قراءة في مسكوكات: ساعة الذئب.

أحمد العربي

 صدر عن دار موزاييك للدراسات والنشر مسكوكات ساعة الذئب لعيسى الصيادي وهو كاتب سوري متميز جداً، منتمي للثورة السورية، ساعة الذئب “المسكوكات” أول عمل أدبي اقرؤه له.

ساعة الذئب العنوان الأساسي للعمل، ملحق به تعبير مسكوكات، حيث يضعنا الكاتب مباشرة امام حالة مختلفة من الكتابة، ترقب وحذر وتطلع واستفسار، المسكوكات تطلق على عالم المعادن؛ بالتحديد على المعادن التي تتحول الى نقود وقد وضع عليها رمز ما للسلطة المانحة للمال في أي زمان، مسكوكات عيسى الصيادي من لغة ونصوص مسطورة على صفحات كتاب.

هل يستدعي الكتاب الذي بين يدي هذا التمييز في الكتابة، بين أن نقول سيرة ذاتية روائية أو مسكوكات ؟. برأيي نعم يستدعي: فنحن امام نص كتب بطريقة جديدة مختلفة ومتميزة، مع الإقرار أن كل كتابة تأخذ هويتها الشخصية، اي ذاتيتها من كاتبها، لكننا هنا أمام تميز من نوع آخر. ليس غريبا ان يكون النص المكتوب من وحي حياة الكاتب الذاتي أو المحيط به، وهكذا فأن عيسى الصيادي يصف رحلة سحبه الى الجيش في ظروف قمع وكأنه معتقل لينتهي به المطاف متعايشا مع الموت المعمم يناقشه فلسفيا، وينتظر جوابا لا يأتي اشباعا لتساؤلات ذاته التي لاتنتهي، ولعدم تقبله الحياة العامة التي عاشها منذ بداية ثورة السوريين حتى اصبحت حياتهم جحيما بفعل عنف النظام وداعميه بعد تعميم القتل والدمار على السوريين، وخاصة انه شاهد عيان هو من الضحايا ولكنه في صفوف القَتلة من الجيش والدفاع الجوي..

أما المتميز عند صاحب المسكوكات فهو أنه كحرفي يمتلك زمام مهنته في تعاطيه مع اللغة العربية المطاوعة بين يديه، يعيد خلق حياة لكل كلمة وفعل وحركة يعيشها ويعانيها. الأشياء المحيطة وأحواله النفسية وتصرفات الآخرين والأحداث التي تمر عليه، كلها تدخل الى مصنع اللغة عنده ويعيد إنتاجها ممتلئة مشاعر واحاسيس ومواقف وتشبيهات وخواطر واستعادات لما مرّ في حياته، وما يتصوره في المستقبل وما يتمناه له ولغيره في عالم الغيب العصي عن التحقق له وللسوريين المظلومين.

لقد عاش بطل النص منعزلا عن العالم في قوقعته الذاتية، في ذات اللحظة التي عايش فيها كل ما مر معه آلاف المرات زيادة عن صانعي الحدث او ضحاياه. لقد عُذّب في المعتقل و تلقى تدريبا قاسيا في الجيش مثله مثل غيره. لكنه مات مع المعتقلين الذين قُتلوا بكل وحشية، ومات كل مرة مع المقتولين جراء القصف والتدمير الذي قام به النظام وأعوانه، نعم عاش مشاعر فقد الأم لابنها، والطفل لعائلته، والطفلة لاحد اطرافها، عاش كل المآسي التي مرت على السوريين وهو شاهد عيان ومشارك رغما عن أنفه مع القتلة، عاش كل ذلك وتخزّن فيه كقنبلة نووية يعجز عن البوح او الافصاح، لأنه سيحاسب بصفته يتعاطف مع الضحية، ممنوع من البكاء والتوجع والتأوه عن كل من رآه مات أو يموت او يعيش فقده وآلامه، عاش كل ذلك معهم، وعجز ان يمد يد العون او يواسي او يذرف دمعة أو يشتكي لله.

عيسى يتجرع كل هذه المآسي التي مرت وتمر عليه ولا يعرف كيف يفرّغ ذلك من نفسه ليرتاح. لكنه وجد حلا…

انه يكتب في مسكوكاته كل ما يحدث معه لحظيا، بشكل سري وكأنه يقوم بفعل خيانة للنظام، ولكنه وفاء لنفسه المظلومة ولجميع المظلومين من السوريين الذين تعايش معهم عبر سنوات. يتعامل مع قلم الرصاص والأوراق البيضاء وكأنه يتعبّد، يكتب خلاصة روحه، يحاول إخفاءها في مواسير معدنية خوفا ان يراها أو يراه احد وهو يكتبها …

قبل التوغل في مناقشة مسكوكات عيسى الصيادي لا بد من سرد مسار الحدث فيها.

عيسى ولنقل انه بطل الحدث في المسكوكات تم إلقاء القبض عليه صدفة، وتبين أنه متخلف عن الخدمة العسكرية، ويتم تحويله الى احد الفروع الأمنية ليعايش بذاته وبما يرى بالآخرين امتهان إنسانية الجميع، لقد اصبح منذ اللحظة الاولى شيئا ولم يعد انسان له كرامته وحقوقه واحترامه، بعد الاعتقال يحول الى مركز الشرطة العسكرية، واصفا ما يعيشه المساقون الى العسكرية من ظلم وقهر وإذلال، ومنها إلى مركز السوق والفرز في قطعات الجيش السوري حيث يدرب العسكر الجدد على اصناف الاسلحة ويرسلون اخيرا الى احدى القطعات ليخدم الفترة المفروضة عليه.

في الجيش يدرك عيسى ان المهمة الأساسية للجيش والمدربين والقادة هي خلق  كائن مطيع مستعبد، أمام الإله الأوحد حافظ وبعده بشار، يُعلّم كيف يكون ذليلا متلاشيا مطواعا قطيعيا، يردد الشعارات، يتعلم كيف يقتل الإنسان داخله، ويخلق العبد المطيع في الجيش وفي حياته القادمة.

من هناك فرز الى الكلية الجوية في حمص وبعد دورة على رادار لصواريخ سام، اعيد فرزه ليكون في الدفاع الجوي المتمركز على قمة قاسيون. وهناك عاش تجربة التقيِة الإجبارية التي يتقنها السوريون فهو من حماة وليس من طائفة النظام وشبيحته، وهم اغلبهم من طائفة النظام من الساحل السوري، يعيشون على التبجح بما فعلوا سابقا وما يفعلونه الآن بحق الشعب السوري اثر ثورته، قتل وتدمير وتشبيح واذلال وتهجير، يتبجح الضباط والعناصر الطائفيين بنصرهم وجرائمهم وتشبيحهم وتعفيشهم والأعطيات الإجبارية التي يحصلون عليها من الجنود المغلوب على أمرهم والمقتولين عاجلا وآجلا. من قاسيون عاصر عيسى القصف المدفعي والصاروخي على بلدات الغوطة، عايش معاناة الناس تحت الحصار، ثم جراء القصف الكيماوي، وكذب الخط الاحمر الامريكي، وتكرار القصف الكيماوي لعشرات المرات. عايش تدمير البلدات فوق رؤوس أهلها، وتهجيرهم قسرا الى الشمال السوري، كما حصل في الغوطة وداريا وغيرهم كثير في بقاع سوريا المكلومة. أدرك ان محنة سوريا ليست مع نظامها القمعي المجرم فقط بل مع التواطؤ الدولي والسكوت عن فعلها لما فعلت، ودعمها المباشر من قبل إيران وميليشيات حزب الله الطائفية والدعم المطلق لروسيا جوا وأسلحة وحماية دولية في مجلس الأمن مع الصين في فيتو شبه دائم منعا لأي ادانة للنظام السوري القاتل لشعبه والمدمر لبلده.

يتابع عيسى سرد تطورات المقتلة السورية، من اعتقال وتدمير بلدات وتهجير الناس، الى الشمال السوري أو البلدان المجاورة، ملايين تحمل روحها على كتفها وتغادر للحفاظ على أمانة الله تلك. تغامر بالهرب في البحر، أما موت آخر غرقا أو النجاة والوصول إلى أوروبا الجنة الموعودة هروبا من جهنم الأرض سوريا وزبانيتها النظام السوري.

حاول عيسى أن ينشقّ عن النظام ولم يفلح بعد أن حصل على إجازة بعد فترة طويلة، هذا غير متابعته لحال بلدته التي ثارت ونُكّل بها و اجتاحها النظام بعد ذلك. أهله الذين هربوا إلى ما لا نعلم، هل المناطق التي لم يصلها نار النظام ام الخارج الذي امتلأ بملايين السوريين الهاربين.

عيسى ككل من خدم في تلك السنوات في الجيش لم يحصل على تسريحة في وقته المحدد، حيث بقي العساكر يخدمون مرغمين مع النظام طوال سنوات، ليكونوا وقودا في حرب النظام على الشعب السوري، القاتل والمقتول سوريين، بعضهم ظلما وبعضهم دفاعا عن حقهم بالحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية، وبعضهم غباء و ارتزاقا أو انتفاعا بلقمة العيش المتاحة، أو من خلال التجييش الطائفي الكاذب الذي يرفع عرش النظام على جماجمهم وجماجم السوريين.

تنتهي المسكوكات عندما لا يبدو أن هناك أمل في حال السوريين، ولا أفق امام عيسى وما يعيشه، وكأن سوريا وشعبها انتقلت الى حالة التلاشي وانعدام الوجود والمعنى. لذلك نراه يختم مسكوكاته مخاطبا الموت ومحاورا له، في مونولوج داخلي يظهر إلى أي مدى أصبح السوريون منتهكون انسانيا بحيث ملّ الموت من موتهم، ويئس السوريون من خلاص يطل بنوره في أفق قادم…

يعيش عيسى الصيادي حوارته الوجدانية مع نفسه بالمطلق فلا يظهر من ذاته المبثوثة والحاضرة في مسكوكاته اي شيء أو سلوك خارج ذاته المغلقة …

يستحضر ذاته ويتواصل مع اناه ويكتفي بذلك…

في التعقيب على المسكوكات اقول:

اننا امام نص متميز جدا، يستحق ان يسمى مسكوكات، بحيث نتعايش مع كلمات وجمل و تشابيه وأحوال نفسية وحياتية متعوب عليها وانت امام صائغ الكلمات بكل حرفية…

تابعت بكل تيقظ وانتباه لكل كلمة و جملة وتشبيه وصورة. عيسى يمتلك ناصية اللغة العربية كأحد فرسانها الكبار…

المسكوكات شهادة اخرى عن واقع السوريين وعذاباتهم وما حصل معهم. هناك ادراك عميق لواقع النظام الطائفي منذ الاسد الاب واستمرارا في ابنه، استباحة حياة الشعب السوري، دون اي رادع او خوف من عقاب. إدراك عميق لارتباط النظام بالقوى الدولية الفاعلة وتحوله الى زبون يقوم بدوره على احسن حال ويستحق عرش سورية على حطام دمارها و جماجم السوريين…

النظام الذي يرتبط بالمطلق مع مشغليه، بحيث فقد كرامة انه حاكم بأمره. استغلال الروس والايرانيين له وتحويله الى مجرد قاتل مأجور وخائن…

التخريب المجتمعي وخلق الطائفية وترسيخها، خلق مجتمع العبيد وتأبيده، صناعة صنم نفسي مجتمعي برمزيه الاب وابنه ، خلق تقية مصيرية داخل كل السوريين تمنعهم من المساررة الا مع انفسهم…

المسكوكات مهمة ومحملة بكثير من المعاني بحيث نستطيع ان نقف امام كل مسكوكة ونعاينها بحيث لا نحس باننا اعطينا المسكوكات حقها عندما نتوقف عن الحديث عنها…

شكرا عيسى الصيادي الصائغ اللغوي المبدع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى