بدأت الحركات السياسية العربية التي أخذت في البداية لباس الجمعيات كما هو حال الحركات السياسية في الدولة العثمانية في تلك المرحلة بعد إقرار دستور عام 1908 , فإذا أخذنا بالاعتبار أن الشريف حسين قد تم تعيينه من قبل الدولة العثمانية كشريف لمكة في ذات العام فيمكن لنا أن نقدر أن الفرصة لم تكن متاحة للشريف حسين للقاء أعضاء الجمعيات العربية والحوار معهم أو الاتفاق حول رؤية سياسية متقاربة , وكذلك أبناؤه فيصل وعلي وزيد وعبد الله , كما أن الأخبار التي وصلتنا عن نشاطهم السياسي في استانبول في تلك الفترة لاتتضمن مايشير إلى تلك العلاقة .
ومنذ العام 1908 نشأت في استانبول عدة جمعيات سياسية الأهداف بقالب اجتماعي أو أدبي ومنها جمعية ” العربية الفتاة ” و ” الإخاء العربي ” و ” المنتدى الأدبي ” وقد عملت تلك الجمعيات في استانبول لفترات متفاوتة , فبالنسبة لجمعية الإخاء العربي وبعد المحاولة الفاشلة التي قامت بها فصائل من الجيش العثماني لإلغاء الدستور واستعادة مركز الخليفة السياسي في آذار عام 1909 ,فقد اتهمت جمعية الاخاء العربي بالتواطىء مع الانقلابيين وبالتالي تم منعها بصورة نهائية من قبل الاتحاديين .
أما جمعية ” العربية الفتاة ” فقد اختارت أن يكون مقرها في باريس وهناك تشكلت أول هيئة إدارية لها عام 1911, لكنها استطاعت ضم أعضاء من ” المنتدى الأدبي ” إلى صفوفها في استانبول منهم سيف الدين الخطيب ورفيق رزق سلوم ويوسف مخيبر بينما بقي مركزها في باريس , ويمكن النظر لتلك الجمعية كواحدة من أهم التجمعيات السياسية القومية – العربية والتي سوف يزداد دورها فيما بعد خاصة أنها تمكنت من مد نشاطها إلى دمشق وهناك التحق بها شكري القوتلي الذي أصبح فيما بعد رئيس الدولة السورية , كما التحق بها آخرون في بلاد الشام مع العام 1913 .
وفي الجيش العثماني نشأت جمعية عربية سرية هي جمعية العهد تكونت من بعض الضباط العرب عام 1913 وأشهرهم عزيز المصري وياسين الهاشمي ونوري السعيد ومولود مخلص وسليم الجزائري وعلي النشاشيبي , ومالبث أن اتصلت بجمعية ” العربية الفتاة ” وهكذا أصبح للحركات القومية العربية جناحان عسكري ومدني , سوى أن الجناح العسكري كان الأكثر راديكالية والأقل خبرة بالسياسة .
وفي القاهرة تأسس حزب اللامركزية العلني أواخر عام 1912 على يد عدد من الشباب السوريين المثقفين المقيمين في مصر ومنهم : رفيق العظم ورشيد رضا , وفؤاد الخطيب , ومحب الدين الخطيب وسليم عبد الهادي وحافظ سعيد ونايف تللو وعلي النشاشيبي وشبلي الشميل واسكندر عمون . وكان للحزب مكانته الكبرى لعلنيته والحرية النسبية التي تمتع بها في مصر واتصاله بالصحافة المصرية .
حدد برنامج الحزب أهدافه في الدعوة إلى تطبيق اللامركزية الإدارية في الولايات العثمانية العربية والمطالبة بالاصلاح ونقل السلطة إلى السكان المحليين وضمان مركز اللغة العربية في الإدارة والتعليم.
في بيروت تأسست الجمعية الاصلاحية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب البلقانية وازدياد الحديث في المنابر الأوربية حول وراثة أقاليم الدولة العثمانية وتقاسم الدول الأوربية تلك الأقاليم فيما بينها ( تركة الرجل المريض ) وهكذا بدأ العرب يفكرون أيضا بمستقبل بلادهم بصورة مستقلة تحسبا للقادم , فاجتمع عدد من المثقفين والسياسيين في بيروت في كانون أول عام 1912 , وطلبوا من الحكومة في استانبول تطبيق اللامركزية في البلاد , وأن يكون للولاية مجلس عمومي يشرف على الادارة المحلية وأن يكون لذلك المجلس حق محاسبة الوالي وطلب عزله من الادارة المركزية في استانبول , وأن تكون اللغة العربية رسمية إلى جانب اللغة التركية في الأقاليم العربية .
مؤتمر باريس :
بعد الأعمال التحضيرية انعقد مؤتمر باريس بين 18 ولغاية 23 حزيران عام 1913 في قاعة الجمعية الجغرافية في باريس .
أهم المشاركين : حزب اللامركزية ومقره القاهرة
جمعية العربية الفتاة ومقرها باريس
الجمعية الاصلاحية ومقرها بيروت
ممثلين عن الجاليات العربية في تركيا , أمريكا الجنوبية , الولايات المتحدة , فرنسا
فيما يلي أهم المطالب التي أقرها المؤتمر :
أولا : أن الاصلاحات الحقيقية واجبة وضرورية للمملكة العثمانية فيجب أن تنفذ بوجه السرعة .
ثانيا : من المسلم به أن يكون تمتع العرب بحقوقهم السياسية مضمونا وذلك بأن يشتركوا في الادارة المركزية للمملكة اشتراكا فعليا .
ثالثا : يجب أن تنشأ في كل ولاية عربية ادارة لامركزية تنظر في حاجاتها ومتطلباتها للرقي .
رابعا : اللغة العربية يجب أن تكون معتبرة في مجلس النواب العثماني ويجب أن يقرر هذا المجلس كون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية .
خامسا : تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف زالأحيان التي تدعو إلى الاستثناء الأقصى .
يمكن النظر إلى مؤتمر باريس باعتباره محطة رئيسية في تاريخ الحركة القومية العربية , فبعد ذلك المؤتمر أصبح لدينا برنامج سياسي مشترك واضح المعالم , وكما هو ظاهر من لغة القرارات فقد صيغت كمطالب إصلاحية مقدمة للدولة العثمانية وليس كبرنامج عمل ثوري انقلابي , فمؤتمر باريس مؤسس على الاعتراف بسيادة الدولة العثمانية , لاعلى الخروج عن تلك السيادة والانفصال عنها , وبذلك فهو يفتح الباب أمام الحوار مع حكومة الاتحاديين للوصول للإصلاحات المطلوبة , لكنه يقدم مطالبه بلغة جازمة تعطي الانطباع بأن الحركة القومية العربية قد نفد صبرها وأن مطالبها لم تعد تحتمل التأجيل والتسويف .
لكن تيارا سياسيا عربيا مختلفا كان يتبلور في ذات الوقت , لم يقيض له الإنتشار ولا الفعالية لكن ذلك لايمنع من إعطائه الأهمية التي يستحقها يمثله حزب الاصلاح التي تأسس في دمشق في الفترة ذاتها والذي كان يناوىء مؤتمر باريس , ويعتبر انعقاده في فرنسا مؤشرا لتدخل الغرب في تفكيرالمؤتمرين وتوجهاتهم وقراراتهم . بينما كان ذلك التيار أقرب للدولة العثمانية وأحرص على أن يكون الاصلاح بعيدا عن الأجندات الغربية,وأبرز ممثلي هذا التيار هم : المفكر والسياسي الكبيرشكيب أرسلان , والدكتور حسن الأسير والشيخ أسعد الشقيري والشريف علي حيدر وأخوه جعفر والشيخ عبد العزيز الشاويش من أقطاب الحزب الوطني المصري الذي كان يناوىء سلطة الانكليز في مصر والسيد عبد العزيز الثعالبي من الوطنيين التونسيين والشيخ سليمان الباروني من وجهاء الوطنيين المجاهدين الليبيين
وخير ممثل لذلك التيار هو الأمير شكيب أرسلان الذي كان يرى أن الأتراك أنفسهم هم سبب انحدار الدولة العثمانية بسبب سوء ادارتهم وتناحرهم والفساد الذي انتشر في ادارة الدولة والولاء للأجنبي ومن تلك الأمراض تسلل الأجنبي واستطاع أن يمتلك مراكز اقتصادية ومالية وثقافية , لكن الأمير شكيب رغم ذلك كان يفضل بقاء الدولة العثمانية لأن البديل عن الحكم العثماني ليس الحكم العربي ولكن الحكم البريطاني والفرنسي فاختيار العثمانيين هو اختيار لأخف الضررين ( كتاب شكيب أرسلان : تاريخ الدولة العثمانية – المقدمة )
أما عن مؤتمر باريس فيقول شكيب أرسلان في رسالته المعنونة ” إلى العرب ” وفي الفقرة الخاصة بمؤتمر باريس :
” أما اللامركزيون فكان قصارى سعيهم أن جعلوا القلق يسود على الأفكار , وزرعوا بذور النفور بين العرب والترك , وفتحوا مجالا للصحف الأجنبية للخوض في مسألة سورية , وإذا دققت في جميع حركاتهم وسكناتهم تجدها رامية إلى غرض واحد ,وهو إيجاد مسألة أوربية في سورية , أو مسألة سورية في أوربة.”