عقب سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في 11 إبريل/نيسان 2019، دخل المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) في مفاوضات مع قوى “إعلان الحرية والتغيير”، لتشكيل السلطة المدنية في البلاد، وفقاً لمطالب الشارع الذي أسقط النظام. وأحدثت تلك المفاوضات اختراقات واسعة وتوصلت إلى تفاهمات كلية حول بناء هياكل السلطة الانتقالية. ولكن من دون أي مقدّمات نكص العسكر بهذه التفاهمات، وأوقفوا التفاوض، وتوّجوا نكوصهم بفضّ اعتصام محيط قيادة الجيش في 3 يونيو/حزيران، لتنفيذ رغبتهم في تشكيل حكومة من جانبهم لتدير الفترة الانتقالية.
الشعب السوداني بقواه الثورية لم يصمت، واستمر الحراك الثوري الذي أجبر العسكر بعد ذلك على الانصياع، فعادوا مجبرين للتفاوض، ووقّعوا على إعلان سياسي ووثيقة دستورية في أغسطس/آب 2019، وتشكّلت الحكومة المدنية بسلطاتها كاملة، عدا صلاحيات تشريفية في مجلس السيادة. لكن العسكر احتفظوا بكامل خططهم لإسقاط الحكومة الجديدة التي وضعوا كل المتاريس أمامها لإفشالها.
لم يلتزم العسكر بالوثيقة الدستورية، وتمددوا في السلطات؛ داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، وسط صمت الحكومة المدنية ورئيسها حينها عبد الله حمدوك. ولأن نهمهم للسلطة أكبر من ذلك، نفذوا انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ووجد الانقلاب عزلة داخلية وخارجية في يومه الأول، فاضطر إلى إعادة حمدوك إلى منصبه وفقاً لاتفاق وُقّع في 21 نوفمبر/تشرين الثاني. ولم يفعل العسكر الكثير لإنجاح الاتفاق والوفاء بتعهداتهم ضمنه، حتى استقال حمدوك في الثاني من يناير/كانون الثاني الماضي ليترك فراغاً دستورياً عجز العسكر عن ملئه بعناد ومكابرة.
أسبوع واحد، ويكمل انقلاب البرهان عامه الأول، والنتيجة الماثلة هي الفشل الذريع في المجالات كافة؛ السياسية والأمنية والاقتصادية والدبلوماسية، لذا يحاول العسكر الرجوع إلى تكتيكاتهم مرة أخرى والانحناء للعاصفة والضغوط المحلية والخارجية، وذلك بموافقتهم المبدئية على تسوية سياسية مع “قوى إعلان الحرية والتغيير” لتكون طوق نجاة لهم وإنقاذ من حالة الفشل الراهنة، قبل أن يجدوا فرصة جديدة للانقضاض على السلطة الجديدة. إذ أثبتت تجربة السنوات الثلاث أن قادة المؤسسة العسكرية لا أمان لهم، وتلك حقيقة أثبتتها الوقائع، فمن يتعظ؟
لا يوجد أي سوداني يرفض مبدأ الحلول السياسية لأزمة استفحلت وشلت الحياة عامة ودفع المواطن ثمنها دماً وجوعاً وأمناً، لكن أي تسوية لا تستوعب المعطيات القريبة تلك، ستعيد عقارب الساعة للوراء، وربما يكون الثمن هذه المرة أفدح.