الإخفاء القسري… لإنشاء آلية تتابع مصير أبناء السوريين

ابتسام عازم

تبقى قضيّة المعتقلين والمخفيين قسرياً “واحدة من أكبر مآسي الصراع في سورية”. هكذا يصف رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية باولو سيرجيو بينيرو، القضية في تقريره الذي قدمه نهاية الشهر الماضي في نيويورك أمام اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان. وبعد مرور أكثر من عقد على الصراع، ما زالت ملايين العائلات السورية لا تعرف مصير عشرات الآلاف من أحبائها، وما إذا كانوا على قيد الحياة أو في عداد الموتى. فلا قبور لزيارتها، ولا أوراق رسمية أو معلومات تدل على مصائرهم. وليست مصائر المفقودين والمخفيين قسرياً وحدها معلقة، بل كذلك مصائر الكثير من العائلات، إذ عليها، إلى جانب معاناتها متعددة الأوجه، أن تتعامل مع بيروقراطيات دولية ومحلية تنهك وتثقل كاهلها وتزيد من جحيمها، فضلاً عن استغلال الأطراف المختلفة لمحنتها.

وعلى الرغم من وجود رابطات لعائلات سورية ومؤسسات دولية، كالصليب الأحمر، تعمل على الموضوع، إلا أنه لا توجد آلية موحدة تحت مظلة دولية محايدة تساعد العائلات على متابعة مصير أبنائها والتعامل مع تبعات هذا الإخفاء القسري أو الحصول على الدعم. فالأرقام هائلة، والاحتياجات كبيرة. جهد من هذا القبيل يتطلب تنسيقاً ورعاية دولية وأموالاً. وتأمل عائلات الضحايا أن يتغير هذا قريباً في حال تمكُّن الجمعية العامة للأمم المتحدة من التصويت وتبنّي قرار قريب (غالباً في يناير/ كانون الثاني أو فبراير/ شباط) بهدف تشكيل آلية أو كيان دولي لمتابعة قضية المعتقلين والمخفيين قسراً في سورية، وهو ما أوصى به تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في أغسطس/ آب الماضي.

ومن أبرز توصياته “النظر في إنشاء هيئة دولية جديدة من طريق الجمعية العامة للأمم المتحدة”. ويجب أن يكون لها “عنصر هيكلي يضمن للضحايا والناجين وأسرهم والمنظمات النسائية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى، إمكانية المشاركة بشكل كامل ومجد في تفعيلها وعملها”. ومن ضمن ولايتها، أولاً “توضيح مصير وأماكن وجود الأشخاص الذين توجد أسباب معقولة تدفع إلى الاعتقاد بأنهم في عداد المفقودين في سورية”. ثانياً “تقديم الدعم الكافي للضحايا والناجين وأسر المفقودين، بما في ذلك من طريق إنشاء صندوق ائتماني”.

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت القرار 228/76 في ديسمبر/ كانون الأول عام 2021، وطلبت بموجبه من غوتيريس تقديم دراسة عن كيفية تعزيز الجهود، “بما في ذلك من خلال التدابير والآليات القائمة، لتوضيح مصير وأماكن وجود المفقودين في سورية، والتعرف إلى الرفات البشرية وتقديم الدعم لأُسرهم”. وحدد القرار كذلك أن تجري الدراسة استناداً إلى توصيات لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسورية. وقدمت اللجنة ورقتها في يونيو/ حزيران الماضي تحت عنوان “المفقودون والمختفون في سورية: هل من سبيل للتحرك قدماً؟”.

ولعبت عائلات الضحايا والناجين السوريين والروابط التي أسسوها دوراً فعالاً وأساسياً في الضغط لتحريك الملف من أجل اتخاذ خطوات ملموسة على الصعيد الدولي. وتقول العضو المؤسس في “رابطة عائلات قيصر” ياسمين المشعان، لـ”العربي الجديد”: “جئنا إلى نيويورك لمتابعة مشوارنا من أجل تطبيق الدول الأعضاء توصية غوتيريس وإنشاء آلية مختصة معنية بكشف مصير المفقودين”. في الوقت الحالي، تعيش المشعان في ألمانيا، وقد قتل خمسة من أشقائها، ناضلوا ضد النظام السوري، ولاحقاً ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. واستشهد أحد إخوتها في معتقلات النظام وتعرفت العائلة إلى صورته ضمن “صور قيصر”.

وتؤكد المشعان أن جهود الروابط السورية المختلفة لإنشاء آلية دولية لم تكن وليدة اللحظة، إذ بدأت قبل ثلاث سنوات عند اجتماع عدد منها مع مسؤولين في بروكسيل من أجل تحريك القضية. والروابط هي “رابطة عائلات قيصر”، و”عائلات من أجل الحرية”، و”مبادرة تعافي”، و”مسار” (تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية)، و”رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”. وتشير إلى اتخاذ خطوات من أجل الضغط وحثّ المجتمع الدولي على التحرك، مع رؤية محددة لشكل العدالة التي تريدها العائلات. وتلفت إلى أنه “تم تصنيف العدالة بورقة تحت عنوان ميثاق الحقيقة والعدالة، وتشمل عدالة قريبة الأمد وأخرى طويلة الأمد”. تضيف أن الروابط لم تكتف بذلك، وأصدرت دراسة بالاستعانة بأحد الخبراء الدوليين حملت اسم: إنهم بشر وليسوا أرقاماً، ومن ضمن ما تتطرق له هو قضية الآلية وتشكيلها.

أما اللجنة الدولية بشأن سورية، فتؤكد في تقريرها أنها “أوصت منذ عام 2016 بأن يدعم المجتمع الدولي إنشاء آلية لمساعدة السوريين في معالجة التحدي الذي يمثله وجود عشرات الآلاف من الأشخاص المفقودين والمخفيين قسرياً. لكن تلك التوصيات لم تثمر حتى الآن تحركاً فعلياً لتلك الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن. على الرغم من تبني المجلس عام 2019 بالإجماع القرار رقم 2474 المتعلق بقضايا الأشخاص المفقودين في النزاعات المسلحة حول العالم، إلا أن التوافق بشأن سورية يبقى غائباً بسبب دعم روسيا للنظام السوري واحتمال استخدام الفيتو. في المقابل، يمكن الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تصدر قراراً بتشكيل هيئة من هذا القبيل، إذ لكل دولة عضو صوت واحد ولا يمكن استخدام الفيتو كما هو الحال في مجلس الأمن. ويخلص تقرير غوتيريس إلى ضرورة أن تقدم الجمعية العامة على ذلك.

قيمة مضافة

وعن أهمية إنشاء هذه الآلية، تقول المنسقة العامة لرابطة “عائلات من أجل الحرية” وإحدى المؤسسات لها، آمنة خولاني، لـ”العربي الجديد”: “بالنسبة إلينا كناجين وروابط ضحايا وأهالٍ وكحقوقيين سوريين، ستعطي هذه الآلية قيمة إضافية كبيرة لملف المخفيين والمعتقلين في سورية. وهو ملف من أكثر الملفات إيلاماً وتعذيباً مستمراً للأهالي”. وتشرح، قائلة: “قد تكون لها قيمة مضافة كبيرة على عدد من الأصعدة، من بينها بناء الثقة بين أطراف النزاع في سورية، وعلى رأسها النظام السوري المسؤول الأول عن معظم المعتقلين في سورية، بالإضافة إلى أطراف أخرى، كقسد وداعش والنصرة وبعض الفصائل وغيرها، كما بناء الثقة بين المجتمع الدولي والسوريين”. وتلفت خولاني إلى أن المدنيين السوريين، “بعد قرابة 12 سنة من الحالة الدموية في سورية، فقدوا الثقة بالمجتمع الدولي تماماً بعدما تركهم ليتكالب عليهم المتنازعون بالسلاح تحت سلطة الأمر الواقع. وقد تعيد هذه المبادرة الثقة، وخصوصاً أنها تنطلق من الضحايا وعائلات المعتقلين والمخفيين قسرياً. خولاني التي تعيش في المملكة المتحدة حالياً، كانت قد عانت الأمرّين، وقد اعتقلها النظام لستة أشهر. كذلك اعتُقل زوجها لأكثر من عامين، وقتل ثلاثة من إخوتها في سجون النظام.

وخلال زيارتهما نيويورك أخيراً، التقت خولاني والمشعان عدداً من السفراء الأجانب والعرب لدى الأمم المتحدة، بالإضافة إلى مسؤولين فيها وفي الصليب الأحمر، لحشد الجهود لدعم إنشاء الآلية أو الكيان. كذلك استضافت ممثلية ألمانيا للأمم المتحدة في نيويورك طاولة مستديرة بحضورهما، بالإضافة إلى عدد من الدبلوماسيين الألمان والدوليين وممثلين عن الأمم المتحدة لبحث القضية وتسليط الضوء عليها إعلامياً.

وتطرقت خولاني كذلك إلى التعقيدات المتعلقة بعدم وجود مؤسسة واحدة يمكن الحصول من خلالها على كل المعلومات عن المخفيين قسرياً. وتشرح: “هناك كمية هائلة من المعلومات موزعة بين المنظمات الحقوقية السورية والدولية. ولكن لا يوجد دائما تنسيق بينها. وأحياناً، هناك للأسف نوع من التنافس غير الإيجابي”. وتؤكد أن الآلية يمكن أن تجمع كل المعلومات المتوافرة لدى مؤسسات مختلفة، ما يتيح للسورين حيثما كانوا اللجوء إليها لتوثيق ما يحدث لهم أو البحث عن معلومات”. وتلفت خولاني الانتباه إلى نقطة إضافية مهمة تتعلق بمعاناة العائلات واضطرارها إلى تكرار وسرد قصتها أمام المؤسسات المختلفة إن توجهت لأكثر من واحدة منها، ما يعني تكرار فتح جروحها وزيادة معاناتها النفسية. وتؤكد أنه “إذا كانت هناك مؤسسة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة مسؤولة عن الموضوع، سيكون الجميع ملزماً، أخلاقياً على الأقل، بأن يقدم لها ما لديه من معلومات، وتكون هي المرجع وتعالج المعلومات حسب الضوابط التي ذكرت في تقرير الأمين العام”.

ومن ضمن تلك الضوابط والمبادئ الأساسية الواردة في تقرير غوتيريس وتقرير لجنة التحقيق الدولية بشأن سورية، “مبادئ العمل الإنساني الأساسية: الاستقلالية وعدم التحيز والحياد والإنسانية والكرامة. كما المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان: عدم التمييز والمساواة والشمول والمنظور الجنساني، والمشاركة وعدم الإضرار، وإن حقوق الإنسان حقوق عالمية غير قابلة للتصرف وغير قابلة للتجزئة ومترابطة”. وفي ما يخص المبادئ الأخرى التي تتصل بآليات الأشخاص المفقودين، فهي “المصداقية وإمكانية الوصول، والسرية واحترام البيانات الشخصية، والتطبيق العملي والاستدامة والشفافية وعدم الازدواجية”. كذلك يتعين في إصدار الولاية معالجة استدامة التمويل. وفي ما يخص ذلك، هل يعتمد على التبرعات أو/و الميزانية العادية للأمم المتحدة؟ وهذا يزيد من التحديات في الاتفاق على ولايتها بين الدول الأعضاء؟ أمر تشير إليه اللجنة كذلك في تقريرها.

أشخاص غير مجهولين

إلى ذلك، تذكر لجنة التحقيق الدولية بشأن سورية في تقريرها أن الأدلة تشير إلى أن “الحكومة السورية على علم بالأشخاص الذين احتجزتهم وتُسجل المعلومات عنهم بدقة. ومع ذلك، بدلاً من التحقيق في الجرائم المرتكبة في مرافقها للاحتجاز، فإنها تواصل حجب المعلومات عن أفراد الأسر، وهو ما تفعله الأطراف الأخرى في النزاع. والقيام بذلك يعني تعمد إطالة معاناة مئات الآلاف من أفراد الأسر، وترك القضايا القانونية الملحة المتصلة بالحالة المدنية وحقوق الملكية من دون حل، الأمر الذي يؤدي إلى عواقب وخيمة على الأسر، ليس أقلها الأسر التي تعيلُها النساء، وقدرتها على التعامل مع الجوانب الأساسية لمعيشتهن اليومية… وتمثل حالات الإخفاء القسري صدمة وطنية ستؤثر في المجتمع السوري لعشرات السنوات”.

في هذا الإطار، تنبه المشعان إلى وجود تحديات إضافية، من ضمنها تعرض العديد من العائلات لعمليات النصب والابتزاز من قبل سماسرة أو الجهات المختلفة في أثناء محاولاتها للحصول على معلومات عن أحبائها. وتؤكد أنهم قد يتعرضون حتى لانتهاكات لمجرد السؤال عن ذويهم. وقد تصل تلك الانتهاكات إلى الاغتصاب أو التحرش الجنسي، وخصوصاً أن نسبة كبيرة من المخفيين، من الذكور. بالتالي، إن المتأثرين مباشرة بذلك هنّ النساء والأطفال في الغالب، الشريحتان الأضعف في المجتمع.

حلول

وعن الحلول العملية التي يمكن أن تساعد فيها تلك الآلية، تقول المشعان: “على سبيل المثال، قمنا في رابطة عائلات قيصر بتطبيق لمقارنة الوجوه قبل الاعتقال وبعد الاستشهاد، ما يساعد على تجنيب العائلات ألم البحث بين الصور. واضطرت الكثير من العائلات إلى النظر في الصور والفيديوهات عشرات المرات لكي تتعرف إلى ذويها، الأمر الذي يترك أثره النفسي وصدمة للأهل. آلية من هذا النوع بإمكانها أن تجد خطوات عملية إضافية تجنب العائلات ذلك”. وتتحدث عن الدعم الإنساني والقانوني والنفسي وغيرها مما يمكن أن تقدمه هذه الآلية، مشيرة إلى قضية استخراج الأوراق الرسمية للزوجات وهي مهمة شبه مستحيلة ومعقدة، ما يعني أنه لا يمكن تلك العائلات الحصول على إعادة توطين مثلاً. وتطلب منها أوراق رسمية مختلفة بما فيها شهادة وفاة. وتتساءل المشعان: “كيف يمكن الحصول على تلك الورقة من النظام أو المنظمات المسلحة أو داعش؟ كما أن الكثير من العائلات لا تعرف مصير أبنائها أصلاً، وما إذا كانوا ما زالوا على قيد الحياة أو لا. وهذا يعني استثناء النساء وأطفالهن مع أنهن الحلقة الأضعف من خدمات عدة”. وتؤكد المشعان تأثير ذلك في أمور أخرى، إذ إن “الكثير من القضايا متوقفة على إثبات مصير الزوج، منها التعليم والميراث والوصاية على الأولاد وغيرها”. وكأنه لا يكفي ما تعيشه تلك العائلات من عدم معرفة مصير أبنائها، بل إن “حياتها واقفة مع وقف التنفيذ”، كما تصفها المشعان. تضيف خولاني أنه بهدف حل قضية شهادة الوفاة على سبيل المثال، “يمكن أن تُعطى شهادة مفقود تستفيد منها الأسرة في تيسير أمورها المدنية. وهذا يتطلب وجود خبراء، وأن يكون هناك نظام إحالة، وشراكة مع الآليات الأخرى في الأمم المتحدة من أجل أن تتعامل بحساسية مع عائلات المفقودين”.

يؤكد تقرير لجنة التحقيق كذلك عدداً من الأمور، من أبرزها أن قضية المخفيين ومعالجتها لها بعد عابر للحدود السورية،  “وتتضح الطبيعة المعقدة العابرة للحدود الوطنية لقضية المفقودين والمخفيين أيضاً في سياق الأشخاص الأيزيديين المفقودين نتيجة الإبادة الجماعية، ومعظمهم من العراق أصلاً، ولكن جاءت آخر المعلومات عنهم من سورية. كذلك إن سنوات النزاع العشر قد تمخضت عن وجود ملايين السوريين الذين يلتمسون اللجوء خارج البلاد، ومات كثيرون منهم أو فقدوا في الطريق. وتتركز أُسر الأشخاص المفقودين والمخفيين، والناجين أيضاً، إلى حد بعيد، في البلدان المجاورة، ولكنهم يشكلون عالمياً جزءاً من مجتمع المهاجرين والشتات”.

وتؤكد اللجنة في تقريرها نقطة مهمة أخرى، مفادها بأن “حالات الإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي بالفعل كانت مصدر قلق عميق في سورية قبل عام 2011، وحدِّدَت باعتبارهما سببين جذريين ومحركين للنزاع الجاري”. وتشدد المشعان وخولاني على أن توصيات غوتيريس “تبقى حبراً على ورق في حال عدم التصويت على إطلاق الآلية والإسراع في تفعيلها. ومن الضروري أن يكون هناك نوع من الرقابة والريادة لأهالي الضحايا”. تدرك العائلات السورية أن تشكيل آلية من هذا القبيل لن يحل كل مشاكلها والتحديات الكثيرة التي تواجهها، لكنه سيخفف من بعض العبء، وسيكون خطوة أولى في طريق طويل لتحقيق “عدالة” ما في سورية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى