بالفعل شبه مجمدة، وذلك لفشلها في التصدي للتهديدات الإيرانية وإخفاقها السابق في حماية الكويت من الغزو العراقي، إضافة إلى الاعتماد على قوات أجنبية للحفاظ على أمن الخليج، وكذلك عدم المشاركة في حرب في اليمن وانعدام الرغبة السياسية لدى قادة دول الخليج في تعزيز التكامل، وكلها عوامل تشير إلى محدودية المنفعة المتوقعة من هذه القوات في المستقبل.
أما “مجلس الدفاع المشترك”، وهو مجمد ولا يمتلك قوة حقيقية على أرض الواقع، فيتوقع أن يستمر التجميد لهذا المجلس نظراً إلى غياب التهديد الرئيس وهو التهديد الإسرائيلي، واستبداله بتهديدات على نطاقات إقليمية، إضافة إلى غياب الرغبة السياسية لدى معظم الدول العربية في تشكيل تحالف عسكري موحد.
ويقر اتفاق الدفاع العربي المشترك كثيراً من النقاط المهمة التي تعمل في اتجاه توحيد أنماط التعاملات العسكرية والاستراتيجية، ومع ذلك فإن المطروح خلال الوقت الراهن هو مراجعة مجمل السياسات الدفاعية الراهنة في ظل المخطط الخارجي بالتحرك في اتجاه إقليمي فوق تقليدي، يعمل في اتجاه الإبقاء على الوضع الراهن أو تجميده بالأساس، والانتقال إلى مرحلة أخرى تعمل على صيغ أمنية وسياسية بديلة.
وإضافة إلى ما سبق فهناك بعض الترتيبات الأمنية التي يتوقع منها الاستمرار والتطور، نظراً إلى وجود خطر ما يهدد أمن الدول الأطراف فيها، وهي ترتيبات أمنية عقدتها دول الخليج منفصلة مع واحدة أو أكثر من الدول الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وبدأت هذه الترتيبات منذ نجاح عملية “عاصفة الصحراء” وفشل “إعلان دمشق”، إذ اتجهت الدول الخليجية إلى عقد تفاهمات أمنية مع الدول الكبرى.
وتهدف هذه الترتيبات التي اتخذت شكل اتفاقات أمنية وعسكرية إلى حماية أمن دول الخليج من التهديدات الأمنية التي تحيط بها وأبرزها الخطر الإيراني، ويتوقع من هذه الترتيبات الأمنية أن تستمر في المستقبل وتعزز باتفاقات أخرى إن أمكن، لكن يثار التساؤل عما إذا كان من مصلحة الولايات المتحدة الاستمرار في هكذا ترتيبات، وذلك نظراً إلى تحول الاهتمام الأميركي من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة بحر الصين الجنوبي.
ترتيبات مستجدة
أما الترتيبات الأمنية الحديثة فتتسم بالحداثة من جهة وتنوعها من جهة أخرى، إذ احتوت على فاعلين دوليين غير تقليديين في تاريخ الترتيبات الأمنية العربية، وكان من المتوقع أن تتم الترتيبات بين الدول العربية نفسها أو واحدة أو أكثر من الدول الكبرى، إلا أن هذه الترتيبات شملت دولاً مثل إسرائيل وتركيا اللتين تمثلان تهديداً للأمن القومي العربي.
أما التفاهمات الأمنية الإسرائيلية – العربية فتشكل عدداً من القضايا الأمنية ذات الاهتمام المشترك بين الدول العربية كدول الخليج والمغرب، مثل الأمن في الخليج ومواجهة التهديدات الإيرانية و”حزب الله”، ويتوقع من هذه التفاهمات العربية مع إسرائيل أن تستمر وتزدهر في ظل تنامي التهديدات لأمن هذه الدول وتصاعد الأخطار غير التقليدية، مثل الإرهاب والهجمات السيبرانية وغيرها.
وهناك أيضاً الترتيبات التركية – العربية، إذ تقوم هذه التحالفات بشكل أساس بين ليبيا والجزائر من جهة وتركيا من جهة أخرى، وهي تحالفات أمنية بالأساس، إذ استعانت حكومة فايز السراج في ليبيا عام 2019 بتركيا من أجل صد الزحف العسكري للمشير خليفة حفتر على العاصمة طرابلس في مقابل موطئ قدم لتركيا في ليبيا ومنطقة شرق المتوسط، وعقد تركيا مع ليبيا ممثلة في حكومة فايز السراج اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية.
كما قامت تركيا ولا تزال بتدريب عدد من القوات الليبية التابعة للغرب الليبي في كلياتها ومعاهدها العسكرية، والترتيبات مع الجزائر والتي تختص بشكل مباشر بليبيا، لكن من المتوقع التوسع فيها مستقبلاً، وهي تفاهمات أنشئت بالأساس رداً على التفاهمات الأمنية بين المغرب وإسرائيل، ويتوقع استمرار التفاهمات التركية – الجزائرية نظراً إلى توتر الأوضاع مع المغرب.
إن تتالي اللقاءات والاجتماعات الأمنية في النطاقات العربية يفتح على مصراعيه الباب الموصد في اتجاه إعادة النظر في نص “اتفاق الدفاع المشترك” أو مراجعة بنوده التاريخية التي هي جزء رئيس وحقيقي من أركان النظام العام للجامعة العربية، بخاصة في البنود محل الاختلاف والتي تجاوزها الزمن وتحتاج إلى مراجعة سياسية واستراتيجية حقيقية.
والإشكال الرئيسة ليس في بنود “اتفاق الدفاع المشترك”، لكن في ما يحاط به من إشكالات قد ترى بعض الدول أنها تحتاج إلى مراجعة، مع تأكيد أنه جرى خلال اجتماعات القمة العربية الأخيرة في الجزائر تأكيد وجود الحد الأدنى من التوافقات العربية – العربية التي يمكن أن تتعمق وتتضح بصورة أكبر مع رئاسة السعودية للقمة العربية المقبلة، بما تملكه الرياض من ثقل عربي كبير، وفي موقفها من التعامل مع التحديات الإقليمية والتعاون الإقليمي.
ويعتبر “حوار المنامة”، على سبيل المثال، ضمن صيغ ومنتديات عربية إقليمية أخرى منصة للنقاش والدراسة حول الترتيبات الأمنية والاستراتيجية، وعقد في الـ 19 من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي وبمشاركة واسعة من دول مختلفة، عبر تمثيل رفيع المستوى لـ 400 مشارك، بينهم وزراء ومسؤولون أمنيون وقادة عسكريون وأكاديميون، وذلك بهدف وضع القواعد والمنافسة في الشرق الأوسط، إذ سيشكل فرصة لدرس أثرها في المصالح والنفوذ والقيم في الشرق الأوسط وخارجه.
كما طرح الحوار مناقشة التحديات الأكثر إلحاحاً في مجال السياسة الخارجية والدفاع والأمن في الشرق الأوسط، ويعقد الحوار سنوياً منذ العام 2004 في البحرين، وهو عنصر أساس في الهيكل الأمني للمنطقة وكذلك موضوع “الشراكات الأمنية الجديدة في الشرق الأوسط”.
صيغ بديلة
طرحت صيغ عدة بديلة للتعاون العربي – العربي في مجال الأمن الاستراتيجي، ومن ثم فإن ما جرى أخيراً في المنامة هو تأكيد أن المخطط الإقليمي للصيغ البديلة هو الأهم والمطروح، ومن قبل كانت فكرة “الناتو العربي” في الشرق الأوسط، ثم إعادة التكرار على تجمع “ميسا الأمني” في الإقليم، والهدف هو توسيع دائرة الأمن الاستراتيجي من كونه عربياً إلى أمن جماعي إقليمي، وإقامة مراكز تنبيه مبكر ووحدات للإنذار الاستراتيجي وتبادل معلومات وبيانات، مع العمل على تطويق ومحاصرة التهديدات المشتركة والتركيز على البديل الشرق أوسطي في مواجهة البديل العربي القائم والموجود. وفي ظل ما جرى في الإقليم طوال الفترة الماضية، كما ركز على صيغة التحالفات الدولية لمواجهة الأخطار الإقليمية بالقرب من المرافئ والمضايق العربية، ولمواجهة الخطر الإيراني المتصاعد الذي يعمل على مصالحه الأمنية والاستراتيجية، مستخدماً ما لديه من حضور بحري مهدد للاستقرار في الخليج العربي وقرب مناطق التماس العربية.
رغم كل ما يجري في الإقليم من لقاءات واجتماعات وحوارات، فإن تفعيل “اتفاق الدفاع العربي المشترك” ضرورة بالغة الأهمية، كما أن إنشاء القوة العربية المشتركة استناداً إلى “اتفاق الدفاع العربي المشترك” أضحت ضرورة ملحة لدى عدد من الأقطار العربية، لتمكينها من التصدي للأخطار والتهديدات المحدقة بالمنطقة كلها.
وإن كان تشكيل هذه القوة يواجه تحديات ومعوقات تهدد الفكرة من أساسها، وهو ما يتطلب من بعض الدول العربية تقريب وجهات النظر في ما بينها حول بعض النقاط الخلافية والقضايا والمواضيع الإقليمية، إضافة إلى العمل على إصلاح منظومة العمل العربي المشترك ومؤسساتها وتعديل ميثاق جامعة الدول العربية، والمطالبة بتفعيل معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي، بما يجعلها قادرة على إيجاد وسائل عملية فعالة قابلة للتطبيق ومواجهة كل أشكال التحديات التي يواجهها الأمن القومي العربي.
المصدر: اندبندنت عربية