نُذر توتّر جديدة تلوح في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً بين تركيا من جهة، واليونان ومصر من جهة ثانية، وذلك بعد توقيع تركيا اتفاقية جديدة مع حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، تتيح التنقيب المشترك عن النفط والغاز على الأراضي الليبية وفي المياه الإقليمية، المشمولة باتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقّعة بين البلدين في 27 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، والتي قوبلت بالرفض من أطراف إقليمية ودولية، خصوصاً اليونان ومصر، اللتين ردّتا عليها بتوقيع اتفاقية في عام 2020 تحدّد منطقتيهما الاقتصاديتين الخالصتين شرقي البحر المتوسط، وبما يتعارض مع مناطق الاتفاق التركي الليبي.
والمرجّح أن تسهم الاتفاقية الجديدة في تجدّد الصراع بين القوى الإقليمية على مصادر الطاقة شرقي المتوسط، والذي كاد يتحوّل إلى نزاع عسكري خطير بين تركيا واليونان في أكثر من مناسبة، خصوصاً أنها جاءت في وقتٍ تمرّ فيه العلاقات التركية اليونانية بأسوأ حالاتها، وذلك في ظل تصاعد الاحتكاكات البحرية والتحرشات بين الجيشين، التركي واليوناني، وتزايد الخلافات بشأن المياه الإقليمية والمجال الجوي لكلّ منهما، إضافة إلى اتهامات تركية لليونان بعسكرة جزر بحر إيجه، في انتهاك صارخ لاتفاقيتي لوزان 1923 وباريس 1947، والخلافات بشأن ملف اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.
على المستوى الليبي، تأتي الاتفاقية في ظلّ سيادة حالات من الانقسامات والتصدّعات داخل ليبيا، التي تعيش على وقع صراع محموم على السلطة منذ سنوات عديدة، مع وجود حكومتين متنافستين، تدّعي كلٌّ منهما امتلاك الشرعية، لذلك اشتعل جدل سياسي واسع بين أطرافٍ تدافع عن جدوى هذه الاتفاقية، وعن فائدتها العائدة على البلاد، وأطراف أخرى ترفضها، وتعتبرها غير قانونية، وتنتهك سيادة ليبيا، وفي مقدمها البرلمان الليبي الذي يتّخذ من طبرق في شرق البلاد مقرّاً له، وحكومة فتحي باشاغا المدعومة من رئيس البرلمان، عقيلة صالح، ومعه معسكر الشرق، إذ أصدر البرلمان الليبي بياناً وقّع عليه 90 عضواً، يمثّلون أغلبية مطلقة فيه، اعتبروا أنّ “الاتفاق السياسي يحظر على الحكومة توقيع أي اتفاقياتٍ أو تعهداتٍ خلال المرحلة التمهيدية، ونرفض ما تم في طرابلس من توقيعٍ لمذكّرات تفاهم أو اتفاقيات غامضة، فتوقيع حكومة الدبيبة على مذكّرة تفاهم مع تركيا في مجال النفط والطاقة اعتداء على ثروات الشعب الليبي”. كما أعلن 73 عضواً في مجلس الدولة الليبي رفضهم توقيع حكومة الوحدة الوطنية مذكّرة تفاهم مع تركيا، معتبرين أنّ “توقيع مثل هذه المذكرات الغامضة البنود والأهداف، في مثل هذا التوقيت والظرف السياسي المنقسم، يمثل محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع”.
في المقابل، تدافع الحكومة الليبية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، عن الاتفاقية التي وقّعتها مع تركيا، وتجادل بأنها “تهدف إلى تطوير المشاريع المتعلقة باستكشاف وإنتاج ونقل والتجارة بالنفط والغاز وفق الإجراءات والقوانين المتبعة في ليبيا، وتنصّ على تعزيز التعاون بين البلدين في الجانب العملي والفني والتقني والقانوني والتجاري بمجال الهيدروكربونات (النفط والغاز) وتبادل الخبرات والتدريب وضمان المصالح المشتركة والجدوى من عمليات الاستكشاف والتطوير وزيادة الإنتاج للبلدين”. أما وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، فقد اعتبر أن الاتفاقيات “هي مسألة بين دولتين تتمتّعان بالسيادة، وهي مكسب للطرفين، وليس للدول الأخرى الحقّ في التدخل في هذه الأمور”.
وسارعت اليونان إلى رفض الاتفاقية، كونها ترى فيها انتهاكاً لمياهها الإقليمية، على الرغم من تأكيد وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، أن لا علاقة لهذه الاتفاقية بـ “الاتفاقية البحرية الموقّعة سابقاً مع تركيا، فهي تحتاج تفعيلاً من الأمم المتحدة”، لكن تأكيدها لا يمنع إمكانية حصول صدام مع اليونان، في حال قرّرت تركيا بالفعل البدء في التنقيب عن الغاز والنفط في المناطق المتنازع عليها.
وبدوره، أكد وزير الخارجية اليوناني، نيكوس ديدنياس، على أنه، ونظيره المصري سامح شكري، يعتبران “حكومة طرابلس فاقدةً للشرعية التي تخوّلها توقيع اتفاق كهذا”، وهو ما أكّدته أيضاً وزارة الخارجية المصرية، على لسان المتحدّث باسمها، أحمد أبو زيد، الذي رأى أن “الحكومة الليبية الانتقالية المنتهية ولايتها في طرابلس لا تملك صلاحية إبرام أيّ اتفاقات دولية أو مذكّرات تفاهم”.
ويبدو أنّ الخطوة التركية بتوقيع الاتفاقية جاءت في أعقاب تلقّي تركيا ردّاً سلبياً على محاولات انضمامها إلى منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يضم كلاً من اليونان ومصر وقبرص والسلطة الفلسطينية وإسرائيل والأردن. وسبق للساسة الأتراك أن اعتبروا الإعلان عن منتدى غاز شرق المتوسط في القاهرة، يناير/ كانون الثاني من العام 2019، كان هدفه تهميش تركيا وتجاهل مصالحها، وهو ما دفعهم إلى توقيع اتفاقيتين مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السرّاج، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، الأولى لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، والثانية للتعاون الأمني والعسكري بينهما، وبما يخدم حقوقهما في مواجهة المطالب اليونانية، وكردّ على المنتدى، حيث أعادت الاتفاقية الأولى تحديد مساحة المنطقة الاقتصادية للبلدين والجُرف القاري لكل منهما، ومنحت تركيا مساحةً مائيةً كبيرة جداً تصل إلى 189 ألف كيلومتر مربع، فيما زادت مساحة نفوذ ليبيا إلى أكثر من 16 ألف كيلومتر مربع.
وتسعى تركيا إلى توطيد حضورها في ليبيا لاعتباراتٍ عديدة، ومن أجل تحقيق أهداف عديدة، تتعلق بالمحافظة على دورها الإقليمي الفاعل، وحصولها على ما تعتبره حقوقها في التنقيب عن النفط والغاز في مياه شرقي المتوسط، حيث تفيد تقارير بأن حوالي 40% من المواقع المحتمل ظهور النفط فيها تقع في المياه الإقليمية الليبية التي تشملها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. إضافة إلى خشية تركيا مع الاتفاقات التي أبرمتها شركات نفط أوروبية، خصوصاً شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، ومعهما بعض الشركات الأخرى، للتنقيب عن الغاز والنفط داخل ليبيا.
من جهة أخرى، تحاول تركيا منذ عام 2018 اللجوء إلى خطواتٍ قانونيةٍ دولية لإبطال اتفاقية دول منتدى غاز المتوسط، بدعوى انتهاكها جرفها القارّي ومياهها الإقليمية، لكنها لم تتمكّن من ذلك، فيما تحول الاصطفافات والمحاور الإقليمية والدولية، وتضارب أجندات الدول ومصالحها، دون التوصل إلى تفاهماتٍ جامعة، ولذلك تجرى محاولات لإعادة رسم الخرائط وتقاسم النفوذ ما بين الدول، ما يفضي إلى تصاعد التوتر والخلافات بينها. ومع ذلك، تبقى احتمالات المواجهات العسكرية المباشرة بعيدة في منطقة شرقي المتوسط وإيجه، على الرغم من إعلان الساسة الأتراك واليونانيين استعدادهم للتعامل مع أي احتمال، بما في ذلك المواجهة العسكرية، لكنّ المرجّح أنّ التحالفات والتكتلات السياسية والأمنية التي تضم كلّاً من اليونان وتركيا، خصوصاً حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لن تدع التوتر بين البلدين أن يبلغ مداه.
المصدر: العربي الجديد