الانهيار التاريخي للصحافة‏

باتريك لورانس*  ترجمة: علاء الدين أبو زينة

إذا كان موضوعي هو الهفوة التدريجية في الممارسات المهنية للصحفيين الأميركيين، وعدم الاكتراث التدريجي بـ”التواجد هناك” في موضع الحدث، فلا يمكننا التفكير في هذا وحده.

ينبغي فهم جُنَح هؤلاء على أنها أعراض لامبالاة أكبر ظهرت بيننا تجاه العالم الذي ترسخ منذ أن قام الألمان بتفكيك جدار برلين ودخلت الولايات المتحدة عقودها المريعة التي لا تنسى من اعتناق النزعة الانتصارية.

منذ ذلك الحين، وبشكل تدريجي، أصبح أقل أهمية باطراد ما يعتقده الآخرون أو يفعلونه أو ما قد تكون عليه تطلعاتهم. أصبحت الطريقة الوحيدة لرؤية الأشياء هي الطريقة الأميركية.‏

* *

لم ‏‏أتعافَ أبدًا من قصة نشرتها ‏‏صحيفة “نيويورك تايمز” ‏‏في قسم ‏‏”مجلة الأحد”‏‏ في أيار (مايو) 2016.

ولعلكم تتذكرون تلك المناسبة. كانت القصة ملفًا مطولاً عن بن رودس، كبير مستشاري إدارة أوباما لشؤون “الاتصالات الاستراتيجية”. كتبه مراسل صحفي يدعى ديفيد صامويلز.‏

وقد صنع هذان الاثنان، رودس وصامويلز، ثنائياً مذهلاً -متناسباً تماماً، كما يمكن القول.

كان رودس كاتب قصص طموحًا يعيش في بروكلين عندما وجد، بأقل الطرق احتمالاً، طريقه إلى الدائرة الداخلية للبيت الأبيض في عهد باراك أوباما.

وكان صامويلز، وهو صحفي مستقل يغطي عادة قصص مشاهير الثقافة الشعبية، قد استسلم في وقت أبكر بكثير، لسوء الحظ، لهذا الأسلوب الذكي الذي يتأثر عادة بتجربة أولئك الذين يكتبون عن نجوم الروك وغيرهم من الذين يتميزون بقدر كثير أو قليل من الطيش.‏

كانت مهمة رودس هي إدارة “نوع من إعادة هيكلة أكبر للرواية الأميركية”، على حد تعبير صامويلز. “رودس راوي قصص يستخدم أدوات الكاتب لتعزيز أجندة يتم حزمها وتغليفها على أنها سياسة”.

وحدهم هؤلاء هم الذين يقدرون “القيم الغربية”

وهو انتقاد مهني مقتبس مباشرة من إدوارد بيرنايز(1) بلغة إنجليزية بسيطة؛ راوي حكايات يتاجر بالحقائق القابلة للتلاعب والنهايات السعيدة. و”محزومة كسياسة”: لمسة لطيفة تعبر عن تسليع خطابنا العام.‏

كان رودس ونيد برايس، نائبه، من بهلوانيي وسائل التواصل الاجتماعي. وروى برايس، وهو محلل سابق في وكالة المخابرات المركزية، والآن المتحدث باسم وزارة الخارجية، من دون تحفظ كيف قاما، هو ورودس، بتغذية المراسلين الصحفيين في البيت الأبيض، وكتاب الأعمدة وغيرهم ممن يمتلكون الأدوات للتأثير على الرأي العام مثلما ‏‏يقوم مزارع الأوز بإطعام ‏‏إوزه.‏

ها هو برايس يتحدث عن هذا التمرين اليومي:‏

”هناك نوع من مضاعِفي القوة هؤلاء. لدينا ‏‏أصدقاؤنا الموثوقون‏‏. سأتواصل مع بعض الناس، وكما تعلمون، لا أريد أن أسميهم… وسأعطيهم بعض اللون، والشيء التالي الذي أعرفه هو أن الكثير من هؤلاء الناس يتواجدون في مساحة نشر ’الدوت كوم‘ ولديهم عدد كبير من المتابعين، وسوف يطرحون الرسالة بمفردهم”.‏

ويعطي رودس لصامويلز تحليلاً أكثر منهجية لهذا الترتيب:‏

”كانت لدى جميع الصحف مكاتب أجنبية. والآن لم تعد لديها. إنهم يتصلون بنا لنشرح لهم ما يحدث في موسكو أو القاهرة. معظم وسائل الإعلام تقدم تقاريرها عن الأحداث العالمية من واشنطن.

متوسط عمر المراسل الصحفي الذي نتحدث إليه هو 27 عامًا، وخبرته الوحيدة في العمل هي التواجد حول الحملات السياسية. وهذا تغيير كبير. إنهم لا يعرفون شيئًا -حرفيا”.‏

كتبت مطولاً عن مقال “‏‏التايمز” هذا ‏‏في “‏‏صالون”؛ حيث كنت كاتب عمود الشؤون الخارجية في ذلك الوقت. كان هناك الكثير لتفكيكه في تقرير صامويلز حتى أنني بالكاد كنتُ أعرف من أين أبدأ.

في برايس كان ثمة ‏‏فشل كامل في فهم دور وسائل الإعلام الرصينة التي تعمل بشكل مناسب وطبيعة الفضاء العام جملة وتفصيلاً.‏

لقد وصف رودس هيئة صحفية في البيت الأبيض تتألف من أشخاص في مرحة ما بعد المراهقة، معتمدين كليًا على ترتيب “تغذية الإوز”، خاصة عندما يكتبون تقاريرهم عن مسائل الأمن القومي: “لا يعرفون شيئًا -حرفيا”.‏

كان رودس وبرايس يصفان نوعاً من التحول النوعي في علاقات وسائل الإعلام مع السلطة.

ولا أقصد اقتراح أن هذه العلاقات كانت، في الذاكرة الحية، جيدة كثيرًا، لكنها أصبحت عند نقطة معينة في حالة إغماء، في حالة سقوط حر من السيئ إلى الأسوأ.

 “عندما تقرأ التقارير الصحفية الروتينية في ‏‏صحيفة ’نيويورك تايمز‘ ‏‏أو أي من الصحف اليومية الرئيسية الأخرى”، كتبتُ في تعليقي على ملف رودس الشخصي، “فإنك تنظر إلى ما ينشره كتبة ما نزال نسميهم صحفيين، على لوحات إعلانات حكومية ما نزال نسميها صحفًا”.‏

‏الصحفيون، إسرائيل، وجرائم الحرب‏

متى حدث هذا؟ لماذا حدث؟ وهل ثمة ما هو أسوأ قادم على الطريق؟ كيف وصلنا إلى هنا، بعبارة أخرى؛ وإلى أين نحن ذاهبون؟ كانت هذه أسئلتي.

وهي ما تزال أسئلتي اليوم. وبي حافز إلى لنظر فيها مرة أخرى في ضوء تغطية المراسلين الصحفيين الرئيسيين الحالية لأوكرانيا. من بين العديد من الأشياء التي قد نرغب في وصفهم بها، فإنهم إوز.

”نيويوركر”‏‏.. كان ياما كان‏

فكرتي الأولى هي أن ثمة شيئًا تغير في الطريقة التي كانت الصحافة الأميركية ترى بها العالم وتنقل ما رأى مراسلوها أنه قريب من الوطن. وفي حالة القضايا قليلة الأهمية -القضية الجانبية تصبح شيئًا كبيرًا للتفكير فيه لدى سردها.

كنت أعيش في اليابان في ذلك الوقت، من أواخر الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات. وإضافة إلى واجباتي الصحفية في ‏‏صحيفة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون”‏‏، كنت أكتب “رسالة من طوكيو” ‏‏لمجلة “نيويوركر”‏‏.‏

كان هناك تقليد طويل ومشرف من “رسائل من…” في ذلك الوقت: جانيت فلانر من باريس؛ جين كرامر من كل أنحاء أوروبا؛ مولي بانتر داونز من لندن.

وكان هناك بوب شابلن، الذي كرّس حياته المهنية لآسيا، وكان لفترة طويلة “مراسل الشرق ‏‏الأقصى” لمجلة “نيويوركر”‏‏ وكتب رسائله من كل عاصمة آسيوية -أكثر أو أقل.

كان شابلن، في وقت متأخر من حياته المهنية وحياته الشخصية، هو الذي سلم مهام وظيفته لي.‏

كان ما ميز التغطية الخارجية ‏‏للنيويوركر‏‏، بما في ذلك جميع الرسائل من…، هو الطريقة التي يتم إنتاجها بها. لم يكن الصحفيون الذين كتبوها “هناك” فقط: لقد كانوا هناك لفترة طويلة، عادة، وكانوا يعرفون مختلف مواضيعهم بدقة، بل وحتى عن كثب.

لم يكتبوا من الخارج وهم ينظرون إلى الداخل والأنوف مضغوطة على الزجاج، وإنما من داخل الأماكن وبين الناس الذين كانوا يغطونهم.

إنك تحصل على المعرفة الخاصة، الداخلية والمميزة، كما اعتادوا القول، عندما تقرأ قطعهم -الهمسات في القَصر والثرثرة في الشارع على حد سواء.

وكانت تلك الأشياء أعمق بكثير من أي شيء يمكن أن تقرأه في الصحف اليومية.‏

كانت‏‏ ‏‏نيويوركري هي نيويوركر بوب غوتليب‏‏، بعد أن خلف غوتليب ويليام شون الشهير في كرسي رئاسة التحرير.

وقد أراد بوب إعطاء المجلة دفعة تحديث مع الحفاظ على طابعها الخاص. ثم أطيح ببوب لصالح تينا براون، التي كانت مهووسة بالفلاشات السريعة و”الضجة”.

كل شيء كان يجب أن يُحدِث ضجة. وكان يمكن أن يصف ديفيد صامويلز تينا على هذا النحو: كانت من ذلك النوع. لقد دمرت المجلة. وقد رحلت منذ فترة طويلة الآن، لكن ‏‏النيويوركر ‏‏لم تتعاف أبدًا من تينا.‏

قبِل محررو تينا “الرسائل” التي كنتُ أرسلها من طوكيو بعد توليها مسؤولية التحرير، لكنهم لم ينشروا أيّاً منها على الإطلاق.

وفي تعاملي التالي والأخير مع ‏‏مجلة نيويوركر‏‏، بعد بضع سنوات، اقترحتُ إعداد ملف عن شينتارو إيشيهارا، حاكم ولاية طوكيو، وهو بحار بارع، وقومي مثل تنين ينفث النار، مليء بالعاطفة المعادية للولايات المتحدة.

وقد أحببت إيشيهارا على وجه التحديد بسبب شجاعته في التعبير عن هذه العاطفة، على الرغم من أنك عندما تقابله، فإنه لن يضربك بعقب مسدس.‏

لم تهتم ‏‏النيويوركر ‏‏بالقطعة المقترحة. وبعد بضعة أشهر لاحقاً، نشرت ملفاً عن شينتارو إيشيهارا كتبها مراسل صحفي أُرسل من نيويورك، والذي كان من الواضح من تقريره أنه لا ينطوي على أكثر من معرفة سطحية بموضوعه أو بأي شيء آخر له علاقة باليابان.‏

وسرعان ما أصبح ما انطوت عليه تجربتي واضحًا في التغطية الخارجية ‏‏لمجلة “نيويوركر”‏‏ جملة وتفصيلاً. لم تعد المجلة تبحث عن المراسلين المكرّسين المتجذرين جيدًا ومنذ وقت طويل في الخارج، وإنما عن أشخاص يتم إرسالهم لإعداد قصة وإعادتهم على الفور.

وأنا أصف هنا منعطفًا خفيًا، وإنما الذي كانت له آثار عميقة. لقد قررت مجلة كانت معروفة بتغطيتها للأماكن الأجنبية “من الداخل إلى الخارج” -عبارتي لوصف ذلك- أنها تريد الآن ريبورتاجًا يضع الحساسيات الأميركية أولاً.

وستكون التغطية “من الخارج إلى الداخل” في هذه الحالة أكثر من كافية. وأنا أقراً هذا الآن كمؤشر مبكر على تحول في طريقة أميركا في رؤية الآخرين -أو عدم رؤيتهم من الأساس.

العالم كما يُرى من واشنطن‏

في العام 1995، وبينما كانت ملفاتي النهائية ‏‏التي أعددتها للنيويوركر تظل بلا نشر، تولى توماس فريدمان تحرير “الشؤون الخارجية”، وهو عمود له تاريخ طويل، لن أقول مقدسًا، في ‏‏صحيفة “نيويورك تايمز”‏‏.

وكان وصول فريدمان، بتبجحه، ونثره المنتفخ، وشوفينيته الليبرالية، علامة أخرى على العصر.

وقد أوضحت كتابة “توم الكبير” في تلك المساحة مرتين في الأسبوع أن ممارسات المراسلين الصحفيين والمعلقين كانت تتغير -وهو ما أشّر، كما أستطيع أن أرى الآن ما لم أستطع رؤيته آنذاك، على حدوث تغيير في الوعي الأميركي.‏

لم يعجبني كثيرًا عمود “الشؤون الخارجية”. لطالما بدت لي علاقته بالسلطة مشكوكًا فيها أخلاقيًا. وكان قد بدأ في أواخر الثلاثينيات باسم “في أوروبا”، وكان دائماً منذ ذلك الوقت من بين الوظائف الأكثر حساسية في الصحيفة.

وقد التقط سي. إل. سالزبيرغر، سليل المالكين وعميل وكالة المخابرات المركزية خلال “الحرب الباردة”، في العمود ذلك اليقين الأرستقراطي الذي امتلكته الولايات المتحدة خلال العقود القليلة الأولى بعد الحرب.

عندما تولت كتابة العمود في الثمانينيات، وصفت فلورا لويس قارة قلقة محصورة داخل حدود الناتو والحضن الأميركي.

وهنا وهناك في الأرشيفات، يمكنك العثور على أعمدة تلامس حدود الامتياز. لكنك لن تجد أبدًا واحدًا تظهر فيه تلك الحدود.‏

والآن، لدى إعادة قراءة مثل هؤلاء الناس، ما تزال تدهشني بعض الأشياء، مع ذلك. كان لديهم تقدير للتعقيد والتنوع -ليس في الظلام الدامس هناك في ما وراء التحالف الغربي فحسب، وإنما في داخله أيضًا.

ومهما كان العمل سيئاً -كانت أعمدة سالزبيرغر تكدس الكليشيهات مثلما يتجمع المحار على قوس المراكب الشراعية- فقد كان محتواه يُستمد من العيش والعمل في الخارج لسنوات عديدة.

وتُظهر تلك المواد نوع الثقة التي شعر بها الأميركيون وسط “القرن الأميركي”. لكنها نادرًا ما كانت -إذا فعلت من الأساس- بلهجة انتصارية أو معتقدة بالصلاح الذاتي. لم يكن لديها شيء لتثبته.

كان أول شيء فعله فريدمان عندما ورث مساحة عمود “الشؤون الخارجية” في صفحة الرأي هو نقل العمود إلى واشنطن -لا مزيد من العيش بين الآخرين.

وكان الشيء الثاني الذي فعله هو التوقف عن الاستماع إلى الآخرين -سوى عدد قليل من الأصدقاء والمعارف. وفي ‏‏كتابه “الليكزاس وشجرة الزيتون‏‏”، ترنيمته المقيتة للعولمة النيوليبرالية بقيادة الولايات المتحدة، وصف نفسه بأنه “سائح ذو موقف”. وهو شيء كان توم قادراً عليه.

وكما أوضح في ذلك الكتاب الصادر في العام 1999، كانت مصادره المفضلة هي متداولو السندات ومديرو صناديق التحوط.‏

 “في القرية العالمية اليوم، يعرف الناس أن هناك طريقة أخرى للعيش، إنهم يعرفون عن نمط الحياة الأميركية، والكثير منهم يريدون أكبر شريحة يمكنهم الحصول عليها منها -مع كل الإضافات. البعض يذهبون إلى عالم ديزني للحصول عليها، والبعض الآخر يذهب إلى “كنتاكي فرايد تشكن” في شمال ماليزيا”.

كان هذا “توم الكبير” في رئاسة تحرير “الشؤون الخارجية”. وهذا هو انحطاط التعليق الأميركي على العالم خارج شواطئنا -في “الوقت الحقيقي”، دعنا نقُل. ‏

ينبغي أن أضيف أن عمود “الشؤون الخارجية” ذهب الآن جملة وتفصيلاً. لقد قتلته صحيفة ‏‏التايمز ‏‏منذ سنوات. لماذا يريد أي شخص قراءة عمود يحمل اسما كهذا، بعد كل شيء؟‏

إذا كان موضوعي هو الهفوة التدريجية في الممارسات المهنية للصحفيين الأميركيين، وعدم الاكتراث التدريجي بـ”التواجد هناك”، فلا يمكننا التفكير في هذا وحده.

ينبغي فهم جُنَح هؤلاء على أنها أعراض لامبالاة أكبر ظهرت بيننا تجاه العالم الذي ترسخ منذ أن قام الألمان بتفكيك جدار برلين ودخلت الولايات المتحدة عقودها المريعة التي لا تنسى من اعتناق النزعة الانتصارية.

منذ ذلك الحين، وبشكل تدريجي، أصبح أقل أهمية باطراد ما يعتقده الآخرون أو يفعلونه أو ما قد تكون عليه تطلعاتهم. إن الطريقة الوحيدة لرؤية الأشياء هي الطريقة الأميركية.‏

كانت الحالات التي وصفتُها علامات مبكرة على هذا التحول نحو الأسوأ. لكنها إذا كانت أعراضًا، فإنها أسباب أيضًا.

إنها يمكن أن تكون الأمرين على حد سواء، بعد كل شيء.

هذه قوة وسائل الإعلام عندما تُجنَّد لغرض ضار. لقد أصبح الكثيرين منا تدريجيًا غير مبالين تجاه الآخرين منذ التسعينيات، فيما يرجع إلى حد كبير إلى أن وسائل إعلامنا المطبوعة والمسموعة أظهرت لنا كيف نكون كذلك.

ضربة 9/11 للصحافة‏

غيرت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الأمور مرة أخرى -في ممارسات إعلامنا وفي “‏‏روح العصر” على حد سواء.

بعد خمسة عشر عامًا من تلك المآسي، كان بن رودس ونيد برايس يُطعمان أوزهما.

وبعد ست سنوات من ذلك، نحصل الآن على أسوأ تغطية صحفية يمكنني تذكرها للأحداث الخارجية من المراسلين الميدانيين في أوكرانيا.‏

بعد أيام قليلة من الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، رتب السكرتير الصحفي لجورج دبليو بوش مؤتمرًا عبر الهاتف مع كبار المحررين الأميركيين في واشنطن.

وكانت نية آري فلايشر هي تأمين تعاون الصحف والمذيعين بينما تعرّف الإدارة وتبني قضيتها الجديدة لـ”الحرب على الإرهاب”.

وطلَب من أولئك الذين على الخط حجب التغطية التي تكشف عن الكيفيات التي ستشن بها أميركا هذه الحرب.

وكان فلايشر حريصًا بشكل خاص على إبعاد عمليات وكالة المخابرات المركزية وبقية أجهزة الأمن القومي عن عيون الرأي العام. والتزم كل الحاضرين في ذلك اليوم لإدارة بوش بمراعاة هذه الأمور عن طيب خاطر.‏

وبعد بضع سنوات، قدمت لنا جيل أبرامسون، التي كانت مديرة مكتب ‏‏صحيفة “نيويورك تايمز”‏‏ في واشنطن في وقت مكالمة فلايشر، ما يبدو أنه الرواية الوحيدة المتاحة لذلك الحوار.

 “كان الغرض من المكالمة هو التوصل إلى اتفاق مع الصحافة -كان ذلك بعد أيام فقط من 9/11- على ألا ننشر أي قصص يكون من شأنها أن تدخل في أي تفاصيل حول مصادر وأساليب برامجنا الاستخباراتية”، كما أوضحت أبرامسون في محاضرة مطولة لها في العام 2014 في “معهد تشوتاوكوا” Chautauqua Institution، في دعوة للمحسنين حسني النية في غرب نيويورك.

 “لم يكن من الصعب حجب مثل هذه المعلومات. ولسنوات عدة، لبضع سنوات في الحقيقة، لا أعتقد أن الصحافة الأميركية، بشكل عام، نشرت أي قصص أزعجت البيت الأبيض في عهد بوش أو بدا أنها تنتهك هذا الاتفاق”.‏

أتعجب عندما أفكر في ما نعرفه الآن عن “مثل هذه المعلومات”.

لقد شملت عمليات الاختطاف غير القانونية التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية، والتي وصفتها الحكومة لاحقا بأنها “عمليات تسليم استثنائية” من أجل إخفاء حقيقة ما فعلته، إلى جانب استخدامها “المواقع السوداء”، حيث كان المحتجزون غير المتهمين عرضة لممارسات الإيهام بالغرق وغيره من أشكال التعذيب السادي.

وتبين لاحقًا أن “مثل هذه المعلومات” شملت أيضا المراقبة العشوائية التي تقوم بها وكالة الأمن القومي للأميركيين وأيًا كان من تختار مراقبتهم من غير الأميركيين.‏

أتعجب، لأنه لو كان المحررون الأكثر نفوذًا في الصحافة مصممين على إخبار آري فلايشر بأن يريهم ظهره، تمامًا كما كان ينبغي أن يقولوا وبمثل هذه العبارات، فإن هذه الأشياء ربما لم تكن لتحدث، وربما كانت الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام الأميركية لتخرج من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) كمؤسسات أكثر كرامةً ونزاهةً.‏

أشر 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على نهاية مفاجئة لـ”القرن الأميركي” -وما لا ينبغي تفويته؛ الوعي الذي ولَّده الحدث بين الأميركيين… كان هناك انهيار أكثر أهمية بكثير من انهيار الأبراج، وهو أمر محزن بقدر ما كان مصرع الثلاثة آلاف ضحية. لقد اتخذ جماعة النخب السياسية الأميركية موقفًا دفاعيًا في ذلك اليوم. استداروا بعيداً عن العالم وضده في الوقت نفسه. كانت إدارة بوش معادية للأجانب علنًا بكل حديثها عن “الفاشية الإسلامية” وغيرها من المفاهيم السخيفة. وتحول فهم معظم الأميركيين بالطريقة نفسها. عندما رفض جاك شيراك تجنيد فرنسا في “تحالف الراغبين” الذي تزعمه بوش ضد العراق، أصبح الفرنسيون “قردة مستسلمة تأكل الجبن”.

* *

عندما يرى السكرتير الصحفي للبيت الأبيض أنه من المناسب عقد اجتماع بالهاتف مع الصحفيين والمؤثرين ومطالبة الحاضرين بالمشاركة في الرقابة على منشوراتهم الخاصة، فمن الواضح أن علاقة وسائل الإعلام بالسلطة- في هذه الحالة السلطة السياسية والإدارية- قد أصبحت تحت الخطر فعليًا. وقد قبل المحررون الذين ناشدهم آري فلايشر بعد فترة وجيزة مصطلح “الحرب على الإرهاب” من دون تردد أو اعتراض مسجل. وكان هذا خرقًا آخر لأخلاقيات المهنة، والذي ترتبت عليه عواقب بعيدة المدى بالنظر إلى أن حالة الحرب تغير حتمًا علاقات وسائل الإعلام مع السلطة.‏

حسب رؤيتي، كانت هذه التفاعلات المتناغمة لحظة حاسمة في تراجع وسائل الإعلام الأميركية وطبيعة تغطيتها للشؤون الخارجية خلال سنوات ما بعد العام 2001. ولفهم هذا التطور، من الضروري إلقاء نظرة موجزة على ما حدث لأميركا والأميركيين بالضبط في ذلك الصباح من أواخر الصيف في مانهاتن السفلى وفي واشنطن.‏

‏لقد أشر 11 أيلول (سبتمبر) على النهاية المفاجئة لـ”القرن الأميركي” -وما لا ينبغي تفويته أيضًا: الوعي الذي ولَّده بين الأميركيين. وكنتُ قد أوضحت هذه النقطة في هذا المكان وفي أماكن أخرى في مناسبات سابقة. باختصار، كان هناك انهيار أكثر أهمية بكثير من انهيار البرجين، محزن بدوره بقدر ما كان مصير الثلاثة آلاف ضحية.

‏لقد اتخذ أعضاء النخب السياسية الأميركية موقفًا دفاعيًا في ذلك اليوم، واستداروا بعيداً عن العالم وضده في الوقت نفسه. كانت إدارة بوش معادية للأجانب علنًا بكل حديثها عن “الفاشية الإسلامية” وغيرها من المفاهيم السخيفة. وتحول معظم الأميركيين بالطريقة نفسها. عندما رفض جاك شيراك تجنيد فرنسا في “تحالف الراغبين” الذي تزعمه بوش ضد العراق، أصبح الفرنسيون “قردة مستسلمة تأكل الجبن”، وهي العبارة التي لطالما لفتت نظري بسبب شوفينيتها الأميركية القوية. هل تذكرون “بطاطا الحرية”؟‏(2)

‏من العالم إلى ضده‏

‏هذا العداء تجاه الآخرين ظل كامنًا في العقل الأميركي منذ القرن السابع عشر، وكسر السطح وظهر فوقه في كثير من الأحيان. كان الأيرلنديون في القرن التاسع عشر جاهلين، والإيطاليون متزلفين، والصينيون صُفراً وخطرين. وأغرق 11 أيلول (سبتمبر) أميركا في هذا المجرور مرة أخرى. لفترة من الوقت كان لا بأس تمامًا في الإشارة إلى المسلمين على أنهم “رؤوس الخِرَق”.‏(3)

كان هذا التحول، بعيدًا عن العالم وضده في الوقت نفسه، مؤسفًا بما فيه الكفاية كمسألة موقف وطني. لكنه كان مصيريًا بشكل خاص في قيادته لتغير طبيعة تغطية الأحداث الخارجية في صحفنا اليومية الرئيسية ومحطات البث مباشرة باتجاه السقوط والفشل. وكما هو واقع الحال لدينا، أصبحت هذه التغطية هي الأسوأ التي شهدتها في حياتي الطويلة نسبيًا. ولكن ثمة ملاحظة تحذيرية حول هذه المسألة: كنتُ قد وصفت تغطية وسائل الإعلام الأميركية للشؤون الخارجية بأنها الأسوأ التي شهدتها في حياتي في مناسبات عديدة في الماضي، فقط لأرى تدهورها يتعمق بلا هوادة، وأحيانا يومًا بيوم.‏

‏‏لماذا حدث هذا؟ ولماذا استقر في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كنقطة انطلاق؟‏

‏استمرت جيل أبرامسون في العمل كمحررة تنفيذية لصحيفة ‏‏”نيويورك تايمز”‏‏. وعلى الرغم من أن تلك الفترة الانتقالية انتهت عندما فُصلت من منصبها بعد عامين ونصف، فلقد كانت صحفية ذات مكانة عالية على الأقل، إن لم تكن من العيار الثقيل. وإليكم ما قالته عندما شرحت لجمهورها في معهد تشاوتاوكوا الأسباب التي جعلت الصحافة الأميركية ترضخ بجنون لمطالب آري فلايشر المرفوضة والبغيضة. “إن الصحفيين هم أناس أميركيون أيضًا. أنا أعتبر نفسي -وأنا متأكدة من أن الكثيرين منكم يفعلون- وطنية”.‏

‏تملؤني هاتان الجملتان بالدهشة كلما فكرت فيهما. إنهما، من ناحية، تكرار حرفي تقريبًا لما قاله عشرات الناشرين، والمحررين، وكتاب الأعمدة، والمراسلين والصحفين بعد أن كشف كارل بيرنشتاين، في عدد 20 تشرين الأول (أكتوبر) 1977 من مجلة “‏‏رولينغ ستون”‏‏، عن أكثر من 400 منهم كمتعاونين مع وكالة المخابرات المركزية. وقد رد جو ألسوب، كاتب العمود في ‏‏صحيفة “نيويورك هيرالد تريبيون” ‏‏ولاحقًا ‏‏في صحيفة “الواشنطن بوست” ‏‏والـ”محارب البارد” (4) ‏‏بامتياز‏‏: “لقد فعلت أشياء من أجلهم (المخابرات) عندما اعتقدت أنها الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله. وأنا أسمي ذلك القيام بواجبي كمواطن”.‏

هل يتغير شيء على الإطلاق؟ هل يعلم الناس من أمثال أبرامسون أي شيء؟‏

‏من ناحية أخرى، من زمن ألسوب إلى زمن أبرامسون وزمننا نحن، لا يبدو أنه خطر لهؤلاء الناس أن كون المحرر أو المراسل أميركيًا جيدًا يتطلب فقط أن يكون محررًا أو مراسلاً جيدًا. بدلاً من ذلك، يفكرون في أن من الضروري بطريقة ما في أوقات الأزمات أن تخون وسائل الإعلام مبادئها الأساسية -كما لو كانت هذه المبادئ تنتمي إلى القاع الذي يمكن الاستغناء عنه.‏

ثمة نقطة أخيرة هنا: كان الخطأ الأعظم الذي ارتكبته وسائل الإعلام الأميركية خلال حقبة الحرب الباردة، سلف كل الحروب الأخرى، هو تجنيد نفسها طواعية في خدمة قضية دولة الأمن القومي الجديدة. هذا ما كان يتحدث عنه ألسوب. وقد أنجز ذلك في العام 1948 أو 1949 على أبعد تقدير: بعبارة أخرى، جندت الصحافة والمذيعون أنفسهم في الحملة الصليبية التي أعلنتها إدارة ترومان في تلك الآونة، على الفور، بطريقة أو بأخرى.‏

‏هذا أيضًا ما كانت جيل أبرامسون تتحدث عنه في معهد تشاوتاوكوا بعد 65 عامًا. وهذا ما فعلته وسائل الإعلام الأميركية مباشرة بعد 11 أيلول (سبتمبر): لقد جندت نفسها مرة أخرى في القضية الجديدة لدولة الأمن القومي.‏

بحلول زمن أبرامسون، كانت أميركا قد رسخت إمبراطورية عالمية كانت ناشئة فقط عندما كان جو ألسوب وشقيقه ستيوارت يكتبان. والتمييز مهم. قبل وقت طويل من أي من هذا، نشر رودولف روكر، وهو واحد من هؤلاء الأناركيين الزرق الحقيقيين الذين أنتجتهم أواخر القرن التاسع عشر، كتابه “‏القومية والثقافة” Nationalism and Culture. ويذكرنا هذا الكتاب -الذي يصعب العثور عليه الآن، وباهظ الثمن إذا عثرتَ عليه- بأنه بينما تجمع الإمبراطورية قوتها وتحرسها، يُطلب من جميع مؤسسات الثقافة العمل في خدمتها بطريقة أو بأخرى. ولا يستطيع كل من لا يمتثل أن يبقى على قيد الحياة. وقد استخدم روكر مصطلح “الثقافة” بمعنى واسع جدًا. وفي فهمه للمصطلح، تُعد وسائل الإعلام في أي دولة مؤسسات ثقافية، وتنطبق الحقيقة المرة التي عبر عنها بوضوح على ما يجري حاليًا.‏

‏بعد 11 أيلول (سبتمبر)، ببراعة في البداية ثم ليس كذلك، أصرت إدارة أميركية تلو الأخرى على أن هناك طريقة واحدة فقط لفهم العالم -الطريقة الأميركية- وأنها ليست هناك حاجة إلى فهم أو استشارة طريقة أي أحد آخر. وكنت لأود أن أدعو القراء إلى إكمال هذه الفقرة، لكن هذا سيبدو غير مهذب. وإذن: هذه الطريقة في التفكير، أو ربما رفض التفكير، من الآن فصاعدًا، هي في الأساس طريقة دفاعية؛ إنها ملاذ للقلقين الذين يعوزهم اليقين. وإذا لم تكن قد تسببت في الدوامة الهابطة لجودة التغطية الخارجية لوسائل الإعلام الرئيسية بعد العام 2001، فقد كانت قريبة جداً من أن تكون كذلك.‏

علق جون بيلغر، الصحفي والمخرج السينمائي الأسترالي البريطاني، بعد أن رعت الولايات المتحدة انقلاب العام 2014 في كييف: “إن قمع الحقيقة حول أوكرانيا هو واحدة من أكثر حالات التعتيم الإخبارية اكتمالاً التي يمكنني تذكرها”، على الرغم من أنني أتخيل أن جون يمكن أن يفكر في المزيد التعتيم “الأكثر اكتمالا” الآن، بعد ثماني سنوات.‏

حصل أولئك القراء والمشاهدون الذين حصروا مصادر معلوماتهم في إعلام التيار الرئيسي على نسخة من “قبعات سوداء وقبعات بيضاء”، أو “أشرار مقابل أخيار” المستحيلة من سرد الأحداث في أوكرانيا بعد انقلاب شباط (فبراير) 2104 -الذي لم يكن انقلابًا، حسب الإعلام، وإنما “ثورة ديمقراطية”. وكان هذا تمامًا كما أرادته زمر السياسة في واشنطن أن يكون.

أما دور الولايات المتحدة في الانقلاب، ووجود النازيين الجدد بين الانقلابيين، والطابع المعادي للديمقراطية الذي تنطوي عليه الإطاحة بالرئيس المنتخب حسب الأصول، والقصف اللاحق الذي مارسه النظام الجديد ضد المدنيين في المقاطعات الشرقية -في حملة استمرت ثماني سنوات- والتمييز الشامل والمنهجي منذ ذلك الحين ضد الناطقين باللغة الروسية ووسائل الإعلام الناقدة، والاغتيالات في حق الشخصيات السياسية المعارضة، واستخدام واشنطن لأوكرانيا في حملتها طويلة الأمد لتخريب روسيا -فقد تم استبعاد كل هذا.‏

بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الأزمة في أوكرانيا، كانت الحرب في سورية مستمرة منذ أكثر من عامين. وأنا لا أسمي هذه الحرب “أهلية” لأنها لم تكن كذلك. لقد حولت الولايات المتحدة ما بدأ كمظاهرات مشروعة ضد حكومة دمشق في أواخر العام 2011 إلى نزاع مسلح بحلول أوائل العام 2012 على أبعد تقدير. كان حينئذٍ تقريباً حين كتب جيك سوليفان، مستشار هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الحين، في مذكرة: أخبار جيدة، لدينا تنظيم القاعدة إلى جانبنا في سورية.

‏تخيُّل الوجود هناك‏

‏ماذا عن عملية الانقلاب التي بالكاد كانت خافية، وعن تسليح المتعصبين الجهاديين ضد حكومة الأسد العلمانية، وعن عمليات القتل الوحشية والاختطاف والتعذيب التي مولتها وكالة المخابرات المركزية فعلياً؟ لا شيء. عن الطبيعة الحقيقية لهذه الحرب لم نقرأ شيئًا ما لم نلجأ إلى عدد قليل من الصحفيين المستقلين المبدئيين بما فيه يكفي لتغطية الأحداث من داخل الأراضي السورية. تخيَّل ذلك؛ وجودك هناك!‏

بالنسبة لي، بدت تغطية الإعلام المطبوع والشبكات الإعلامية الغربية للأزمة السورية -ما زلت أستمر في العودة إلى ذلك- من بين أسوأ حالات التقصير التي شهدتها في حياتي. بقي المراسلون الصحفيون الغربيون في بيروت أو إسطنبول وحصلوا على معلوماتهم من خلال مصادر على الأرض في سورية عبر الهاتف أو “سكايب” أو وسائل التواصل الاجتماعي.

ومَن هذه المصادر؟ شخصيات من المعارضة، أو عاملون سوريون في المنظمات غير الحكومية الغربية، الذين هم إلى حد كبير مصادر مناهضة للأسد. ولكن، إضافة إلى ذلك، عُرضت هذه الأشياء في التقارير الإخبارية على أنها موضوعية. وقد وصف باتريك كوكبرن كل هذا قبل سنوات في مقال رائع للغاية في “ذا لندن ريفيو أوف بوكس”، حيث كانت الصحيفة في ذلك الوقت تنشر مثل هذه الأشياء.

وإلى أين نظر هؤلاء المراسلون عندما احتاجوا إلى اقتباس تحليلي بائس لما يجري؟ إلى الباحثين الأميركيين، وسكان مراكز الأبحاث، والمسؤولين الحكوميين في واشنطن. وينبغي أن أضيف أن هذه الممارسة لا تقتصر من الناحية الحكيمة على تغطية سورية. مع وجود اسم كبيروت أو بكين في سطر مكان إنشاء التقرير الصحفي، لا يفكر المراسلون الأميركيون الآن في أخذ تصريح من الأميركيين ثم إعادة عرض ما يفكر فيه الأميركيون في هذه أو تلك من مسائل الشؤون الخارجية في أميركا.‏

كانت هذه الممارسات التي لا تغتفر شاملة بشأن تغطية سورية شاملة لكل الطيف. وسأسمي اسمين لأنني أعتقد أن ذكر الأسماء في هذه الأنواع من الحالات أمر مهم. كان بِن هوبارد وآن بارنارد، وكلاهما من ‏‏صحيفة “نيويورك تايمز”‏‏، من بين أسوأ المسيئين. وقد قادا القطيع وهم يشيران باستمرار إلى الجهاديين القتلة باسم “الثوار المعتدلون”، العبارة التي أصبحت سيئة السمعة الآن. ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى أن هؤلاء الثوار المعتدلين كانوا سيقطعون رأسيهما لو أنهما كتبا من سورية التي نادرًا ما وطأت أقدامهما هما ‏‏وأمثالهما ‏‏ترابها، إذا كانا ليفعلا هذا من الأساس لتغطية الحرب التي زعما أنهما يغطيانها.‏

بحلول ذلك الوقت، كان الأمر قد أصبح واضحًا تمامًا: ما بدأ بمكالمة آري فليشر الجماعية مع الصحفيين تحول الآن إلى عملية راسخة. لا يمكن لأي مراسل أجنبي لا تتطابق رواياته للأحداث بدقة تامة مع عقيدة واشنطن المتشددة أن يقدم تقاريره لوسائل الإعلام الرئيسية. الآن، ما حدث في الواقع لم يعد مهمًا. لم تعد المصادر المتوازنة مهمة. لم تعد الدقة مهمة. لم تعد شهادة شاهد العيان المباشرة على الأحداث مهمة. الامتثال هو المهم. أما أولئك الذين يقومون بعمل مبدئي في الصحافة المستقلة، ويكتبون من موقع شاهد العيان، فإنه يتم الآن كما في ذلك الوقت تشويه سمعتهم بشكل روتيني.‏

بين ظفرين، أرى أنني أكدتُ مرة أخرى أهمية الإعلام المستقل في عصرنا. ولا يمكن تأكيد ذلك في كثير من الأحيان. لكنني أعتقد أن لوسائل الإعلام الأميركية مستقبلا مشرقا، مهما بدت آفاقها الحالية بائسة. ولن يتم تحقيق ذلك بسهولة أو بسرعة، لكن هذا المستقبل يكمن في المنشورات المستقلة مثل هذه المطبوعة.‏

كم كان بعد المسافة بين المكاتب في بيروت ومكتب بن رودس في البيت الأبيض في عهد أوباما؟ على بُعد قفزة، كما يمكن القول. وبوجود رودس باعتباره “استراتيجي الإعلام” في عهد أوباما، ونيد برايس كنائبه الرئيسي، كان بإمكان المراسلين الذين يغطون سورية إنجاز العمل نفسه بالضبط لو أنهم من بين “الأصدقاء” الذين تحدث عنهم برايس في العام 2016 -صحفيي واشنطن الذين كتبوا عن الأحداث الأجنبية بعد أن أطعمهم مثل الإوز. وينطبق الشيء نفسه على المراسلين الذين يغطون الآن الأزمة الأوكرانية.‏

مع اختلاف واحد: يبقى الحفاظ على مظهر المرء كمراسل أجنبي -المظهر البطولي. ويبدو أن إعادة إنتاج هذا المظهر هو الفكرة الآن. وبخلاف ذلك، باستثناءات قليلة، عاد المراسلون جميعًا إلى البيت الآن -ومع كسل المنزل ولامبالاته، يحصل المرء على انطباع خال من الإلهام والحياة، مستسلم للروتين الجديد.‏

هوامش:

 (1) إدورد بيرنيز: Edward Bernay‏ (1891-1995)، نمساوي أميركي يعد مؤسس ما تسمى “العلاقات العامة والدعاية”. وهو ابن أخت سيغموند فرويد.

عمل على تطبيق الاكتشافات التي توصل إليها علم النفس وعلم الاجتماع في ميدان الحقل العام.

وكان من زبائنه: الرئيس الأميركي كالفين كوليدج؛ شركة بروكتر وغامبل؛ محطة سي بي إس؛ شركة جنرال إلكتريك؛ شركة التبغ الأميركية البريطانية؛ شركة دودج.

له كتابات عديدة يشرح فيها كيفية السيطرة على عقول العامة وتوجيههم. وقد نالت هذه الأفكار والكتابات إعجاب غوبلز، رئيس الدعاية في ألمانيا النازية.

 (2) بطاطا الحرية Freedom fries: هي تغيير تسمية البطاطا المقلية في الولايات المتحدة من “فرنش فرايز”، البطاطا المقلية الفرنسية إلى “فريدوم فرايز”، بطاطا الحرية، بدوافع سياسية. نشأ المصطلح في شباط (فبراير) 2003 في مطعم في ولاية كارولينا الشمالية، وانتشر على نطاق واسع بعد شهر عندما أعاد الرئيس الجمهوري للجنة إدارة مجلس النواب آنذاك، بوب ناي، تسمية هذا العنصر في قوائم طعام ثلاث كافتيريات في الكونغرس. وجاءت إعادة التسمية السياسية هذه في سياق معارضة فرنسا للغزو المقترح للعراق. وعلى الرغم من أن بعض المطاعم في جميع أنحاء البلاد تبنت هذه التسمية الجديدة، إلا أن المصطلح لم يعد شائعاً الآن، فيما يرجع جزئيا إلى انخفاض الدعم لحرب العراق. وبعد استقالة ناي من منصب الرئيس في العام 2006، تم التراجع عن تغيير الاسم في كافتيريات الكونغرس.

(3) “رأس الخرقة”: وصف عنصري يُقصد منه أن يكون مهينًا وازدرائياً، أُطلق على أي شخص عرقي يملي عليه دينه أو ثقافته ارتداء غطاء للرأس. وشمل هذا الوصف المسلمين، والعرب، والسيخ، وأي عضو في جماعة ترتدي تقليدياً غطاء رأس مثل العمامة، أو الكوفية أو الحجاب.

(4) ‏المحارب البارد cold warrior: أي شخص دعم أو شارك في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

*باتريك لورانس Patrick Lawrence: مراسل أجنبي لسنوات عديدة، خاصة لصحيفة “‏‏إنترناشيونال هيرالد تريبيون”‏‏، وهو كاتب عمود وكاتب مقالات ومؤلف ومحاضر.

كتابه الأخير هو‏‏ “لم يعد ثمة وقت: الأميركيون بعد القرن الأميركي‏‏”.‏‏

المصدر: الغد الأردنية/(كونسورتيوم نيوز)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى