كنت سأقول له في وجهه: أنت سبب مآسي سورية، وإنْ لم تبادر إلى تسوية سياسية فإنّ سورية ذاهبة نحو التقسيم. هذا فحوى ما نُقِل عن الرئيس التركي، أخيراً، إن التقى الرئيس السوري بشار الأسد. وأكد رئيس الاستخبارات التركي هاقان فيدان، في دمشق، مع رئيس جهاز الاستخبارات السورية علي مملوك، الفكرة ذاتها؛ وليس من تطبيعٍ بين البلدين قبل العودة الآمنة للاجئين، وتطبيق القرارات الدولية، والحفاظ على وحدة سورية غير قابل للتحقق من دون ذلك، والإجهاز على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والمصالحة بين النظام والمعارضة. الجديد في تلك التصريحات موضوع التقسيم؛ فأردوغان وحكومته يصرّان على التطبيع، ولأسبابٍ داخلية، وبضغطٍ روسي.
المشكلة التي تعترض أردوغان أنّ النظام السوري غير قابلٍ للإصلاح، وهي مشكلة تتجاهلها روسيا وتدعمها إيران. الوضع التركي الداخلي، وانتخابات 2023، وقوة المعارضة التركية تجبرانه على الاستمرار في التصريحات بما يخصّ التطبيع. ويبدو، وهذا ما أرجّحه، أن النظام التركي لن يتوقف عن التصريحات، فهذا ضروري في لعبة الصراعات الداخلية، ويأتي ضمن ذلك زيارة فيدان دمشق.
رغم التسريبات المتضاربة بأنّ تركيا أنذرت المعارضة السورية بضرورة المغادرة، وضغوطها الشديدة على اللاجئين السوريين في تركيا، فإن الأخيرة ليست في وارد التخلي عن المجموعتين. وربما، وحينما تصل إلى قناعةٍ بأن التطبيع غير ممكن، كما كان الأمر في عام 2011، واستنفذت كل الفرص حينها في إجبار النظام على تقديم التنازلات للشعب والاستجابة لبعض المطالب، أقول، ربما حينها، تكثّف من سياساتها في شمال سورية وشرقها، من أجل إعادة ملايين اللاجئين وإلحاق مناطقهم بالولايات التركية، وهذا سيعني فعليّاً تقسيم سورية، وسيؤدّي إلى تعزيز سلطة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وربما هيئة تحرير الشام. ضمن تحليلٍ كهذا، يمكن فهم تصريح أردوغان، ويمكن أيضاً تحليل كلامه، بمثابة إنذار للروس وللنظام السوري، وبالطبع لإيران، أي إمّا التطبيع بشروطٍ أو التقسيم.
لا تتجاهل رسالة أردوغان هذه الرغبة الروسية، بل تُظهِر لموسكو أن المشكلة ليست لديه، وقد فتح كل الطرق من أجل التطبيع، بينما النظام السوري لم يستجب مطلقاً، وما زالت سياساته مطابقة للسياسات الإيرانية، بضرورة مغادرة تركيا الأراضي السورية، وعودة اللاجئين من دون أيّة شروط، وتجاهل كل القرارات الدولية.
وسيجبر التحرّك التركي الواسع نحو التطبيع روسيا على مواقف جديدة مع النظام. وبالطبع، ليست من نوعية استقبال شخصيات “معارضة” سورية غير فاعلة، ولا تمتلك موقفاً سياسياً صلباً تجاه النظام، كما جرى في لقاء هذه الشخصيات مع نائب وزير الخارجية الروسي، بوغدانوف، أخيراً. روسيا المتورّطة بقوّة في أوكرانيا، والتي تتعرّض لهزائم كبيرة هناك، وسحبت منظومة الدفاع الجوي إس 300، والعديد من قواتها من سورية، لن تكتفي بممارسة الضغوط على النظام، أو هذا ما يُفترض، لا سيما أنّها ترى اشتداد قوة التدخل الإيراني وتوسّع الرد الإسرائيلي. وبالتالي، ستخسر أكثر فأكثر في حال امتناع النظام السوري عن الدخول في حوارٍ جادٍ مع تركيا؛ الوضع معقد جداً، فأميركا لم تغيّر مواقفها إزاء تركيا، وزادت من دعمها “قسد”. استمرار روسيا بسحب قواتها من سورية سيُضعِف موقفها تجاه الدول المتدخلة، وسيعني زيادة حصة الدول المتدخلة، ومنها أميركا بالتأكيد، وهذا ليس لصالح تركيا، وبالطبع ليس لصالح روسيا. وبالتالي، هل يمكن لروسيا أن تتخلص من سياساتها السابقة تجاه دعم النظام، والإقلاع عن مساراتها عبر أستانة وسوتشي واللجنة الدستورية وإجبار النظام على تقديم تنازلاتٍ فعلية، والاستجابة لمطالب أردوغان بعودة اللاجئين وتطبيق القرارات الدولية، وعدم السير بتقسيم سورية إلى نهايته.
هناك قضية عدم مرونة النظام السوري، وعجزه الكامل عن إصلاح ذاته أو المصالحة مع المعارضة؛ فقد فشلت كل مسارات التطبيع معه، وهي لم تشرعن وجوده، وتذهب به إلى اجتماعات جامعة الدول العربية أو إلى قمة منظمة شنغهاي، رغم أن لا أسباب فعلية لعدم ذهابه إلى الأخيرة. يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى سجله الكبير في عدم الاستجابة لمطالب شعبه في الديموقراطية، أو العدالة، ورفضه أيّ تغييرٍ منذ 2011، وبالتالي، ورغم أن الدول المجتمعة في شنغهاي ليست معادية له، فإن ذهابه تعثّر، وهناك الرفض المستمر للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتطبيع معه قبل البدء بتطبيق القرارات الدولية.
منذ رَفض النظام السوري الاستجابة للشعب السوري في 2011، وكل المبادرات الإقليمية والدولية للحل في سورية، واستمرّ في سياسة القمع، واستجلاب المليشيات وإيران وروسيا لم يعد قادراً على العودة إلى ذلك العام، والتطبيع مع العالم. يتحرّك أردوغان تجاهه من أجل معركته الداخلية بصورة خاصة، ويشكل التعقيد الكبير والتضارب في المصالح بين الدول المتدخلة في سورية، كأميركا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، سبباً أساسياً لاستمرار الواقع كما هو، وبالتالي، لن يتمكّن أردوغان من تليين النظام والتطبيع معه وإحداث المصالحة.
لا يمكن لأي تفكير موضوعي أن يتجاهل دور المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمعارضة المكرّسة، أي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ودور كل الفعاليات السياسية والثقافية السورية في هذه اللحظة. التغيير الحاصل في السياسات التركية، والضعف الروسي، وأنقرة وموسكو فاعلتان في النظام والمعارضة، يستدعيان دوراً حاسماً للائتلاف الوطني. والمقصد هنا أن وجود موقف قوي للمعارضة سيرجّح خيارات أفضل لصالح الشعب السوري والحل السياسي واستمرار المواقف الهامشية لها، قد يدفع تركيا إلى سياسات تفريطية أكثر مما فعلت منذ تسليم حلب للنظام 2016 والسير بالمسارات الروسية، المشار إليها أعلاه. أردوغان مضطر لتغيير سياساته، فهو ليس برفاهيةٍ في الداخل التركي، والمعارضة هناك مدعومة أميركياً وأوروبياً، ومشكلته أن النظام السوري يتفق مع الأخيرات في إسقاطه، والتضيق على اللاجئين والمعارضة السورية هناك.
الفشل الكامل لـ”لائتلاف” يفترض أن تتقدّم، وبدلاً منه قوى سياسية سورية جديدة، حيث لم يعد الاكتفاء بالنقد، وتحليل أوضاع المعارضة المكرّسة بذي فائدة، وهي أصبحت تابعة بشكل كامل للدول الداعمة لها. تشكيل قطب معارض جديد يجب أن يكون من مهمات المعارضة الجديدة، وأينما كانت، بما يوصلها إلى رؤية استراتيجية للواقع الحالي، والتمسّك بالقرارات الدولية، ووضع تصوّرات دقيقة عن مستقبل سورية، وبما يشكل حافزاً، ودافعاً للانخراط في العمل السياسي من جديد.
أخطأت تركيا كثيراً حينما أَخضعت الفصائل، وحينما جعلت من “الائتلاف” المعارض ومؤسّساته ورقة بيدها، بينما كان الصواب، وهي ترى تَمسّك روسيا وإيران بالنظام كما هو، أن تدعم المعارضة والفصائل، ودفعهما إلى الحفاظ على استقلال مواقفهم إزاء قضيتهم المركزية. اللحظة الراهنة للقضية السورية خطيرة، وعلى المعارضين المستقلين، المبادرة إلى تشكيل ذلك القطب، وطرح استراتيجية ثورية، وإعادة القضية السورية، كما هي، قضية شعبٍ، يريد الوصول إلى دولة تمثل الكل الاجتماعي، وهذا وحده ما سيفتح المجال نحو الحل السياسي وفقاً للقرارات الدولية، والاستفادة من ضعف الروس ورفض العالم لوجود إيران في سورية، وفرملة المواقف التركية للتطبيع مع النظام.
في كل الأحوال، لن يقبل النظام السوري بالتطبيع أو المصالحة. وبالتالي، سورية ذاهبة نحو أزماتٍ أكبر، وربما نحو التقسيم، كما قال الرئيس التركي.
المصدر: العربي الجديد