أدت زيارة المستشار الألماني “أولاف شولتس” إلى الصين هذا الأسبوع إلى نتائج دبلوماسية متواضعة ولكنها حقيقية، فقد أصدر الزعيم الصيني “شي جين بينج” بيانًا قويًا يحذر جميع البلدان من استخدام أو التهديد باستخدام الأسلحة النووية؛ وهو أمر يمكن قراءته كتحذير لموسكو بعدم استخدامها في أوكرانيا.
دعا “شي” أيضًا إلى مفاوضات عاجلة لإنهاء الصراع في أوكرانيا، دون أن يرفق ذلك بأي لهجة تدين أمريكا أو الناتو أو تدعم روسيا. من جانبه، أدان “شولتس” انتهاكات حقوق الإنسان في الصين ودعا الحكومة الصينية إلى استخدام نفوذها على موسكو لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
وفي مقال كتبه قبل الزيارة، أشار “شولتس” إلى أن العلاقة التجارية لبلاده مع الصين هي علاقة متبادلة، ولكنه تعهد أيضًا بتقليل اعتماد بلاده على دول أخرى في مجالات معينة. ولكن فيما يبدو كأنه تحذير لواشنطن، أكد أيضًا أن “ألمانيا لا تهتم برؤية تكتلات جديدة تظهر في العالم”.
واجتذبت زيارة “شولتس” انتقادات شرسة من السياسيين ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة وأوروبا وألمانيا نفسها، بما في ذلك الاتهامات المتوقعة مثل “شولتس يخضع لبكين”.
وبالرغم من تركيز “شولتس” على أن استمرار التعاون مع الصين ضروري من أجل الحد من تغير المناخ، قالت “أنالينا بيربوك”، وزيرة الخارجية الألمانية وزعيمة “حزب الخضر” في التحالف الحاكم: “لا يمكننا الاكتفاء بالأمل في ألا تكون الأمور سيئة للغاية مع هذه الأنظمة الاستبدادية، من المهم للحكومة الألمانية ولي شخصيًا أن ننقل ما تعلمناه من اعتمادنا على روسيا إلى استراتيجيتنا الجديدة تجاه الصين”.
لا تحالف روسي صيني
ربما كان بيان “شي” حول أوكرانيا متماشيًا مع الآمال الواقعية إلى حد كبير، أما هؤلاء السياسيون والمعلقون الغربيون الذين دعوا الصين للانضمام إلى العقوبات الغربية ضد روسيا فإنهم حمقى. فحتى الهند، وهي شريكة للولايات المتحدة وبلد ديمقراطية، لم تفعل ذلك، كما لم يفعل معظم العالم ذلك.
ولم تكن هناك فرصة لانضمام الصين إلى الحرب الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا نتيجة عوامل جيوسياسية واقتصادية (بما في ذلك الاعتماد الجزئي على روسيا من أجل أمن الطاقة في الصين).
ولكن إذا كان هؤلاء الذين يأملون في شراكة صينية مع الغرب ضد روسيا متفائلين بسذاجة، فإن أولئك الذين يتحدثون عن “التحالف الصيني الروسي” يعانون من مرض المبالغة وإساءة استخدام المصطلحات بما في ذلك “التحالف”؛ بالرغم أن لديهم بعض العذر حيث استخدم الخطاب الصيني والروسي هذه المصطلحات.
هناك بالفعل شراكة صينية روسية لكن لا يوجد تحالف. ولن تقاتل الصين من أجل روسيا في أوكرانيا مثلما لن تقاتل روسيا من أجل الصين في الشرق الأقصى. وحتى لو لم تنضم الصين إلى الغرب في الضغوط الاقتصادية ضد روسيا، فإنها لم تقدم أي مساعدة عسكرية أو اقتصادية لروسيا، باستثناء الاستمرار في شراء النفط والغاز الروسي (مثل معظم العالم).
ويعد ضبط النفس هذا مفاجئا لبعض الناس إلى حد ما، إذ إنه بالنظر إلى العداء المتزايد بين الولايات المتحدة والصين وتحذيرات الحرب المحتملة على تايوان، ربما يتوقع المرء أن تفعل الحكومة الصينية كل ما في وسعها لتعزيز روسيا ضد الولايات المتحدة؛ خاصة أن روسيا هي الشريك الإستراتيجي القوي الوحيد الدى الصين.
وما يفسر إحجام الصين عن مساعدة روسيا هو ميلها المستمر إلى الحذر الاستراتيجي، والذي يظل (خارج بحار جنوب وشرق الصين) أكبر بكثير مما يراه معظم المعلقون الغربيون. ومع ذلك، فإن ضبط النفس الصيني يرجع أيضًا إلى خوف بكين من أن تؤدي المساعدات العسكرية والاقتصادية لروسيا إلى انضمام الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في فرض عقوبات اقتصادية على الصين.
التضييق على الصين مخاطرة
إذا كانت الصين تمتنع عن مساعدة روسيا في حرب أوكرانيا لأنها ترغب في الحفاظ على علاقات اقتصادية جيدة مع أوروبا، فإن تقليل ألمانيا وأوروبا من العلاقات الاقتصادية مع الصين تحت ضغط الولايات المتحدة، سيجعل المساعدات الصينية لروسيا تزداد بالتناسب مع ذلك.
وزادت الانتقادات لزيارة “شولتس” للصين بسبب قراره الأخير السماح لـ”كوسكو” (شركة شحن صينية) بشراء حصة بنسبة 25% في محطة ميناء في هامبورج، بالرغم من المعارضة القوية من واشنطن وشركائه في الائتلاف. ويرجع قرار “شولتس” إلى رغبته في مساعدة مدينة هامبورج التي كان عمدتها.
ومع ذلك، تم تخفيض الحصة الصينية من الحصة الأصلية البالغة 35%، ولن تؤدي الحصة في محطة واحدة إلى جعل الصين تقترب في أي حال من الأحوال من السيطرة على موانئ هامبورج. وإذا كانت الصين ستُمنع حتى من شراء حصة أقلية في مشاريع البنية التحتية الأوروبية، فإن هذا يعني أن أوروبا بالفعل في طريقها إلى الانفكاك الاقتصادي عن الصين.
وفي حين أن ألمانيا لديها مخاوف جدية بشأن الممارسات التجارية غير العادلة وسرقة الصين للملكية الفكرية، إلا إن العلاقة مع الصين لا يمكن وصفها بالتبعية. على سبيل المثال، تقوم شركة “BASF” (شركة مواد كيميائية ألمانية) ببناء ثالث أكبر مصنع لها في الصين، كما تقوم شركة “BMW” بإنشاء شركة جديدة في الصين، والشركتان مملوكتان بالكامل للألمان.
وما يحتل الأولوية في ذهن “شولتس” هو الضرر الذي سيسببه الانفكاك عن الصين على الاقتصاد الألماني والصفقات الصناعية التي لا تزال جزءًا حيويًا من قاعدة “الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، مع العلم أن قادة أكبر الشركات الصناعية في ألمانيا رافقوا “شولتس” في زيارة بكين، وكانت الصناعة الألمانية داعمة بشدة لزيارته.
ومثل زملائه في “الحزب المسيحي الديمقراطي” وسلفه المستشارة “أنجيلا ميركل”، من الواضح أن “شولتس” مصمم على حماية القاعدة الصناعية عالية التقنية في ألمانيا؛ وهو ما يبدو أن الخضر والليبراليين أصبحوا غير مهتمين به بشكل غريب.
وأدى خطر حدوث أضرار كبيرة في الصناعة الألمانية بسبب الحد من إمدادات الغاز الروسية إلى تعزيز رغبة “شولتس” في التمسك بالعلاقة مع الصين أكثر.
منذ عام 2016، كانت الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا، حيث بلغت قيمة التجارة في عام 2021 حوالي 242 مليار دولار؛ بزيادة قدرها 15% عن العام السابق. وتتركز صادرات ألمانيا في الصناعات المتطورة والعالية القيمة؛ حيث تمثل المركبات والآلات والمعدات الإلكترونية أكثر من 3 أرباع المجموع.
وتعد السوق الصينية بالغة الأهمية بشكل خاص بالنسبة لشركات السيارات الألمانية، حيث يمثل 40% من مبيعات “فولكس فاجن” العالمية حتى الآن هذا العام، ويُنظر إلى الوصول إلى سوق الصين المتنامية للسيارات الكهربائية على أنها ذات أهمية حاسمة لهذا الفرع من الصناعة الألمانية.
وإذا حدث انخفاض حاد وسريع للصناعة الألمانية، فإن تداعياته ستتجاوز الاقتصاد بكثير، ومن المؤكد أن النتيجة ستكون طفرة في دعم الأحزاب الراديكالية اليمينية واليسارية، مما يهدد بقاء الديمقراطية الألمانية.
ويعد ذلك خطرا يجب أن توليه الولايات المتحدة المزيد من الاهتمام. وبالرغم من الدعاية الغربية، فإن التهديد الخارجي من روسيا والصين على الديمقراطية الغربية ضئيل في الواقع، وقد انخفض في الأشهر الأخيرة؛ مع انكشاف ضعف الجيش الروسي. كما لا يوجد الكثير من الجاذبية لقمع “بوتين” المتزايد في الداخل، وتحول الصين المتزايد من الاستبداد إلى الشمولية.
ويعود الاستقطاب السياسي والتراجع الديمقراطي في الغرب لأسباب محلية بشكل كبير، ولا يمكن معالجتها بجدية من خلال المواجهة مع روسيا والصين.
وحتى لو ادعت إدارة “بايدن” أن الدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم هو في صميم استراتيجية الأمن القومي، يجب أن تكون مهتمة بالرفاهية الاقتصادية للحلفاء الرئيسيين بقدر ما تهتم بمواجهة الصين، وربما أكثر من ذلك بكثير.
المصدر | أناتول ليفين | ريسبونسبل ستيتكرافت – ترجمة وتحرير الخليج الجديد