الولايات المتحدة وتركيا ما بعد الجائحة

إدوارد جي ستافورد

استجابات الدول المختلفة لوباء فيروس كورونا، ولا سيما تقييد الحريات المدنية من خلال فرض عمليات الحظر وما يصاحب ذلك من تداعيات اقتصادية، تستدعي افتراض تقديرات مختلفة لتأثيرها على العلاقات الدولية في عالم ما بعد الوباء.

كل هذا يحدث في حقبة جديدة من الانعزالية القومية التي تحاول إثبات وجودها. لذلك، يجب علينا إعادة تنشيط المؤسسات متعددة الأطراف للتحضير لمواجهة الوباء التالي والتصدي له، وكذلك لمكافحة تغير المناخ، وإقامة تنمية اقتصادية مستدامة، وإنهاء الاعتماد على الوقود الأحفوري. ولكن، دعونا ننظر إلى أبعد من هذه التوقعات المتطرفة ونركز على النتائج الأكثر احتمالاً بناءً على الاتجاهات التي يمكن أن نراها مسبقاً في الاستجابة للوباء.

في مقال قصير في “فورين أفيرز”، طرح ريتشارد هاس، رئيس مجلس الولايات المتحدة للعلاقات الخارجية، في الآونة الأخيرة حجة قوية لتسريع النزعة القومية، وإن لم يكن ذلك على غرار القرن الماضي، ولكن كاستمرار لأسرع الاتجاهات في الأعوام الثلاثين الماضية. وتمثل كل من تركيا والولايات المتحدة هذه الاتجاهات في العلاقات الخارجية التي تستجيب -وتصوغ- التطورات السياسية الداخلية. وإذا أثبت تحليل هاس صحته، فمن المرجح أن تزدهر الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الوباء، في حين ستكافح تركيا من أجل عدم الانزلاق أكثر من الناحية السياسية والاقتصادية.

شهدت الأعوام الثلاثون الماضية تأكيدًا متجددًا على الهوية الوطنية كرد فعل شعبوي على تصور الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن العولمة، وكأداة لكسب وإدامة السلطة السياسية التي يمارسها السياسيون. وقد استفاد الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، من القلق والغضب اللذين يشعر بهما العديد من مواطنيهما على اتباع أجندات قومية متشددة.

ليست سياسة ترامب التي تنادي بشعار “أميركا أولاً” دعوة للانعزال، وإنما دعوة للمسؤولين والشركات الأميركية لوضع مصالح الولايات المتحدة قبل كل الآخرين. وقد اتبع أردوغان نفس الأجندة، وإنما بالفعل أكثر من مجرد القول.

استخدم أردوغان الشركات التركية لدعم إجراءات الدولة لتوسيع القوة الناعمة التركية. وتمثلت سياسة “تركيا أولاً” في التوسع الهائل في شبكة الخطوط الجوية التركية الدولية، والمساعدة الإنسانية في الصومال وأماكن أخرى، ونشاط شركات البناء والهندسة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

وحتى العامين 2013-2014، استخدمت تركيا أيضًا شبكة مدارس حزب “غولن” التي أنشأها أتباع الداعية الإسلامي فتح الله غولن لتوسيع القوة الناعمة التركية، لكن هذا الترتيب انتهى قبل عدة أعوام.

ثم أتت جائحة كورونا.

على الفور، تبنت جميع دول العالم سياسة “بلدي أولاً”. فقامت بإغلاق حدودها، أولاً أمام القادمين من الصين، ثم أمام جميع غير المواطنين أو المقيمين الدائمين القانونيين، وأعادت المواطنين من الحجر الصحي في الخارج إلى الحجر الصحي في الداخل، وألغت عقود الإمدادات الطبية لإبقائها للاستخدام المحلي، وبدأت بالاعتماد على بياناتها وأبحاثها الخاصة بدلاً من اللجوء إلى منظمة الصحة العالمية أو غيرها من المنظمات متعددة الأطراف.

ولم يكن هذا كل شيء. كانت هناك علامات إيجابية على تبادل المعلومات وبعض المساعدة عبر الحدود بين الدول المتجاورة، ولكن بشكل عام، وضعت قيادة كل دولة صحة وسلامة مواطنيها قبل كل الآخرين.

ولم تكن لدى الدول خيارات. لم يكن الكثيرون يرحبون بعولمة ما بعد الحرب الباردة، لا سيما أولئك الذين لديهم عقلية أكثر محافظة. كان يمكن أن يكون الأمر انتحارياً لأي سياسي منتخب إذا نظر إليه الناس على أنه لا يضع حياة وصحة وسلامة المواطنين قبل كل الآخرين.

لكن الجانب المظلم من هذا التركيز على المواطنين هو استخدام الأزمة لتقويض الحريات المدنية أو تكثيف تقويضها بحجة مكافحة الفيروس وإنقاذ الأرواح. وكما قيل هنا من قبل، فإن النظام الفيدرالي للولايات المتحدة، وكذلك الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية للحكومة، يشكل أداة فعالة لجهود أي رئيس لاغتصاب الحريات المدنية الأساسية للمواطنين. ولكن في دولة وحدوية ذات سلطة تنفيذية قوية، تتراجع القدرة على منع كبت الحريات المدنية.

وفي الوقت نفسه، تروج القوى المعادية للديمقراطية لمزايا القيادة القوية والموحدة التي لا تعوقها الحريات المدنية لمكافحة الفيروس، على الرغم من أن مراجعة استجابات الدول للوباء تكشف أن الدول ذات الديمقراطية الراسخة فعلت الكثير لمكافحة الوباء ورعاية مواطنيها بشكل جيد من دون التقليل من حقوقهم وحرياتهم، مثال دول الشمال الأوروبي ونيوزيلندا.

وفي مرحلة ما بعد الوباء، ستستمر سياسة “وطني أولاً” إلى جانب الحكم الاستبدادي، وستزداد بسرعة أكبر في تلك الدول ذات الديمقراطيات الهشة أو غير الفعالة. وسنرى دليلاً على ذلك من خلال كيفية تخزين الدول للمعدات الطبية لاستخدامها في مكافحة الأوبئة في المستقبل، حيث سيتم اعتبارها مخزونات قومية.

يشكل الاتحاد الأوروبي مثالاً على ذلك. على عكس النظام الفيدرالي للولايات المتحدة من السيادة المشتركة بين مستوى الدولة والمستوى المحلي للحكومة، تظل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي دولًا ذات سيادة كاملة. وبموجب المعاهدة، تنازلت عن السيادة في بعض الأمور لمفوضية الاتحاد الأوروبي، لكن الوباء أعاد تنشيط تفضيل صالح الدولة على المجتمع الأوروبي. ونتيجة لذلك، ستقوم كل دولة أوروبية على حدة بالسيطرة على مخزونها من المعدات الطبية، ولن تتعاون بشأن ذلك مع منظمة متعددة الجنسيات مثل الاتحاد الأوروبي.

وهذا يضع تركيا في مأزق. سوف يزداد رفض الاتحاد الأوروبي هذا العام للتعاون مع الجهود التركية لنقل اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي عبر اليونان وبلغاريا حدة. وستتلاشى رغبة العواصم الأوروبية الضئيلة لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وبعيدًا عن الاتحاد الأوروبي؛ حيث تتحول الدول الأعضاء إلى الداخل، ومع وجود عدد قليل من الأصدقاء في الشرق الأوسط، ستعتمد تركيا بالضرورة على روسيا بشكل أكبر للحصول على الدعم، مما يزيد من تآكل العلاقات مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

في الوقت نفسه، ستزيد الدولة التركية سيطرتها على مواطنيها بحجة إنقاذ أرواحهم. وبالمثل، سوف تتعرض الاستقلالية المتبقية للقضاء والصحافة والمجتمع المدني للاختناق. ومن المفارقات أنه عندما بدأت الحجة القائلة انه من أجل استئصال متآمري الانقلاب، كان يجب تقليص الحريات المدنية، تفقد قوتها، لكن وباء كورونا جاء للسماح لأردوغان بمواصلة تقليص الحريات المدنية بحجة إنقاذ الأرواح.

ونتوقع مزيدا من التآكل في سلطة البرلمان، فضلاً عن تقليص الفرص الاقتصادية لمن ليس لديهم صلات سياسية جيدة.

في الأثناء، ستركز الولايات المتحدة اهتمامها على الاستعداد الكامل للوباء التالي وستولي اهتماما ضئيلاً لمصائب الآخرين، بغض النظر عن جهود رجال الأعمال والاقتصاديين ومستشاري الأمن القومي لتخفيف التفكير الانعزالي والترويج لفوائد التجارة العالمية المترابطة. ومن غير المرجح وجود جهود عبر الأطلسي من جانب الولايات المتحدة لتنسيق الاستعدادات للوباء التالي. ومن المرجح أيضاً أن يدير كل من بايدن وترامب حملات الانتخابات الأميركية بخطابات معادية للصين، في جهودهما لكسب السلطة أو الاحتفاظ بها.

خلاصة القول: إن الضرر الذي سيحدثه الانخفاض في حجم التجارة والاستثمار بعد الوباء، سيمكّن الولايات المتحدة، بصفتها مصدراً صافياً للطاقة، من التغلب على العواصف الاقتصادية المتوقعة بشكل أفضل من دولة ليس لديها مثل هذه الأصول القوية للطاقة.

أكاديمي عمل في أقسام تابعة للشؤون الخارجية الأميركية ومتخصص في بالشأن التركي

 

المصدر: (أحوال تركية) /الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى