أشعر بالغضب من نفسي، لأني كنت أتوقع انتصار الأوكرانيين ولكن بعد بضع سنين من نخر روسيا. لكنهم أبقوني صاحياً طوال الليل أتابع التحوّل في خاركيف.
يكاد الجنود الأوكرانيون لا يصدقون عيونهم وهم يرفعون الراية تلو الأخرى فوق المدن والقرى، بعد أن نجحت خدعتهم واقتحموا من الشمال بدل الجنوب. وكانت مشكلتهم أن ينتظروا الجنود الروس الذين أجبرتهم المسيّرات على ترك مدرعاتهم، ليسيروا إلى مواقعهم الخلفية ويبلغوا “رفاقهم” أن “الأوكرانيين قد وصلوا”.
في خاركيف، حرر الأوكرانيون في خمسة أيام، ما كلف الروس ستة أشهر، ليتوجوا ذلك بالتدمير اللوجستي الكاسح في “إزيوم”. وبعدما حلمت حكومة الدمية في الدونباس بإذاعة البيانات من كييف، اختفت مع “جيشها”، وحرر الأوكرانيون 8000 كم2 وفازوا بعتاد روسي صالح، يفوق كل ما أعطاه لهم الغرب، ويكفي لتجهيز أكثر من عشرة آلاف جندي فاستمروا في الهجوم.
ولكن مهلاً، علينا ألا نعد خيولنا الحبلى قبل أن تلد. يعلمنا التاريخ أنه كما فعل الجنرال كوتوزوف ضد نابليون، تتلقى روسيا عادة الضربات بسبب تخلف قدراتها، لكنها كثيراً ما تجمع قوات وتأتي للحرب بتكتيكات ومعدات جديدة.
ثم، وبالمقارنة مع أوكرانيا، لدى روسيا أكثر من ضعف السكان، وعشرة أضعاف الجنود، وعشرين ضعفاً من النيران ناهيك عن الثروات الباطنية. الأهم أن روسيا انتصرت في نصف حروبها، وحين خسرت نصفها الآخر، خسرت خارج أراضيها، ضد اليابان وفنلندا وأفغانستان إلخ.
ورغم كل ذلك فالفارق كبير الآن. روسيا كما نشاهدها في أوكرانيا، عقيدة عسكرية عتيقة دون مناورة، تدريب ضعيف، وعشرات آلاف المدرعات دون صيانة وخطوط امداد، وقيادات فاسدة، واستخبارات مضللة، ومعنويات تائهة بين روايات موسكو وحقائق الأرض.
بالطبع، الحرب في أوكرانيا خاسر-خاسر. ولكن من يخسر أخيراً؟
للأسف خسرت أوكرانيا كثيراً في الغزو، ولكنها رغم المأساة تربح كثيراً بالمقارنة النسبية! كانت تملك بالكاد جيشاً، وكانت تائهة بين روسيا والغرب، اقتصاد متعثر، وبعدما رفضت أوروبا الخائبة ضمها للأطلسي والاتحاد الأوروبي، كي لا يغضب بوتين! ها هي الان تربح وطناً ومستقبلاً دون رجعة، وصارت أبواب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مشرعة أمامها.
بحساب الخسائر النسبية، خسرت روسيا بشكل فادح منذ أن دخلت الحرب، ومهما حصل! وحين يهدد بوتين من منبر العاب بكين، بحرب كونية ضد “الغرب” لإعادة تشكيل العالم، ويخترق أوروبا، ويلعلع بالفيتو، ويزعزع الأطلسي ويبسط يده في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وحتى أفريقيا، فان قيمة موقفه ستحسب من منظور خسارة “خيرسون”.
فأين ستصير روسيا حتى ولو احتلت كييف، لا سمح الله؟ يبدو، بعد مقتل حوالي عشرين ألفاً من جنوده، أن احتمال أن ينجو بوتين بحكمه دون خسارة الحرب كاملة، أفضل كثيراً له من أن يصب احمض ما عنده ثم يفشل.
حتى لو أعلن التعبئة العامة أو الجزئية، بكل تداعياتها السياسية، وشن دورة جديدة من المعارك، فبأي هدف سيقاتل؟ لم يعد الانتصار الذي تحدث عنه بوتين ممكناً. وكييف صارت بعيدة جداً جداً.
وإذا كان سيقحم أسلحة حديثة، فإن إنتاجها والتدريب عليها يستغرق ما بين ستة أشهر لسنة على الاقل، وتلزمه بيروقراطية حديثة، وتلزمه هيكلة سلاسل الامداد المقيدة بسكك الحديد، ثم المستودعات، وفوق كل ذلك: التعطل الوشيك وشبه الكامل لمعامل الأسلحة الحديثة بسبب نقص الشرائح.
في الحروب الروسية عادة، تدفع القيادة بأكبر الخسائر البشرية دون ان تبدل تكتيكها، إلى أن يأتي جنرال كبير مثل جوكوف.
ولكن هيهات! فهذه ليست بالحرب الوطنية العظمى، بل هي عملية خاصة، ولا يملك بوتين أن يبيع حتى الوهم الشيوعي. وبعد أن خسر حرب الاستنزاف خلال الصيف، قد لا تجد روسيا ترف الوقت لحملة جديدة حتى الربيع.
الأهم أن العالم تغير بعد خاركيف! وتَكرّس وضع استراتيجي جديد في أوروبا. وكما أطاح هتلر بتشامبرلين ليجيء تشرشل، وأطاح ستالين بالتعايش السلمي ليولد الأطلسي، قلب بوتين أوروبا رأساً علي عقب، لتقرر القبول بتحدي الحرب وبردها، ولتسارع السويد وفنلندا، حلالاً زلالاً، نحو الأطلسي، ولترفع ألمانيا ميزانيتها العسكرية، وليغلق امامها بحر البلطيق والأسود والأحمر.
وإذ يشيح بوتين بوجهه في سمرقند، أمام الرئيس مودي الذي يعاتبه علناً “انها حرب في غير أوانها “، فانه يقول للرئيس الصيني: “أعرف ان لديك أسئلة ومخاوف كثيرة”، ليبدو أنه يعلم أن الكثيرين، من أمثال شي جينبينغ، ومودي، لن ينزلوا بحبل خاسر. وليصير في أحسن الأحوال، شريكاً ثانوياً للصين، لا توازنه بشيء من مصالحها مع العالم الغربي، ويعلم أن بكين ستحجم عن فتح جبهة تايوان لعيونه، بل ستهدأ أكثر بعد استتباب أوربا.
بعد خاركيف، نتذكر سقوط جدار برلين، وبغياب روسيا تصطف الدول التي رزحت تحت هيمنتها على طريق الخلاص. قد تستغرق التحولات بضعة أعوام، لكنها حاضرة منذ الآن. لوكاشنكو الذي تحيط به الدول البلطيقية والاسكندنافية، يخرج بهدوء عن المدار الروسي ليسلم برأسه. وتبحث مولدافيا ورومانيا إنهاء الوضع الانفصالي الشاذ لترانسنيستيريا الذي أسسته روسيا شرق البلاد.
وكما حدث إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، تتداعى الهدنة بين أذربيجان وأرمينيا وتعود مسيّرات بيرقدار التركية لتهدر من جديد.
وفي حين يحتدم النقاش في إيران حول المراهنة على روسيا، تدرك طهران أن غيابها سيضعفها عسكرياً ودبلوماسياً. أما جورجيا التي دمر بوتين جيشها، ليحتل أوسيتا الجنوبية وأبخازيا، فستنتظر ليلة من دون ضوء قمر.
وإذ يشاهد الأسد سحب روسيا لجزء رئيسي من عتادها الاستراتيجي، يعاني بوضوح من أعراض الفطام! انه يتلمس رأسه الذي لم تعد روسيا مسنداً له. وها هو يتهافت في عروضه على تركيا، ويتوه بين ايران التي ترسخ مواقعها قرب قصره، وبين إسرائيل التي يعرض أن يقدم لها كل ما تريد، وهي تصعد ألعابها النارية فوق دمشق. وما يحمله ذلك من عودة اشتعال الحرب الأهلية.
وفيما كانت اسرائيل تتردد في إزعاج جارتها الروسية في سوريا، صارت تعلم ان يديها مطلقتان في مواجهة إيران و”حزب الله”. أما كوبا فتعيد فتح قنواتها مع جارها الشمالي. إلخ. لكن أسفي على يتامى بوتين من العرب، الذين لم يملوا من الاصطفاف وراء الخاسرين، من هتلر إلى صدام إلى بوتين.
كانت لدي ايفان الطيب العظيم خيارات اخرى بعد سقوط السوفيات، لكن الKGB لم تعتقه. لعله سيفعلها الآن، ويضحك أخيراً حين يَعتِق رقبته!
المصدر: النهار العربي