هو زمن ثقيل على السوريين. انتهت أسبابها بشكل كامل، وصار لاستمرار السلطة أسباب أخرى؛ كانت ضرورية من أجل الموافقة على قرار مجلس الأمن 242، وبدء مرحلة “السلم الطويل” مع إسرائيل، أيضاً من أجل إعادة العلاقات مع الخليج، ومن أجل إيقاف التوجهات اليسارية للسلطة السابقة، التي كانت تضع فلسطين هدفا قوميا والتأميم هدفا محليّا. استفاد الفقراء من “إصلاحات” قبل 1971، ورغبوا بالتمتع بها، والانتهاء من الطموحات اليسارية. وقال تجار سورية: “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ أسد”. الاتحاد السوفييتي، وأميركا والغرب عامة، كانوا مع الاستقرار في سورية، وهناك معلومات وتحليلات تؤكّد بصفة حاسمة أن دوراً كبيراً لعبته الدول السابقة في دعم انقلاب الحركة التصحيحية، ووضع زعماء السلطة السابقة في ثلاجة المعتقلات ربع قرن، أو أزيد أو أقل.
لم تأت الثمانينيات إلّا وتراكمت الأزمات وارتفعت حدّة الاحتجاجات، حيث راحت السلطة تتغوّل على التجار بصفة خاصة، وتراجعت عن سياسات الانفتاح على المجتمع، فتشدّدت ضد الإسلام السياسي، واليسار الجديد، وانهارت أوهام النقابات بالحق في الاحتجاج، وازدادت الخلافات مع العراق خاصة؛ انفصلت السلطة ذاتها عن فقرائها، وتبنّت الفساد واستقطبت الفاسدين وحاولت الإفساد العام، وأُعطِي رفعت الأسد دوراً كبيراً في تشكيل سرايا الدفاع، وصَبغ “جيشه” بصفة طائفية. الأوضاع هذه تفجّرت حركات نقابية واسعة، ولكنها أيضاً تفجّرت حركات إسلامية، سياسية وعسكرية، ولم يكن لليسار دور مركزيّ في المواجهة، وكان يدعم الحركة النقابية، وطالب بالحريات العامة، ورفعْ قانون الطوارئ وتغيير شكل السلطة من الديكتاتورية إلى سلطةٍ تمثل الشعب، بمعنى أخر تمثل مرحلة ما قبل 1971، وتعزّزها كذلك، وهناك يسار كان يتلبرل، ويطالب بالديمقراطية شكلا للحكم.
كان الانتهاء من مرحلة الثمانينيات، ومما ذكرت كارثياً على المجتمع السوري بعامة. لم يعد الفقراء سعداء باشتراكية الجيش، ولكنهم ليسوا ضدها، وتمّ تدمير مدينة حماه، وهُمّشت حلب، وأرياف كثيرة في سورية ومنها أرياف اللاذقية ذاتها. وفي مدن الساحل، ورغم شعور الأهالي بأهمية السلطة وأنها حاميتهم، فإن ممارسات أخوة الأسد أصبحت مرفوضة بشكل كبير، وقد قامت السلطة ذاتها بحملات مناهضة عديدة ضدهم، ولكنها لم تُحدث تغييراً حقيقياً، فكانت وجوه تغيب وتظهر أخرى. الحركات الإسلامية اجتثت، وظهر القانون 49، الذي يجرّم كل من ينتمي إليها، ولم تغيّر السلطة موقفها هذا في العقود اللاحقة. قُمِعت النقابات، وغُيّرت لوائحها الداخلية، وصارت خاضعة لأجهزة الأمن. الدولة بأكملها أصبحت خاضعة للتلك الأجهزة، والأخيرة خاضعة للرئيس حافظ الأسد.
لم يعد للمجتمع من نوافذٍ للتنفس، وأصبح الفاعلون يراقبون أنفسهم من أنفسهم، ويخافون من خيالاتٍ قد تداهمهم وتحثّهم على مناهضة للنظام. انهارت الحركات السياسية، وما استمرّ منها، كان بلا فاعلية تذكر، والاعتقال مصيره. أصبحت أحزاب الجبهة الوطنية التقدّمية مجرّد أدوات لقادتها، وللنظام، كي يستفيد منها في علاقته مع الاتحاد السوفييتي، سيما حاجته لصفقات السلاح “المجانية” وبعثات التعليم، المجانية بدورها، والتي سيّطر من خلالها على جامعات سورية كثيرة، واستَبعد أساتذة الجامعات المخضرمين، وممن لم يكونوا من حزب السلطة. لم يعد لحزب البعث من اسمه شيء بعد انقلاب 1971، وصار حزب السلطة.
ماتت سورية منذ منتصف الثمانينيات وإلى رحيل حافظ الأسد. مع عام 2000، ومجيء بشار الأسد، كانت شخصيات السلطة قد اغتنت، وصار لا بد من تغيير طبيعة الدولة، لتستوعب النهب، فأصدر بالفعل مئات المراسيم من أجل الانتقال من الدولة المستندة إلى القطاع العام إلى القطاع الخاص، أي لبرلة الدولة اقتصادياً، ولكنه رفض اللبرلة السياسية بأيِّ شكلٍ، وإن مقولات التحديث والإصلاح، والسوق الاجتماعي وسواها، عزّزت الاستنتاج السابق، وفشلت محاولات الانتقال نحو “الاجتماعي” أو إخراج سورية من أزماتها المختلفة.
اقتصادياً، سيطرت المجموعات القريبة من السلطة على نتائج اللبرلة، وظهر الحوت المستبعد منذ بضع سنواتٍ من السلطة أقوى رجل في الاقتصاد السوري، رامي مخلوف، وسيطر هو واجهة للسلطة، ومعه عشرات من رجال الأعمال على الاقتصاد السوري، وراحوا يعمّمون اقتصاد النهب، وتآكلت أجور الطبقة العاملة في القطاع الخاص والعام بشكل خطير. سياسياً، تعاملت السلطة مع المعارضين بقمعٍ شديدٍ، وأودعتهم السجون أو ضيّقت عليهم، وقد “انتشوا” برحيل الأب ومجيء الابن، وتوهموا أنَّ التغيير السياسي ممكن، وبين عامي 2000، و2008، حاولوا جاهدين من أجل إقناع السلطة بضرورة التغيير، ولكن عبثاً. مجدّداً، واقتصادياً، استفادت كل الفئات العاملة في القطاع الخاص، ويُستثنى هنا الفلاحون، حيث ظلَّ كل ما يخصهم تحت سيطرة التجار وشخصيات في السلطة، من بذور وأسمدة وتصدير المحاصيل، وجاء الانفتاح على تركيا والانسحاب الاجباري من لبنان بعد مقتل رفيق الحريري ليؤدّيا إلى انهيارٍ كبيرٍ في قطاع الزراعة وصناعات عديدة في كل سورية. ومرّت سورية بسنوات من الجفاف كذلك، ورفعت السلطة أسعار الوقود، وهنا لم يكن التصنيع أو النهوض بالزراعة ضمن توجهات الفئات المستفيدة من اللبرلة ومنذ عام 2000، بل فقط الأعمال العقارية والبنوك والتجارة والسياحة بحدود هامشية، أي لم تنتج عنها فرص عمل حقيقية، وظلت البطالة كبيرة، والأجور منخفضة، وكانت النتيجة ثورة 2011.
بعد أن أصبحت الدولة أمنية بامتياز، وخاضعة للأسد الأب، لاذ المجتمع بهوياته المحلية بما فيه الطائفة العلوية، وإن ظلَّ لها بعض الامتيازات البسيطة والهامشية، وزال الخطر عنها بسبب أحداث الثمانينيات الطائفية، وهناك أحداثٌ أخرى غير طائفية كما ذكرنا. لم يعد الدفاع عن السلطة قضيتهم، وهي أيضاً لم تكن كذلك في 1971، ولكن أحداث الثمانينيات طرحت الموضوع الطائفي بشكل خطير حينها. عدم معالجة السلطة هذا الموضوع أبقاه في الوعي، ولكنه لم يكن مسيطراً، أيضاً لم تقم الحركات الإسلامية بمراجعات لدورها في أحداث الثمانينيات.
إذاً هناك مشكلة طائفية، وهنا لا أرى الحساسيات الطائفية التاريخية سياسية أو مسيطرة على الوعي، وتجاه العلاقة مع الأخر، وإن كانت جزءا من الوعي والعلاقات كذلك، فالناس لا تقوم بأعمال اقتصادية أو تذهب إلى المؤسسات التعليمية وفقاً للعامل الديني، وأيضاً لا تَستخدم المؤسسات الدينية الخطاب الطائفي ضد الطائفة الأخرى. ولن تتوسّع هذه المقالة بأمننة ذلك الخطاب عبر سيطرة السلطة بشكل كامل على المؤسسات الدينية الرسمية، سيما بعد الثمانينيات. أوجدت اللبرلة السابقة فرصاً اقتصادية للناس، وتحت سيطرة الحوت الأكبر، رامي مخلوف، واستفادت دوائر السلطة من ذلك، فاللبرلة أصبحت توجّهاً لها، وراحت تنشغل بقضاياها الاقتصادية، وانعكس ذلك سلباً على أرياف سورية، ومنها أرياف الساحل.
بعد 2011، وبسبب التغييب القسري للحريات منذ 1971 بصفة خاصة، وليس من الصحيح البدء بـ 1963، فبين التاريخين صراعات ونقاشات “وحريات” كثيرة، وأيضاً “التصفيات”. ذلك التغييب لم ينهِ أزمات سورية من ذاكرة السوريين، وانفتح المجتمع مع الثورة على كل أشكال الوعي، فتمظهر حركات وناشطين وقوى وشخصيات، واستعاد المجتمع المقموع لسانه أخيراً. لم يطُل الأمر، ومُسِكَ المجتمع سريعاً من القوى الأكثر تنظيماً، النظام وبدأ سرديّته عن الفتنة الطائفية، والإمارات السلفية والمؤامرة الكونية. ولعب الإخوان المسلمون الدور ذاته تجاه قوى المعارضة، فأُجبرت على أن تتمثل طائفياً في المجلس الوطني، ومارس “الإخوان” سياسات فئوية في ما بعد، حتى في إطار أهل السُنّة. ولاحقاً عمل النظام و”الإخوان” والتدخلات الخارجية على أسلمة الأحداث في سورية وتطييفها، ودعموا كل أشكال الحركات الإسلامية السلفية والجهادية، وتم استثناء “داعش” فقط.
في هذا الوضع، اشتدّ التطييف في سردية السلطة، ولاحقاً أصبحت القوى الإسلامية مسيطرة على الفصائل. وسياسياً، وعبر المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة سيطر “الإخوان”، فهل بقي شيءٌ من الحركة التصحيحية، وقد لُبرِل الاقتصاد وعوديت دول الخليج، وأصبح الغرب لا يثق به، وحتى رامي مخلوف جرى استبعاده، والتقارير تتحدث عن خلافات في أعلى مراكز السلطة؟
لم تعد السلطة في سورية سلطة حقيقية حتى لدى الطائفة العلوية، وهي والمجتمع السوري يشهدان كل أشكال التأزّم والانهيار، وينتظران المبادرات الجادّة من أجل التغيير.
المصدر: العربي الجديد