قبل 64 عاماً من اليوم، كان العرب في زمن مختلف تماماً، كانت الأحلام أقرب من أطراف الأصابع، كما لم تكن وحدة مصر وسورية، عملاً عابراً، رغم أن صورتها الاندماجية، لم تستمر سوى ثلاثة أعوام، وما يزيد قليلاً على نصف العام، إذ أن تجربة الوحدة التي انتهت بانفصال صادم، مازالت تداعب أحلامنا مع تمنياتنا أنها لن تكون الأخيرة، وأنها صالحة لاستلهام عظات ودروس الإخفاق فيها، وأن العروبة والتوحيد بقدر ما تنفك من الجمود والرجعية والتخلف، الذي دام قروناً، ويحتاج الخلاص منه إلى حركة وجهد أجيال، تفتح طرق التقدم والتحديث والعلم والتصنيع، وإعادة بناء أمة قادرة، تخوض سباق العصر بأدواته، وتخلق من الأمة الهرمة أمة جديدة، طامحة للتوحيد واسترداد المستقبل الذي تستحقه.
وتنبع أهمّية التوقّف الآن عند ذكرى الانفصال بين مصر وسورية، من حيث كون الإجابة يفصح عنها واقع الحال العربي الراهن، الذي ابتعد كثيراً عن أماني الوحدة بين أوطان عربية مختلفة، والذي يقترب كثيراً من تفكّك الأوطان القائمة نفسها. حيث كانت حقبة الخمسينات من القرن الماضي، حقبة تحرّرٍ وطني وقومي ودعوة لتوحّد أقطار وشعوب الأمّة الواحدة. بينما الحقبة الآن، رغم ما فيها من آمال كبيرة حصيلة الحراك الشعبي العربي الواسع، هي حقبة محاولات الهيمنة الأجنبية وتحقيق التشرذم الداخلي لصالح الطامعين بهذه الأمّة.
إن تجربة وحدة مصر وسورية، على قصر سنواتها العابرة، لم تكن الحدث الأول من نوعه، بل كانت القاعدة والأصل لمئات السنوات، فقد كانت مصر وسورية ولاية وكياناً سياسياً واحداً، على مدى 650 سنة، في ظل اضمحلال مركز الخلافة في الزمن العباسي المتأخر، ومن عهد دولة أحمد بن طولون في مصر، إلى الغزو العثماني الذي فصل مصر عن سورية مجدداً. وكانت هذه الوحدة، هي الصخرة التي تحطمت عليها غزوات المغول والصليبيين، وتوالت فيها حروب «عين جالوت» قطز و«حطين» صلاح الدين الأيوبي، إلى سواها من عشرات المعارك الكبرى. فمع نهايات القرن التاسع عشر كان العرب تحت حكم الدولة العثمانية، وكانوا يعانون من التهميش والتمييز القومي الذي كانت تمارسه الأحزاب في الآستانة مثل الإتحاد والترقي وتركيا الفتاة. ومع نجاح نموذج الدولة القومية في أوروبا، سعى العرب كغيرهم من القوميات للحصول على دولتهم القومية لتحقيق طموحات الشعب العربي في التقدم والرقي. ولكن قوى الاستعمار الأوروبي قامت بتقسيم بلاد الشام حسب اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 وإنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين.
ومنذ مطلع عام 1955 أبدت الجماهير في سورية اهتماماً خاصاً بما يحدث في مصر (اتفاقية القناة، مقاومة الأحلاف، الضغط الصهيوني على مصر متمثلاً في الحملة على غزة في مطلع عام 1955، مؤتمر باندونغ، صفقة الاسلحة، توضُح الاتجاه الاجتماعي لقادة الثورة). وإن كان البعض يرى في انتخاب شكري القوتلي في العام 1955، حسم للموقف لمصلحة التيار المنادي بالتعاون والتحالف مع مصر، حيث تبع ذلك اتفاق بين البلدين على انشاء قيادة عسكرية موحدة يكون مركزها في دمشق، ولحق ذلك قبول كلا البلدين لصفقات السلاح السوفياتي في الوقت الذي كان فيه حلف بغداد يهدد الاراضي السورية بدعم من بريطانيا. وعند وقوع العدوان الثلاثي على مصر أعلنت الحكومة السورية حالة الطوارئ في أراضيها واتجهت وحدات من قواتها للمرابطة في الأردن بعدما عطلت خط أنابيب التابلاين الناقلة للبترول العراقي إلى الساحل اللبناني. وقد اضطرت هذه الوحدة للانسحاب من الأردن ابتداءً من 24 نيسان 1957 بعد أن هددت القوات الاميركية بالتدخل ضدها. وفي حكومة صبري العسلي الرابعة في كانون الأول 1956 تضمن بيانها الحكومي الدعوة إلى الوحدة السورية المصرية، واجتمع في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1957 مجلس النواب السوري ومجلس النواب المصري في جلسة مشتركة وأصدرا بالإجماع بياناً فيه دعوة إلى حكومتي البلدين للاجتماع وتقرير الاتحاد بين الدولتين. أعقب ذلك كله قيام وفد عسكري سوري بزيارة القاهرة خلال شهر كانون الثاني/يناير 1958، مُطالباً بالوحدة الفورية، وتبع ذلك اجتماع عبد الناصر مع شكري القوتلي، إضافة إلى نخبة من رجال الدولتين المصرية والسورية، وأصدروا بياناً في 22 فبراير/شباط 1958 أعلنوا فيه توحيد القطرين في دولة واحدة تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدة”.
بناءً على ما ذكر أعلاه، فإن دولة الوحدة عام 1958 لم تكن حصيلة ضمٍّ قسري أو غزوٍ عسكري، أو طغيانٍ سياسي جغرافي من دولةٍ عربية كبرى على دولةٍ عربية صغرى مجاورة. كذلك لم تكن دولة الوحدة نتيجة انقلابٍ عسكري في سورية، ولا بسبب وجود حزبٍ سياسي “ناصري” فيها قام بالضغط لتحقيق الوحدة مع مصر عبد الناصر. وأيضاً، لم تكن وحدة مصر وسورية بناءً على رغبةٍ أو طلبٍ من القاهرة، بل كانت حالةً معاكسة، حيث كانت القيادة السورية برئاسة شكري القوتلي (والتي وصلت للحكم في سورية نتيجة انتخابات شعبية في ظل نظام برلماني)، هي التي تلحّ في طلب الوحدة مع مصر، بناءً على ضغوطٍ شعبية سورية.
وبالتالي فإن عملية الانفصال لم تكن نتيجة مشكلة في المنطلقات والغايات، بل كانت في الأساليب التي اتّبِعت خلال تجربة الوحدة. حيث كانت الغاية الوحدوية سليمةً في كلّ أبعادها، لكن العطب كان في الأساليب التي استخدمت من أجل تحقيق الوحدة وفي سياق تطبيقها. فالوحدة الاندماجية الفورية بين بلدين، لا تجمعهما أصلاً حدودٌ مشتركة، وبينهما تبايناتٌ في البنى الاجتماعية والاقتصادية والتجارب السياسية، كانت خطأً ساعد بعد تطبيق الوحدة على نموّ المشاعر السلبية.
إن الوحدة المصرية السورية كانت حدثاً تاريخياً فريداً وملهماً في التاريخ العربي الحديث، وكانت لها أصداؤها القومية والدولية المدوية في كل مكان. وإن كان البعض يرى بأن الوحدة قد تمت تحت إلحاح قادة حزب البعث لمنع سقوط سورية في قبضة الشيوعيين، ورأوا في وحدة البلدين حبل الإنقاذ لهذا البلد العربي الذي لا بديل له. فإن الوحدة العربية تبقى قضية مصير ومستقبل بالنسبة إلى الأمة العربية، ولا حاجة بنا في هذا السياق إلى الحديث عن الأهمية الاستراتيجية للوحدة في مواجهة التحديات الراهنة التي تعصف بالنظام العربي. ولا شك في أن كل عربي مخلص لعروبته يتحمل مسؤولية جسيمة في الدفاع عن فكرة الوحدة وبيان جدواها والنضال من أجل إعادتها إلى جدول الأعمال العربي بالاستفادة من دروس النضال السابقة على طريق تحقيق الوحدة.
والجدير بالطليعة العربية الثورية أن تتناول هذه التجربة وأسباب فشلها بالدراسة العلمية مبعدة كل أثر للانفعال والعاطفة والأفكار المقلدة، إذ أنها عمل تاريخي يتجاوز القطرين اللذين تمت فيهما والأفراد والأحزاب التي أسهمت في تحقيقها. ورغم المياه الكثيرة والجديدة التي مرت وتمر تحت جسور الزمن، فإن هذه الذكرى ستبقى شاهدة على إمكانية تحويل الحُلم العربي الكبير إلى حقيقة، وتؤكد أهمية تبني “ثقافة الاصطفاف العربي” في مواجهة تحديات غير مسبوقة، خاصة بعدما جرى ابتذال كلمتي (القومية والعروبة)، إذ إن التحديات التي تواجهنا اليوم تستدعي الثقافة القومية العربية لمواجهة واحتواء الهيمنة الإقليمية والأطماع على مستقبل أمتنا.