قبيل انتخابات عام 2007 في تركيا كتبت مقالة صغيرة بعنوان «لو كنت ناخباً تركياً»، افترضت ذلك رغم جهلي بعملية الانتخاب ذاتها، في حياتي كلّها، انتهيت يومذاك إلى ما يلي:
«يراهن بعضنا على قيام الجيش بانقلاب، حماية للعلمانية التي كرّس أتاتورك مفهومها الوطني الخاص، ودفعاً لخطر تحويل البلاد إلى النمط الإسلامي تدريجياً. وتتغذى هذه التحليلات، التي تتأثر بالأماني، على وقائع تراجع «الثوريين» سابقاً، والإسلاميين منهم حالياً، عن ديمقراطيتهم ما إن يستبد بهم الأمر، وعلى سلوك «طالبان» و«حماس» وبعض أهل السودان وغيرهم. في هذا، يؤكد سلوك الجيش التركي أنه ضمانة الدولة، وضمانة الدستور، وأن ضغوطه المنطلقة من هاتين المسألتين لن تتعداهما إلى ما يُخالفهما. ورغم خيبة آمالنا سابقاً وفشل توقعاتنا أحياناً، فإن الظروف الدولية الناشئة تساعد على التفاؤل إلى حد كبير، في ألا تبقى علمانية الجيش على حالتها المتوفزة، ولا أوضاعها القتالية المغالية، وتقترب أكثر من جوهر المفهوم كحياد للدولة أو سيادة للرأي، أو أنها نسقٌ محايث ومتصل بالمدنية والزمنية والدنيوية وما إلى ذلك، مما نألفه ونعرفه. وفي هذا أيضاً، يؤكد حزب «العدالة والتنمية» على تمسكه بعلمانية الدولة. ويدعم هذا التأكيد ما يُلاحظ من بنائه كحزب سياسي، لا منظمة للدعوة الدينية، ولا تجمعاً للهيئات الخيرية، كما تفعل الهيئات السياسية الإسلامية في غير مكان، إضافة إلى ذلك، يبدو أن استقرار وتطور الدولة التركية من مصلحة العرب والجوار، لأنها بذلك تصبح عتلة للتقدم من جهة، وأداة مساعدة لنا في مواجهة أنفسنا، ومواجهة الأخطار الخارجية من جهة أخرى. ولعل هذا الحديث كله من أثر غلبة الخيبة، فينبغي للمرء أن لا يناور في ما يخص مبادئه! لذلك، لو كنت تركياً، لدعمت الجيش على ما هو مذكور أعلاه، ولو كنت ناخباً تركياً، لتمتعت أولاً بحريتي في دخول الغرفة السرية التي لم أدخلها في حياتي منذ بلغت سن الرشد، ثمّ انتخبت حزب العدالة والتنمية».
بالطبع كانت الرغبات متقدّمةَ الموقعِ لدى من كتب ذلك المقال، بغضّ النظر عن اختباراتها العملية: أن يقوم حزب إسلامي معتدل قادر على تبني العلمانية وممارستها، يستطيع وضع برنامج تنمية نظيف وطموح لتقدّم تركيا بمجتمعها ودولتها، ويقنع الجيش التركي «حامي الدستور» بأن يخرج من إساره الذي وضعه فيه أتاتورك، مهدّداً بالانقلاب كلّما عنّ له أن هنالك ما يهدد علمانية البلاد. استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحقق نصراً كاسحاً في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، معتمداً على برنامجه التنموي وسياساته الخارجية – صفر مشاكل- واعتداله الإسلامي والقومي، ونظافة شخصياته وجاذبيتهم، إضافة إلى مسألة مهمة تجلّت في تجاوزه للسياسات الحكومية المعهودة تجاه الكرد وقضيتهم، وتأكيده على حلّها من خلال الحريّات والتعبير الثقافي. وحقق نجاحاً مهماً في عدد الأصوات التي حصدها في شرق وجنوب البلاد، حيث الأغلبية الكردية وعاصمتها في ديار بكر. هنالك الآن انتخابات مصيرية أخرى في يونيو/حزيران المقبل، واستطلاعات متوالية قلقة ومقلقة لحزب العدالة والتنمية، سوف تزيحه – على الأقل – عن مركزه الذي بقي ثابتاً لما يقارب العقدين من الزمن. هنالك أيضاً أوضاع اقتصادية غير مواتية، وانهماك في مشاكل المنطقة والعالم كلّها، بدلاً من تصفيرها حسب الاستراتيجية القديمة، ومشكلة لاجئين ساخنة سريعة الاستجابة للسياسات. وربّما يكون الأكثر أهمية، هو احتدام القضية الكردية، وعجز الحزب الحاكم أمامها عن اجتراح سياسات شجاعة في سلميّتها، واستبدالها بأخرى ذات طبيعة أمنية وعسكرية لا تنزل حرارتها عن درجة الغليان أبداً.
تتشابك القضية السورية مع السياسات والانتخابات التركية في عدّة مواضيع، هذه المواضيع أيضاً متداخلة، لكونها تنبع من مشكلة واحدة كبيرة، والموضوعان الأكثر حساسية هما حول اللاجئين والأكراد، من دون إضافات بلاغية.
بترحيب وحرارة استقبل الشعب التركي وحكومة العدالة والتنمية حوالي أربعة ملايين لاجئ سوري بعد عام 2011 وانقضاض النظام على شعبه، الذي تحرّك منتفضاً. وقال سوريون كثر أن ذلك الاستقبال كان أفضل، مما واجههم في بلادٍ أخرى يفترض أن تكون – نظرياً- من ذوي القربى. ساعد ذلك الموقف الطيب على تعزيز موقع الرابطة الإسلامية بالعلاقة مع الرابطة القومية أو العرقية، وزاد في زوادة القوى الإسلامية وتقدّمها إلى المقدمة، لكنّ تلك الرابطة لم تكن بالقوة الكافية كما يبدو على الأرض التركية، فابتدأت المفاعيل العنصرية والمعيشية ومزاحمة قوة العمل بالتأثير، بتحريض واضح من قبل سياسات تستسهل الأدوات والآليات. قاوم حزب العدالة والتنمية قليلاً على تخوم مبادئه ومفاهيم «المهاجرين والأنصار»، ولكنه خضع في النتيجة لمتطلبات الصراع السياسي الداخلي، وأخذ يزيد في ما يطرحه في المضمون عنها. وصل مثلاً إلى برنامج إسكان مؤقت – دائم لإعادة نسبة من اللاجئين إلي بلادهم، قريباً من الحدود، في مجمّعات إسكانية مغرية كونها أفضل من الخيام، إضافة إلى تخفيف ضغط اللاجئين بإعادة أقسام مهمة منهم، يؤمّن ذلك المشروع بطانة أمينة لحدود البلاد، من خطر الكرد على الأمن القومي التركي. ويتجلّى خطر الكرد هنا في مجرّد وجودهم البشري على الجانب الآخر من الحدود، مع تضخيم احتمال شنّهم لهجمات عسكرية في داخل الأراضي التركية. في خدمة تلك السياسات، قام الجيش التركي بأربع عمليات عسكرية مهمة داخل الأراضي السورية، ابتداءً بدخول عفرين، ونزوح أعداد كبيرة من سكانها، إلى اختراق الحدود في الشمال الشرقي، والتمركز بين رأس العين وتل أبيض، بعد تدخل الأمريكيين والروس لامتصاص الفورة التركية.
يتفاعل هذان العاملان – اللاجئون والأمن القومي- مؤخراً، وتظهر تهديدات مبطنة وسافرة بشنّ عمليات جديدة في الشمال الشرقي لاستكمال ما بدأ في عملية «نبع السلام» المشار إليها. ارتفعت تلك النُذُر كثيراً بعد العملية الإرهابية الأخيرة في إسطنبول، التي ذهب ضحيتها ستة مواطنين وعشرات الجرحى.
تلعب مسألة اللاجئين دوراً متزايداً في السياسات العامة والانتخابية في العالم، وخصوصاً مع صعود الشعبويات واليمين العنصري في أكثر من مكان. وكذلك تظهر محاولات، لزيادة الحمية القومية ودورها في الانتخابات؛ من الأحزاب الحاكمة، تسهم في توتير الأوضاع، وربما إيصالها إلى أعتاب المعارك والحروب. منذ ثلاثة أيام أعلنت وزارة الدفاع التركية تنفيذ 89 غارة جوية في شمال وشمال شرق سوريا، مستهدفة مواقع القوى التي اتّهمتها بتلك العملية.. ورنّ الرقم في آذاننا يُذكّر بأرقام الناطق العسكري باسم الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية. لقد اضطر- أو أنه لم يضطر؟!- حزب العدالة والتنمية إلى التحالف مع» الحركة القومية سليلة الذئاب الرمادية» في السنوات السابقة ضماناً لأغلبية أخذت تتآكل، وسوف يفقد جانباً من ذخيرته الأيديولوجية بتوجّهه السلبي نحو اللاجئين، في حركة مناورة كبيرة لمواجهة التحديات على الجانب الاقتصادي، الذي خسر جزءاً مهماً من وهج النجاحات التنموية الباهرة السابقة. والحزب «يضطر» أيضاً على الخط ذاته إلى ابتلاع بعض أو كلّ ما قاله وعمل من أجله، حين يبدأ تدريبات استعادة العلاقة مع النظام السوري. فتفعل الانتخابات العجائب في أعيننا نحن السوريين الذين لم نمارس الانتخابات في حياتنا… وتنقلنا من حال إلى حال!
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي