تطوّرات نوعية، ربما لم تكن متوقعة عند بعض أطراف المعارضة السورية ونخبها، لكن الذي يقرأ اللوحة الدولية لن تفاجئه هذه التطورات، وهي مؤشّرات على بداية تطبيع واسع مع النظام السوري، حتى من أشد خصومه، منها عودة النظام إلى منظمة الشرطة الدولية الجنائية (الإنتربول)، زيارة وفد من الاتحاد الأوروبي إلى دمشق، إصرار دول أوروبية على دعم بعض قطاعات البنية التحتية في مناطق سيطرة النظام باسم التعافي المبكّر، كلمة ممثل النظام في الأمم المتحدة، في اجتماع خُصص لمحاربة الإرهاب، زيارة رئيس الاتحاد الرياضي السوري إلى قطر، .. وإن يبدو أن قطار إعادة التأهيل انطلق من بوابات غير سياسية، لأن التأهيل السياسي سيشكل الحلقة الأخيرة والنهائية.
ولمعرفة أسباب هذه التطورات، يجب أن نقرأ اللوحة السياسية لأصدقاء الشعب السوري بصورة صحيحة، ويمكن تلخيصها بما يلي: أولا، باتت أولوية الاتحاد الأوروبي اليوم دعم المجهود الحربي الأوكراني، ومنع خسارته أمام روسيا، ومعالجة سيل المهاجرين الأوكرانيين إليه، وكذلك العقوبات الاقتصادية التي طبّقها الاتحاد على روسيا، ومعالجة ارتدادات تلك العقوبات على اقتصاده، خصوصا في مجالي الطاقة والغاز، ولم يعد الوضع في سورية يشكّل له أولوية.
ثانيا، أكّدت الولايات المتحدة أكثر من مرة، منذ أكثر من سنتين، أن أولويتها في سورية هزيمة الإرهاب، ومنع عودته، وإيصال المساعدات الإنسانية، ومراقبة حالة حقوق الإنسان، ودعم جهود مبعوث الأمم المتحدة استنادا إلى قرار مجلس الأمن 2254. ورغم أن الانتقال السياسي وفق مؤتمر جنيف (2012) لم يعد من أجندات الولايات المتحدة منذ سنوات، إلا أن التطورات الحالية جعلت الملف السوري غير ذي أهمية، وإن أولويات أميركا هي دعم المجهود الحربي الأوكراني، ومنع روسيا من تحقيق الانتصار، وكيفية مواجهة أزمة الطاقة العالمية نتيجة العقوبات على روسيا. والأهم من هذا كله كيفية مواجهة التطوّر والتقدم الاقتصادي والتقني في الصين، الذي إن استمر بهذه الوتيرة فإنها، أي الصين، قد تتقدّم على أميركا خلال قرن.
ثالثا، رغم أهمية الملف السوري لديها، إلا أن أولوية السعودية اليوم كيفية تحقيق الأمن والاستقرار في اليمن، ومنع الحوثيين من الانتصار، وأيضا مواجهة تهديدات هؤلاء الأراضي السعودية، وكذلك إعادة ترتيب علاقاتها ورسم الاستراتيجيات، لتخفيف الخطر الإيراني المباشر وغير المباشر عليها. ومع ذلك، تُعتبر السعودية من أهم الدول العربية الداعمة للثورة السورية، والتي تُعارض إعادة تأهيل النظام.
رابعا، تتحمل تركيا العبء الأكبر في ما يتعلق بنتائج الأزمة السورية، حيث يعيش على أراضيها حوالي أربعة ملايين لاجئ سوري. ويعيش في منطقة نفوذها، أيضا، أربعة ملايين آخرون، وهذا يكلفها عبئا اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا كبيرا جدا، ونتيجة إطالة أمد الأزمة وانعكاساتها المباشرة على الوضع الداخلي في تركيا، خصوصا موضوع اللاجئين السوريين الذي بات الملف الأهم والورقة الأساسية التي تستعملها المعارضة التركية ضد الحكومة، والتحريض الإعلامي ضد الوجود السوري. لذا باتت الحكومة التركية أمام استحقاقاتٍ قديمة جديدة، وبات موضوع اللاجئين المعضلة الرئيسية التي قد يتوقف على طريقة حلها مستقبل حكومة حزب العدالة والتنمية. لذلك بات من أولى أولويات الحكومة التركية معالجة ملف اللاجئين السوريين، وإن اقتضى الأمر القيام بلقاءات سياسية، وتواصل سياسي بين الحكومة التركية والنظام السوري. إضافة إلى ملف قديم، مكافحة وجود حزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، حيث ترى أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي ما هما إلا فرعين للحزب، وإن وجودهما وحكمهما شمال شرق سورية يشكل خطرا عليها، ولا بد من إنهائه، الأمر الذي تعارضه أميركا بوجهة نظر مختلفة، على أن “قسد” قوات مسلحة سورية، تشكل الذراع الرئيسي للتحالف الدولي لمكافحة إرهاب “داعش”، وهذا هو السبب الرئيسي لتوتر العلاقات التركية الأميركية، إضافة إلى ملفات أخرى.
إن القراءة الصحيحة لهذه التطورات، وتبدل الأولويات لدى الدول الرئيسية من أصدقاء الشعب السوري، تفتح الطريق أمام إعادة تأهيل النظام، خاصة أن اللوحة الوطنية هي الأخرى تساعد في تحقيق ذلك، لأن الصراع في سورية بات منخفضا أو مجمدا، ولم يعد ما يهدد الأمن الإقليمي أو الدولي، عدا الوضع بين تركيا وقسد، ووجود أربع إدارات على الأراضي السورية، وهي، إدارة النظام. وإدارة قسد وإدارة هيئة تحرير الشام، وإدارة المعارضة. وفي أحسن حالات التفاؤل، ليست إدارة منطقة المعارضة أحسن، إن لم تكن بالعكس، وليست النموذج الذي ثار من أجله السوريون وسانده المجتمع الدولي، وليست النموذج الذي يمكن أن يراه المجتمع الدولي بديلا للنظام.
لذلك، تسارع قطار إعادة تأهيل النظام، وإنْ يمر حاليا من بوابات غير سياسية، يشكل انفتاحا على النظام، قد يتوّج، في النهاية، بإعادة التطبيع الكامل، وباتت القضية مسألة وقت. وبما أنه لا توجد في السياسة مستحيلات، فإن وقف مسار التطبيع، بل حتى إمكانية عكسه قد يحدث في الحالات التالية: حصول تفاهم أميركي روسي بضرورة تحقيق حل سياسي وفق القرار 2254 وفرضه على النظام، أو انهيار التفاهم الروسي الأميركي في سورية، ولجوء الولايات المتحدة إلى توسيع الرقعة الجغرافية لمواجهة روسيا في سورية. حصول تغيرات في القيادة الروسية نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، وبالتالي، إعادة ترتيب أوراقها ومن ضمنها إيقاف دعمها النظام السوري. تسخين الساحة السورية بعمليات حربية واسعة ترافقها هجرة واسعة، والتي قد تشكل خطرا جديدا على الأمنين الإقليمي والدولي. نجاح المعارضة في بناء حوكمة رشيدة في مناطق نفوذها، بما يشكّل بديلا للنظام، مقنعا للسوريين وللمجتمع الدولي، على أن يترافق ذلك بنمط تفكير جديد، واستراتيجية تقوم على علاقات حسن الجوار، من دون استثناء، وحل الخلافات مع الجوار من خلال الحوار والمفاوضات، وإقامة علاقات بنّاءة مع الجوار تساهم في إحداث الاستقرار الإقليمي، وتقطع الطريق أمام المنظمات الراديكالية الإيديولوجية التي تهدد الاستقرار في المنطقة والعالم.
إذا لم تحصل انعطافة دولية مهمة جدا كما أسلفنا، واستمرّت المعارضة باستراتيجيتها الحالية، فإن قطار إعادة تأهيل النظام سيصل إلى محطته النهائية في وقت ليس بعيدا.
المصدر: العربي الجديد