سوف يؤثر فيروس كورونا المنتشر الآن في كل زوايا العالم بشكل مباشر على الملايين من الناس. وسوف تؤثر تداعياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الجميع.
لم يشهد أحد شيئاً مثل هذا من قبل. كانت هناك موجات من الانتشار الوبائي في السابق -الانفلونزا الإسبانية، أو الطاعون الأسود- لكن هذا هو التفشي الوبائي الأول في عصر العولمة، الذي يمتاز بحركة دولية سهلة، وعلوم طبية متقدمة، وانتشار سريع للمعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وهو أولاً، وقبل كل شيء، حدث يتعلق بالصحة العامة. وحتى 12 آذار (مارس)، كان هناك أكثر من 120.000 إصابة مؤكدة في جميع أنحاء العالم، ولكن هذا الرقم مرشح لأن يقفز إلى الملايين مع انفجار العدوى في أوروبا والولايات المتحدة وشروعها في الظهور في أماكن جديدة. وربما يكون المصابون بالعدوى بالملايين مسبقاً، لكن إجراءات الفحص السيئة والحالات ذات الأعراض الطفيفة نسبياً تعني أن حساباتنا تظل ناقصة. وفي 11 آذار (مارس)، أعلنت منظمة الصحة العالمية رسمياً أن مرض “كوفيد-19” وصل إلى مستوى الجائحة.
فيروس كورونا، مثل الانفلونزا، عدوى تنفسية، ولكنه أكثر فتكاً وقدرة على الانتشار. في 2018-2019، كان معدل الوفيات بسبب الانفلونزا 0.1 في المائة في الولايات المتحدة. وما يزال “كوفيد-19” جديداً جداً بحيث تصعب معرفة معدل وفياته على وجه اليقين، لكنه بلغ في كوريا الجنوبية؛ البلد الذي يتمتع بأفضل معايير الاستجابة في مجال الصحة العامة، حوالي 0.7 بالمائة. وبلغ في الصين، 2.3 في المائة. وقال أنتوني فوشي، مدير المعهد الوطني الأميركي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية، للكونغرس، إن فيروسات كورونا “قاتلة أكثر بعشر مرات من الانفلونزا الموسمية”.
سوف يصاب الكثير من الناس بالفيروس. وسوف يعرف الكثيرون شخصاً مات بسببه. وسوف يسمع الجميع عن المشاهير الذين يصابون به. قبل أيام اكتشفنا إصابة الممثل توم هانكس ولاعب الدوري الأميركي للمحترفين رودي جوبرت. وهناك العشرات، وربما المئات من المسؤولين الحكوميين الإيرانيين، الذين التقطوا العدوى، والذين توفي سبعة منهم مسبقاً. وقد اجتاحت أعداد المصابين المستشفيات الإيطالية لدرجة أنها تضطر، بسبب الموارد المحدودة، إلى اختيار أي المرضى هم الذين يتلقون العلاج وأيهم يُتركون من دونه.
على الرغم من أن الوفيات ربما تظل على الأرجح (كما نأمل) أقل بكثير من وفيات وباء الانفلونزا الإسبانية 1918-1920، الذي أودى بحياة ما يقدر بـ17 مليوناً إلى 50 مليوناً في جميع أنحاء العالم، إلا أن عدداً كافياً من الأشخاص سوف يتأثرون بشكل مباشر أو غير مباشر بفيروس كورونا الذي ستكون له آثار دائمة. ويجب على العالم أن يتعلم من ذلك، وأن يستعد بشكل أفضل لمواجهة الوباء التالي.
سوف يختبر الكثيرون أزمة كورونا بشكل أساسي كحدث مجتمعي: فالتجمعات الكبيرة، مثل مهرجان الجنوب الغربي، ألغيت؛ وكانت مباريات البطولات الرياضية تُلعب من دون حشود (كرة القدم الإيطالية في البداية)، أو يتم إلغاء إجراء المباريات بالكامل (مثل كرة السلة الأميركية). كما ألغت الجامعات الاجتماعات الشخصية وجهاً لوجه، وطلبت من الأساتذة تدريس المساقات عبر الإنترنت. ويتم إغلاق الشركات، أو على الأقل التعامل مع النقص في الموظفين والعملاء. وتقوم الحكومات بإغلاق المدارس، وتوصي بالتباعد الاجتماعي، وفي الحالات الأكثر خطورة، تأمر الجميع بالبقاء في منازلهم.
يقوم ما يجري بتغيير طرق تفاعلنا. ثمة المزيد من الحذر بشأن المصافحة، والقبلات والعناق؛ وتجتاحنا رعشة قلق عندما يسعل شخص قريب. والخوف ينتشر مع الفيروس -بعضه مبرر، وبعضه مفرط، لكنه حقيقي.
يرجع هذا الخوف جزئياً إلى حداثة “كوفيد-19″؛ حيث قام الناس فعلياً بـ”استيعاب” خبرة الوفيات بسبب الانفلونزا المعروفة أو السرطان، والخسائر من هذه الأمراض معروفة واعتدنا عليها. ولسبب مماثل، كان لانفجار قنبلة في نهاية ماراثون بوسطن تأثير مجتمعي مختلف عن انفجار قنبلة في بغداد. من المؤكد أن كليهما مأساوي، لكن أحدهما متوقع أقل من الآخر، مما يخلق رد فعل نفسيا وسياسيا أكبر.
ومع ذلك، بينما يأتي جزء من الخوف من حداثة الخبرة وسوف ينحسر مع تقادمها، فإن بعضه يأتي من إدراك أن الأوبئة تهدد حقاً عالمنا المعولم. ليس هناك مهرب ضيق من الخطر مثلما حدث الإيبولا أو الـ”سارس”. وسوف يستمر هذا الخوف بعد أن يهدأ تفشي المرض.
تجعل الاضطرابات المجتمعية من فيروس كورونا حدثاً اقتصادياً كبيراً. الآن، يجري سحق صناعة السفر -شركات الطيران والفنادق وسفن الرحلات البحرية، وما إلى ذلك- وتجر معها الشركات والأعمال التي تعتمد عليها. وبدأ التصنيع يشهد اضطرابات في سلسلة التوريد. وفقدت المطاعم وتجار التجزئة زبائنهم. ولا أحد يعرف حقاً متى سينتهي كل هذا.
ثم هناك التأثيرات من الدرجة الثانية. سوف يفقد الملايين الذين يعملون في الصناعات المتضررة مصدر الدخل، ما يعني أنهم سينفقون أقل، وهو ما سيؤثر على الأعمال الأخرى. ولن يستعيد الكثير من عمال المناوبات الذين يفقدون ساعات العمل وظائفهم. ومع إغلاق المدارس، سوف يتعين على الآباء والأمهات البقاء في منازلهم، مما يزيد من تثبيط النشاط الاقتصادي.
وقد يعمد المستهلكون إلى تأخير بعض عمليات الشراء، مما سيؤدي إلى كبح الطلب وإمكانية التعافي السريع في بعض القطاعات. إنك إذا كنت ترغب في شراء سيارة، لكنك لا تريد الذهاب إلى الوكيل حتى ينتهي هذا الوضع، فسوف يظل بإمكانك أن تشتري سيارة لاحقاً. أما إذا ألغيت رحلتك إلى مؤتمر، أو توقفت عن الذهاب لتناول الطعام في الخارج لمدة شهرين، فإن ذلك النشاط الاقتصادي يكون قد ذهب فحسب. وبذلك سوف تحقق هذه الأعمال دخلاً أقل، ما يعني أنها ستطرد العمال أو تخفض عمليات التطوير، وستكون لديها أيضاً أموال أقل لإنفاقها أو استثمارها.
كل هذا يعني حدوث ركود محتمل. وتعمل أسواق الأسهم مسبقاً على هذا النحو؛ حيث فقدت مؤشرات مختلفة أكثر من 20 في المائة من قيمتها في الأسابيع الثلاثة الماضية. ولم تتمكن تخفيضات أسعار الفائدة وخطط التحفيز المالي من وقف الانهيار –وليس هذا مفاجئاً، لأن الاقتراض الأرخص أو الأجور الكبيرة لا تعالج الوباء.
تبدو أرقام البطالة والنمو في الولايات المتحدة لشهر شباط (فبراير) جيدة، لكن المشاكل المتعلقة بفيروس كورونا يجب أن تظهر في البيانات على مستوى القطاع في آذار (مارس) أو نيسان (أبريل). وكانت مؤشرات داو وستاندرد آند بورز 500 والناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة تسجل نمواً منذ نهاية الأزمة المالية في العام 2009. وقد مرر ترامب والكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون حوافز هائلة ممولة بالديون، والتي ترتكز على الدخل الأعلى والتخفيضات في ضرائب الشركات في أواخر العام 2017. وهناك فرصة كبيرة لأن يتسبب فيروس كورونا في حدوث فقاعة، وليس مجرد اضطراب مؤقت سيرتد منه الاقتصاد إلى التعافي في وقت قريب، خاصة وأن ذلك يحدث في الوقت نفسه مع حرب أسعار النفط بين روسيا والسعودية.
ما لم نكن محظوظين بحيث يمر الوباء بسرعة حتى يتمكن الجميع من العودة إلى المدارس والأعمال، فإن فقداناً يعتد به في الوظائف سوف يأتي في الأعقاب.
يساعد الضرر الاقتصادي على جعل ما يجري حدثاً سياسياً مهماً. وكانت دول مختلفة قد شهدت انقساماً سياسياً متصاعداً، حتى مع نمو اقتصاداتها. وقد يؤدي الكساد إلى إذكاء تلك التوترات، سواء داخل الدول أو فيما بينها. وتحاول بعض الحكومات مسبقاً أن تجعل من حكومات أخرى كِباش فداء.
سوف يدرس العلماء وصانعو السياسات الاستجابات الحكومية المتنوعة للوباء لعقود مقبلة. فقد بدأت الصين؛ حيث نشأ الفيروس، بالإنكار ثم تحولت إلى الحجر الصحي عندما أصبح من المستحيل تجاهل المرض. وطبقت كوريا الجنوبية واليابان وتايوان بسرعة إجراءات التباعد الاجتماعي، مما حد من انتشار المرض. لكن إيران أنكرت الأمر، مما أفضى إلى رؤية مشهد نائب وزير الصحة وهو يمسح تعرق الحمى من على جبهته بينما كان يعلن على شاشة التلفاز أن المرض في بلده ليس شأناً كبيراً. وعندما أصبح من المستحيل إنكار ما يحدث، بدأت إيران في إلقاء اللوم على الولايات المتحدة. كما تجاهلت إيطاليا المرض حتى وصلت الأوضاع هناك إلى أبعاد الأزمة، ثم قامت بإغلاق منطقة لومباردي، تلاها البلد بأكمله.
ومن جهتها، قررت الولايات المتحدة عدم استخدام اختبار فيروس كورونا الذي اعتمدته منظمة الصحة العالمية، واختارت تطوير اختبارها الخاص لأسباب ما تزال من دون تفسير. وأسهم ذلك في التسبب بنقص حاد في الاختبارات، مما سمح للفيروس بالانتشار من دون أن يتم اكتشافه. كما قلل الرئيس الأميركي دونالد ترامب من شأن المرض، وادعى أن الديمقراطيين ووسائل الإعلام كانوا يبالغون بهدف إيذائه سياسياً. وانضمت وسائل الإعلام اليمينية، مع قيام روش ليمباو، على سبيل المثال، بإخبار المستمعين بأن “فيروس كورونا هو مجرد نزلة البرد المعتادة”. ثم غير الرئيس مساره في 11 آذار (مارس)، مستخدماً وقت الذروة للإقرار بخطورة الوضع والإعلان عن إجراءات مضادة -مثل حظر السفر من أوروبا القارية- لكن التأخيرات تزيد من خطر أن تبدو الولايات المتحدة أشبه بإيطاليا منها بكوريا الجنوبية.
ما يزال من غير الواضح كيف سيستجيب الناخبون الأميركيون -على الأقل لأن الوقت ما يزال طويلاً حتى تشرين الثاني (نوفمبر)- لكن فيروس كورونا غير الانتخابات الرئاسية الأميركية أيضاً. فقد ألغى المتنافسان الديمقراطيان؛ جو بايدن وبيرني ساندرز، اجتماعات التحشيد العامة. وقال دونالد ترامب إنه لن يفعل مثلهما، ثم غير رأيه مع تفاقم الأزمة. وعادةً ما تعقد الأحزاب اجتماعات الترشيح خلال فصل الصيف، ولكن قد لا يكون جمع الآلاف في ساحة أو قاعة آمناً بحلول ذلك الوقت.
عندما يكون حال الاقتصاد جيداً، عادة ما يفوز شاغلو المناصب بإعادة انتخابهم. لكن الاقتصاد الآن يبدو أضعف بكثير مما كان عليه قبل شهر واحد فحسب.
كل هذا يصنع حدثاً إعلامياً كبيراً. الآن، يمكن لأي شخص الحصول على تحديثات منتظمة حول كيفية تأثير فيروس كورونا على الصحة والمجتمع والاقتصاد والسياسة، إلى جانب التوقعات حول كيفية تأثيره على هذه الأشياء في المستقبل. وقد دفع الوباء، وانهيار الأسواق، واستجابات الحكومات، معظم الأخبار الأخرى بعيداً عن العناوين الرئيسية.
يعيش الكثير من الأشخاص خبرة هذا الحدث العالمي من خلال وسائل التواصل الاجتماعية، وهو ما يعزز الشعور بالتجربة المشتركة، ويوفر فيضاً من المعلومات، سواء كانت جيدة أو سيئة. وإحدى النتائج هي تصاعد مشاعر الخوف؛ حيث تضخم وسائل الإعلام وخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعية التقارير عن الإصابات الجديدة والأنظمة الصحية التي تعاني من الضغط الشديد، والتعليقات المسيّسة، والتعبيرات الفردية عن القلق. وإذا كنت تستخدم هاتفاً ذكياً، فإن الابتعاد عنه الآن يكاد يكون مستحيلاً.
في الأسابيع القليلة الأخيرة، تغير العالم إلى الأبد. وسوف نتحدث عما يجري الآن، ونستخدمه كنقطة مرجعية، لأعوام طويلة مقبلة. أما كم سنفعل، فسوف يعتمد على كيف تسير الأمور في الأشهر القليلة المقبلة.
المصدر: (إيه. آر. سي ديجيتال) / الغد الأردنية