بعد أكثر من 11 سنة من تمرد السوريين على واقع الاستبداد والفساد، حيث قدموا تضحيات كبيرة جداً بالمقاس التاريخي للثورات، مقابل وحشية منفلتة لعصابة الأسد التي استولت على سوريا منذ 50 عاما، وفي ظل صمت دولي وتمرير لجرائم تلك العصابة، ورافق ذلك ظهور قوى سياسية ومسلحة تصدرت مشهد المعارضة، لكنها غرقت في همومها الخاصة وأجندات الآخرين، وذلك مع إبعاد كل النخب الوطنية المؤهلة لمساعدة الثورة السورية التي زعزعت أركان النظام المستبد الإرهابي في دمشق، وأثبتت بأنه أضعف من الشعب رغم جبروته الأمني والعسكري وبأن الصمت عليه غير مبرر. وأن العصابة لم تستمر حتى اليوم لولا تدخل سافر من قبل إيران والميليشيات الطائفية التابعة لها من لبنان والعراق وأفغانستان ولولا تدخل روسيا بقوتها الجوية الفتاكة.
لكن النظام يتدلل على حلفائه الروس بشكل خاص. والغريب أنهم يتحملونه. وقد تحدثت مع خبراء روس حول تناقضات الأسد مع روسيا ومعاكسته لتوجهاتها سواء في اللجنة الدستورية، حيث أعلن أن وفد المعارضة تابع لتركيا ولا مجال للحوار معه، أما في موضوع اللاجئين، فقد صرح لقناة روسيا اليوم بأن الظروف غير آمنة لعودة اللاجئين بينما الروس نظموا أكثر من مؤتمر حول اللاجئين وقاموا بزيارات لمختلف دول العالم وخاصة دول الخليج العربي لإقناعهم بضرورة عودة اللاجئين السوريين وهذا يتطلب إعادة الاعمار ولو بالتدريج. ويلفت الانتباه إعلان النظام الكاذب بعدم رغبته في حضور القمة العربية، علما أنه يعرف تماماً استحالة دعوته في الوقت الحالي، لمعارضة ذلك من قبل دولة قطر والمملكة العربية السعودية ومصر، ولكن الغريب كيف يفسر الروس موقف النظام السوري في وقت عمل لافروف والخارجية الروسية ولافرينتيف لسنوات على إقناع العرب بضرورة التطبيع مع الأسد وإعادته إلى حضن الجامعة. واكتشفنا أن الأسد يرى نفسه فوق الجامعة العربية ويريد أن يعود العرب إلى حضنه مثلهم مثل اللاجئين. علماً أن المتابعين يعلمون بأن آلاف المعتقلين العرب ما زالوا يقبعون في سجون العصابة الأسدية.
ولطالما ردد بعض الشخصيات السورية والقوى السياسية المختلفة وأغلبها غير بعيد عن النظام وحلفائه مزاعم، بأننا لم نعرف كيف نتعامل مع الروس لكي نقنعهم بضرورة إيجاد حل عادل للمشكلة السورية.
ولكنني اقتنعت بعد 11 سنة بأن موسكو لا تملك الخيارات ولم تقدم أي مشروع للحل سوى تكرار شعارات فارغة حول تطبيق القرارات الدولية انتقلوا بعدها إلى إقحام الناس بموضوع اللجنة الدستورية الفاشل من أصله والذي اعتبر التفافاً واضحاً على القرارات الدولية بخصوص الحل في سوريا مثل قرارات جنيف-1 للعام 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 للعام 2015، وأفرغها من محتواها لكسب الوقت للنظام وحلفائه.
ومنذ أيام التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بوفد “معارضة سورية خلبية” يمثل منصات ملتبسة تدور في فلك روسيا وليست بعيدة عن النظام، ومنها مسد التي تتبع حزب العمال الكردستاني المعروف بولائه لإيران وقربه من نظام الأسد ودوره المعادي للثورة السورية، وجاء في بيان الخارجية الروسية بأن ميخائيل بوغدانوف استقبل وفداً من المعارضين السوريين، يمثلون جميع المنصات المذكورة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وعدداً من المنظمات والجمعيات الأخرى، مضيفةً أنه جرى تبادل متعمّق لوجهات النظر حول الوضع في سوريا وما حولها، مع التركيز على مهام تعزيز تسوية شاملة. ولا نعرف كيف استنتجت الخارجية الروسية بأن الوفد يمثل جميع المنصات المذكورة في قرار مجلس الأمن؟ ولكن وجود رئيس حركة التجديد برئاسة عبيدة النحاس في الوفد المزعوم، وهو محسوب على الإخوان المسلمين، اعتبرته تمثيلا لكل المعارضة السورية (التي تعتبرها موسكو أنها ذات طابع إسلامي).
وأعلن أحد أعضاء الوفد خالد المحاميد المقرب من موسكو والقاهرة وأبو ظبي، بأن الوفد قدم مشروعاً لبوغدانوف لإجراء مفاوضات مباشرة بين المعارضة “الخلبية” والنظام. وأكد أن الروس موافقون على المشروع وينتظرون رد دمشق، وأن موسكو ترى بأن اللجنة الدستورية انتهى دورها. وبرأيي المتواضع فإن كلام المحاميد جزء من إخراج مسرحي. فالمشروع هو مشروع روسي بامتياز ولكن قدري جميل والمحاميد ومن معهم أعلنوا وكأنهم هم من قدم المشروع. وبمتابعة التطورات السياسية وكل ما يقال حول ضرورة الحل السياسي يمكن ملاحظة ما يلي:
إن المشاريع الروسية المختلفة من المطالبة سابقاً في ضم مسد وأخواتها إلى المفاوضات في جنيف كممثلين عن الكرد وصلت اليوم إلى شكلها الواضح في تركيبة وفد مزعوم للمعارضة مكون من منصات ملتبسة ومن أشباه معارضات بدأت علنا تروج لمشاريع روسية أسدية.
والمرحلة الثانية في الموقف الروسي هي اقتراح تشكيل لجنة الإصلاح الدستوري في مؤتمر سوتشي 2018، الذي ادعى منظموه زورا بأنه للحوار السوري – السوري، علماً أن المشاركين فيه عمليا كلهم يدورون في فلك النظام. فعن أي حوار وطني سوري يمكن الحديث؟!
واليوم تخرج روسيا على لسان أتباعها من المنصات الوهمية بمشروع جديد يقضي بانتهاء عمل اللجنة الدستورية والبدء بمفاوضات مباشرة في دمشق بحماية روسية. وهذه الفكرة طرحها في جنيف أحد زملاء قدري جميل في منصة موسكو منذ سنوات وقال حينها بضرورة نقل المفاوضات إلى دمشق وتم فصله من هيئة التفاوض (يبدو أن منصة موسكو ملتبسة بكاملها وترى أن دمشق مكان آمن لحوار مستقل وشفاف بعيد عن سيطرة القوى الخارجية. ولكنهم نسوا تأثير مخابرات النظام).
وهنا يبرز تساؤل مهم: هل فعلاً هناك تناقض في المشاريع الروسية والأسدية؟
هل النظام يفكر بعقله ويقرر فيما إذا كان الطرح الروسي مناسبا أم لا؟ وما هي آلية التنسيق الروسي السوري والدور الإيراني في ذلك؟
بتقديري أن موسكو تتبع آليات عمل أمنية بحتة ويتم إخراجها بغلاف سياسي، ولا علاقة للقوى السياسية والمنصات والنظام السوري بذلك. ولذلك لا نستغرب كيف تلقى المواقف الروسية في سوريا في البداية رفضاً من بعض الدول والقوى ثم يجمع الكل على تأييد تلك المواقف. فهل هذا صدفة أم هو نتيجة قدرة روسيا في التأثير في الساحة الدولية والإقليمية، أم هو تفاهمات كبرى حددت الأطر الجيوسياسية والاستراتيجية وكل لاعب يعمل في الكوريدور المسموح له. وبالرغم من أن هناك صراعا جيوسياسيا جديا بين روسيا والغرب في أوكرانيا، فإن هناك تفاهمات دولية حول سوريا مرتبطة باتفاق الجميع على حماية آمن إسرائيل.
وهنا نتساءل أيضا كيف تقوم أميركا برعاية ودعم قسد الموالية للنظام وإيران، بينما تتعهد موسكو في مباحثاتها مع أنقرة حول إخراج قسد من المناطق الحدودية لتركيا؟ في وقت تصرح موسكو ليلا نهارا بأن الوجود الأميركي غير شرعي وأن أميركا تدعم الانفصاليين أي قسد، وأن أميركا وقسد تنهبان الثروات النفطية في سوريا، والأميركان ساكتون عن علاقات قسد بالروس والنظام، لا بل يشجعونهما على الحوار.
كل ذلك هي أمور متداخلة ومتشعبة وتبدو للمتابع العادي على أنها صراع كبير جيوسياسي وجيواستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة ومعهم الدول الإقليمية في سوريا، لكن الحقيقة هناك تكامل بالأدوار الدولية والإقليمية. أما الصراعات التي نشهدها يوميا فهي على زيادة المكاسب الخاصة وليست حول مسار التطور السياسي أو الحل السياسي في سوريا. فسوريا أصبحت ساحة صراع وبلد مستباح للجميع بفضل نظام سافل باع البلاد بشكل مباشر لإيران وروسيا، وكان السبب في دخول أميركا وتركيا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا.
ولا ننسى أن التطورات الأخيرة في الموقف السياسي التركي تصب في هذا الاتجاه الروسي. فاليوم تركيا تنتقد النظام بدبلوماسية وتعبر عن دعمها للمعارضة، ولكن الوقائع تقول إن هناك اتصالات أمنية مكثفة بين أنقرة ودمشق تجهز لاتصالات سياسية وقد يتبعها خطوات عملية باتجاه المصالحة على حساب الثورة السورية.
وماذا بعد؟
يفكر العديد من النخب السورية والناشطين والثوار بالمخرج من هذا الواقع المأساوي، الذي يساهم في استمراره وجود هياكل معارضة رسمية فاشلة وهزيلة.
وأنا على قناعة بأنه لا طريق أمام السوريين الأحرار سوى الاعتماد على النفس والابتعاد عن أي وصاية خارجية مهما كان نوعها. فاستقلالية القرار الوطني السوري مهمة تاريخية كبرى أمام السوريين. ويمكن تحقيق ذلك بعد إيجاد جسم سياسي عريض مستقل له أجندة وطنية سورية وله قيادة من الشخصيات النزيهة المستقلة ذات السمعة الوطنية، ليمثلوا مصلحة كل السوريين.
ولذلك يجب السير خطوة أولى، نحو ذلك المشروع الكبير، بالتنسيق والتعاون مع كل الوطنيين سواء أفرادا أم جماعات والعودة للحاضنة الشعبية الثورية التي قامت بالثورة، والكف عن المماحكات السياسية والنقاشات البيزنطية التي لا تغني ولا تسمن بل تطيل أمد المأساة. فشعبنا يعاني الأمرين من انتشار الجوع والمرض وانعدام الأمن وتجارة المخدرات التي يرعاها نظام الأسد ونظام الملالي وحزب الشيطان، والتي تؤدي إلى تدمير شباب سوريا وتهدد مستقبل البلاد لعقود قادمة.
ولا بد من تذكير القائمين على الأنظمة العربية والشعوب العربية بأن سوريا والشعب السوري يضحون ويجابهون مشروعاً إيرانياً يتقاطع مع المشروع الصهيوني الأميركي، يريد جعل سوريا مرتعاً للفوضى والمخدرات والقتل وانعدام الأمن، ونشهد النتائج الخطيرة لذلك وهي هجرة آلاف الشباب بشكل يومي من كل أنحاء سوريا إلى الخارج، أي أن هناك حربا ديموغرافية يقودها الأسد وحلفاؤه وأميركا وإسرائيل وقسد ومسد الانفصاليون لإفراغ سوريا من قدراتها البشرية. فأين العرب من كل ذلك؟
أين مشروع الأمن القومي العربي الذي يجابه المشروع الاستعماري الجديد بوجهيه الإيراني والصهيوني تشارك فيه شاءت أم أبت قوى دولية وإقليمية بحثا عن أجنداتها الخاصة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا