دائماً كان الحديث عن علاقة تنظيم “داعش” الإرهابي بالنظام السوري مبنياً على التكهنات والمعلومات المفتقرة للوثائق، لكن تسريبات جديدة وثّقت هذه العلاقة بين الطرفين، وتحديداً في محافظة درعا.
وشهدت المحافظة، الواقعة جنوبي سورية، تداخل السيطرة والنفوذ بين كل من النظام والمعارضة وتنظيم “داعش” في وقت سابق، بالإضافة إلى مليشيات إيرانية وأخرى محسوبة على روسيا، قبل وبعد الدخول في سلسلة التسويات التي بدأت في صيف العام 2018.
وبث “تجمع أحرار حوران” (منصة لنشطاء إعلاميين تهتم بنقل أخبار درعا والجنوب السوري)، يوم الجمعة الماضي، مقطعاً مصوراً حصل عليه من فصائل المعارضة في مدينة جاسم شمالي درعا، تظهر فيه اعترافات للمدعو رامي الصلخدي، الذي يعد قيادياً من الدرجة الثالثة في صفوف التنظيم في درعا، يقر فيها بعلاقاته بفرع الأمن العسكري في المحافظة، التابع لشعبة المخابرات العسكرية (أحد أهم الأجهزة الأمنية في بنية النظام الاستخباراتية).
واعترف الصلخدي بأنه التقى بالعميد لؤي العلي، رئيس فرع الأمن العسكري في درعا، بتنسيق من ابن عمه نضال الصلخدي المقرب من العلي وفرع الأمن العسكري، وكلفه العلي باغتيال شخصيات من مدينة جاسم، من العناصر السابقين في المعارضة المسلحة أو النشطاء المعارضين، بالإضافة لبعض عناصر وقيادات “داعش”.
واعترف الصلخدي، الذي عثر على جثته يوم الجمعة الماضي في الساحة العامة في مدينة جاسم، بعد اعتقاله من قبل الفصائل، بأنه تسلم بندقية ومسدسا من قبل لؤي العلي، وأورد معلومة تسلمه مسدسا مزودا بكاتم صوت (يستعمل في عمليات الاغتيال) في دمشق، أي أن الصلخدي كان على علاقة بأجهزة النظام الأمنية حتى ما قبل تجنيده من قبل لؤي العلي وفرع الأمن العسكري في درعا.
ووفق المقطع المصور، فإن ابن عمه نضال اتصل به بعد أيام، وطلب منه استهداف المعتقل السابق في سجون النظام حسن توفيق الجباوي، إلا أنه تهرب من تنفيذ العملية بعد معرفته هوية الشخص المستهدف. وكشف عن أسماء عدد من الأشخاص ممن جرى استهدافهم في مدينة جاسم، مؤكداً أنهم جميعاً قتلوا عن طريق عناصر من التنظيم وبأمر من قياديي التنظيم، منهم “أبو أيهم” و”أبو عبدو الحلقي”، مشيراً الى أن أغلب عمليات الاغتيال نفذها شخص يدعى طلال برفقة شخص يدعى أبو أحمد برقة، موضحاً أن طلال اسمه الحقيقي أيوب فاضل الجباوي.
وأظهر المقطع المصور، في نهايته، محادثات بين نضال الصلخدي، ابن عم رامي، مع رئيس فرع الأمن العسكري في درعا لؤي العلي، تظهر التخطيط والتوجيهات لتنفيذ عمليات الاغتيال. وهذه المحادثات هي التي كشفت رامي الصلخدي بعد حصول الفصائل على هاتف نضال الذي قتل باستهدافه على طريق جاسم – نوى في الرابع من الشهر الحالي.
ويشار إلى رامي الصلخدي باعتباره مسؤولا لوجستيا في تنظيم “داعش” في درعا، ومن مهامه إدخال عناصر “داعش” إلى المحافظة، فيما لم يعرف تحديداً تاريخ انتسابه للتنظيم.
أصل القصة
وقال مصدر مطلع من درعا، فضل عدم الكشف عن اسمه، لـ”العربي الجديد”، إن القصة بدأت عندما بدأ النظام محاصرة جاسم في أغسطس/ آب الماضي، بذريعة وجود عناصر لتنظيم “داعش” في المدينة. وأضاف قائلا: “كان عدد عناصر التنظيم الذين وصلوا إلى جاسم لا يتجاوز 10 أو 15 عنصرا وقياديا، حينها طلب لؤي العلي من الفصائل المحلية في جاسم قتال عناصر التنظيم وإخراجهم من جاسم، لكن الفصائل أو العناصر السابقين في الفصائل الذين لا يزالون يحتفظون بالسلاح الفردي بحسب تسوية 2018، رفضوا مواجهة التنظيم، قائلين للعلي إنه إذا كانت لديكم الرغبة الحقيقية في قتالهم وإنهائهم، فقاتلوهم أنتم”.
وأوضح المصدر أن النظام لم يبدأ قتال عناصر التنظيم، لكن المفاجئ كان تمدد التنظيم في جاسم، ووصلت أعداد عناصره إلى أكثر من 100 خلال فترة قصيرة، وأصبحت لديه مقار ومحكمة خاصة به، مشيراً إلى أن مقاره لا تبعد مئات الأمتار عن مقار للنظام.
وعندما استفحل عناصر “داعش” في جاسم وبدأوا بمضايقة الناس وازدادت عمليات الاغتيال والفوضى الأمنية، قرر الأهالي والوجهاء والقيادات السابقة في الفصائل إنهاء وجود التنظيم من دون تدخل النظام. وبالفعل، بدأت العملية منذ منتصف الشهر الحالي، وتمكن العناصر من الأهالي والمحليين من قتل وأسر قرابة خمسين عنصراً من التنظيم، من بينهم رامي الصلخدي، الذي أعدمته الفصائل على ما يبدو على خلفية ارتباطه بأمن النظام.
ولفت المصدر إلى أن لؤي العلي كان يريد ضرب عناصر المعارضة بالتنظيم، فيضعف الطرفين، ليستطيع النظام بسط سيطرة كاملة على جاسم ومحيطها، لكن الفصائل تنبهت للأمر وبادرت لمنع تحقق ذلك.
أجندات وأسلوب النظام
من جهته، رأى الباحث والخبير في الجماعات الجهادية عباس شريفة أن “اعترافات الصلخدي بتجنيد النظام له في درعا، لتشكيل ما يشبه فرعا لداعش هناك، يأتي ضمن أجندات وأسلوب النظام لدخول النظام إلى المناطق العصية عليه والخارجة عن سيطرته”.
وأضاف في حديث مع “العربي الجديد”: “بعد إجراء التسويات، وتشكيل الفيلق الخامس (شكلته روسيا ودعمته، يضم اللواء الثامن في درعا الذي يقوده أحمد العودة، تحولت تبعته للواء للأمن العسكري أخيراً)، لم يستطع النظام السيطرة المطلقة بسبب رفض الأهالي والسلاح الموجود بيد مقاتلي الفصائل، وصحيح أن الحالة الثورية انتهت بطريقة شكلية، لكن لا يزال هناك تمرد ضد النظام في مواضع عدة، الأمر الذي دفع النظام والمليشيات الإيرانية للدفع نحو اقتحام وسط درعا والعديد من المدن الرئيسية لإخضاعها بشكل كامل، وكان لا بد من خلق الذرائع، فوجد الحل بتجنيد بعض المجموعات لإعادة بعث داعش في المنطقة وتبرير اقتحامها”.
وأشار شريفة إلى أن النظام له سوابق مشابهة في العديد من المحافظات، قائلاً: “في القلمون، نقل النظام التنظيم من هناك إلى البادية للاستثمار به والتحرك هناك، وكانت هناك جريمة كبرى عندما نقل النظام مجموعات من داعش إلى ريف السويداء وارتكبت هذه المجموعات مجزرة مروعة بحق الأهالي راح ضحيتها 150 قتيلا، من أجل تخويف أهالي السويداء وإخضاعهم، فضلا عما شهدته حلب أثناء تقاسم السيطرة، ففي حين كان النظام والتنظيم لا يسجل بينهما أي اشتباك، كانت تسجل اشتباكات الطرفين مع فصائل المعارضة المعتدلة لإضعافها وإنهائها”.
وبحسب شريفة، فإن “النظام استثمر بداعش كثيراً، إما بطريقة مباشرة من خلال الاختراق والتوظيف، أو بطريقة غير مباشرة من خلال الإعلام والتجييش”.
وصيف العام 2018، توصلت روسيا إلى اتفاق تسوية بين فصائل درعا والنظام بعد معارك دامية خلفت عشرات القتلى من المدنيين، نتيجة ضغط الروس والنظام على المناطق المأهولة بالسكان، في منحى لإجبار المعارضة على الاستسلام. وقضى الاتفاق حينها بتهجير الرافضين التسوية إلى الشمال السوري، فيما يحتفظ العناصر المتبقون من المعارضة المسلحة بأسلحتهم الفردية وتسلم الثقيلة والمتوسطة التي كانت بحوزة الفصائل.
وكان نتيجة للتسوية أن تمددت المليشيات المحسوبة على إيران في الجنوب السوري، كما حاول النظام الالتفاف على التسوية في كل منطقة من درعا على حدة بسحب السلاح الفردي من العناصر، بهدف السيطرة الكاملة على درعا وإنهاء أي مظاهر للمعارضة في المحافظة. ومع أن النظام لم ينجح في مواضع عدة، فإنه لم يتوقف عن تجنيد العديد من الأفراد الذين ينفذون لصالحه عمليات اغتيال وخلخلة للأمن والاستقرار والاستفادة من الذرائع، جميعها تهدف لبسط نفوذه الكامل على درعا ومحيطها.
المصدر: العربي الجديد