ليست هناك كلمة عربية تصف الحالة التي يعيشها العالم اليوم، أكثر من كلمة «حوسة»، التي تشتبك فيها المعاني والأعمال وتتداخل، لكنها في كل الأحوال، تظل أمينة لمضمون واحد، هو ضرورة الحركة من أجل تجاوز الأوضاع الخطيرة، والمشاكل التي تحتاج إلى حلول ومعالجات، لأنها تحمل في بذرتها، احتمال انفجارات، يمكن أن تنقل القضايا والأوضاع والبشر إلى مآلات وأحوال كارثية، هي الأشد في الحوسة، إن لم تصل بنا إلى النهاية!
والخروج من فكرة الحوسة ومعناها في واقع العالم حولنا، يتطلب التوقف عند ما يتواصل من أحداث وتطورات، سواء في المستويات الميدانية وخصوصاً الحرب في أوكرانيا، التي تكررت في خلالها التهديدات المرافقة بالذهاب إلى فناء نووي، أو لجهة تحركات سياسية تسعى إلى تحالفات أو الحد من الوقوف قرب الحافة النووية، والوصول إلى حلول مقبولة، وهو البند الرئيس في التحركات السياسية، وقد شملت في بعض منها قضايا وموضوعات متعددة متنوعة بينها موضوعات الطاقة وإمدادات الحبوب والبيئة والاقتصاد والعلاقات التجارية والهجرة، حيث كانت القمم والمؤتمرات واللقاءات والندوات، دوائر بحث ونقاش فيها على أمل وصول الأطراف المشاركة والعالم إلى خلاصات، تضعه على بوابة رؤى وسياسات جديدة.
ولا يقتصر ما يشهده العالم من أحداث وتطورات على جهود القوى العظمى، رغم أهمية دورها وتأثيرها، بل هناك قوى إقليمية ذات أهمية وتأثير في موضوعات إقليمية أو محلية، يمكن أن تترك أثراً في الأحداث والتطورات الجارية، حتى لو كانت آثاراً محدودة أو جزئية كما تبدو، مثل تزويد إيران روسيا بالمسيرات. كما أن التصعيد الجاري في مستوى دولي واسع ضد سياسات إيران في قمع الاحتجاجات، وقيام عملائها بالضغط على معارضي نظام الملالي، وتهديدهم في العديد من دول العالم، إضافة إلى تهديدات إسرائيل، مؤشرات على احتمالات مواجهة مقبلة مع إيران تكون إسرائيل طرفها الثاني. ويجد كل من المثالين الإيراني والإسرائيلي في علاقاتهما بما يجري في العالم من أحداث وتطورات ما يشبهها من دول تتبع سياسات وتقوم بخطوات تؤمّن لها دوراً ومصلحة في خرائط المصالح والصراعات الجارية في الجانبين الميداني والسياسي – الاقتصادي.
ورغم أن اللوحة العامة تؤشر لانقسام عالمي رئيسي بين طرفين أولهما غربي تقف على رأسه الولايات المتحدة ومعها أوروبا وإسرائيل ودول أخرى، فإن روسيا تتقدم الطرف الثاني برفقة دول بينها إيران وتركيا ودول كانت في معسكر الاتحاد السوفياتي السابق، ويمثل انتظام الدول في الانقسام العلمي رغم سخونته، حالة هشة وضعيفة بسبب طبيعة القوى المشاركة فيه وأهدافها، وثمة التباس آخر في الانقسام يتعلق باستراتيجيات وأهداف طرفي الزعامة في مكانة زعامة كل واحد من طرفي الانقسام العالمي: الولايات المتحدة وروسيا.
فالولايات المتحدة كرست على مدار العقدين الأخيرين انكفاءً نحو الداخل على حساب دورها في قيادة العالم، الأمر الذي يؤشر إلى أنها عازفة عن ممارسة هذا الدور كما عرفه العالم، بل إنها فوضت دولاً تصطف على الطرف الثاني من الانقسام، ودفعتها للتصرف في شؤون بلدان كانت تعني الولايات المتحدة، بينها العراق وسوريا ولبنان وتركيا، وجعلت إيران وروسيا صاحبتي التأثير الأبرز في هذه البلدان، وحتى حلفاء واشنطن في الانقسام الدولي، فإنهم ليسوا متطابقين مع مواقفها في حيثيات من الأزمة الأوكرانية وفي الحرب الجارية، ولا حتى في المواقف السياسية المعلنة، وهناك بعض الدول المنضوية في الطرف الغربي تختلف في مواقفها وسياساتها في عدد من القضايا والموضوعات مع الولايات المتحدة، والإشارة خصوصاً بمواقف الاتحاد الأوروبي.
وليس الواقع الروسي أفضل حالاً سواء في وضعه الداخلي أم في موقعه في قيادة الطرف الآخر من الانقسام العالمي. ففي الداخل تواجه روسيا سلسلة مشاكل سياسية واقتصادية.
حلفاء موسكو في الانقسام العالمي، لديهم مشاكلهم أيضاً، ليس مع روسيا فقط بل فيما بينهم، وهو أمر ظاهر على الأقل في الموقف المتناقض لكل من تركيا وإيران وروسيا من الوضع السوري ومستقبله، وهي إحدى القضايا الرئيسية في الاهتمامات الميدانية والسياسية للأطراف الثلاثة الذين سعوا دون جدوى ملموسة لوضع إطار سياسة مشتركة في الموضوع، وتوافقوا عبر تحالف آستانة على مسار للحل السوري في محاولة تضييق شقوق الخلافات، التي إن بدت أكثر وضوحاً في تمييز موقف تركيا، فإن التمايز في الموقف من القضية السورية أمر طبيعي ومؤكد بين موسكو وطهران.
الأهم في المشهد العالمي اليوم بما يشكله من كارثة، أن العالم يقف على حافة نووية، وبجانبها احتمال انفجارات إقليمية متعددة، ومشاكل عميقة سياسية واقتصادية وأمنية، وسط معاناة من تقرحات مزمنة سياسية واقتصادية وأمنية في أنحاء مختلفة من العالم بينها حالة خمسة من البلدان العربية، وسط غياب حلول عاجلة، وعجز عن وضع والتزام استراتيجيات، تكفل الخروج من النسق الحالي إلى أنساق توفر فرصاً أفضل للحياة والتقدم، وسبب العجز، لا يكمن فقط في غياب منهج ومركز مؤثر في السياسة العالمية، بل أيضاً في نمو النزعات القومية التي تستر عنصرية مؤكدة في غالبية الدول المؤثرة، وفي التخلي عن وحدة مصير العالم وقيمه التي تكرست في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي اتباع سياسات النجاة الذاتية لكل واحدة من الدول، دون تحمل أي مسؤولية عما يحدث حولها.
لقد كانت ثورة السوريين عام 2011 حدثاً كاشفاً في التحولات العالمية، والتي عبّرت عن نفسها في السياسات والمواقف التي أحاطت بالقضية السورية، ليس فقط في سياسات التخلي، وإنما في السكوت عن تدخلات وسياسات أطراف دولية وإقليمية، محسوبة على إشاعة التدخلات وخصوصاً المعتمدة على استعمال مختلف أشكال القوة وممارسة الإرهاب ودعمه في العالم وبينها نظام الأسد وإيران وكوريا الشمالية، وقد استفادت جميعها من التحولات الجارية، والتي تدفع الولايات المتحدة وأوروبا والعالم كله فاتورتها الباهظة، والتي لا شك أنها سوف تستمر وتتصاعد، ما لم يبدل الغرب والولايات المتحدة والعالم التوجهات الاستراتيجية والسياسية التي اعتمدت في العقدين الأخيرين.
المصدر: الشرق الأوسط