فتحي الديب رجل عبد الناصر الغامض

سعيد الشحات

“.. فتحي الديب رجل عبد الناصر الغامض في الثورات العربية يستدعيني لزيارته.. وفى بيته قال لي: “الريس جمال بقى يجي لي كتير آخرها ليلة امبارح.. وأحمد بن بيلا ديما قاعد معايا..انت مش كنت عاوز نكمل الحوار خلينا نكمله”
طلبني الأستاذ فتحي الديب تليفونا، ودعاني أن أذهب إليه لأمر هام بعد انتهاء عملي في مكتب جريدة البيان الإماراتية.
استجبت لطلبه دون تردد وفي الساعة السادسة مساء أحد أيام شهر ديسمبر عام 2002، ذهبت إليه في شقته بمصر الجديدة التي كان يسكنها وحيدا مع السيدة الفاضلة الطيبة زوجته، كانا بلا أولاد، لكنه كان يعتبر أن له أبناء في طوال الوطن العربي وعرضه من الذين قادوا الثورات العربية التي تفجرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكان هو رجل جمال عبد الناصر السري فيها.
لم تكن هذه الزيارة هي الأولي لي منذ أن عرفته بفضل الأستاذين الكبيرين، تلميذه الوفي محمد الخولي الكاتب المرموق وكبير مترجمي الأمم المتحدة، وجلال عارف مدير “مكتب البيان” في القاهرة ونقيب الصحفيين الأسبق وكنت أنا نائبه في المكتب..كانت زيارتي الأولي بعد أن تدخلا الأستاذين لنشر كتابه “عبد الناصر وعرب المهجر” حلقات في جريدة “البيان”، قبل طبعه في “دار المستقبل العربي” لصاحبها محمد فائق رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان ،وزميله في رحلة العمل الوطني والقومي”السري” أيام عبد الناصر، وكانت قصة إصدار هذا الكتاب تؤرقه بعد اختلافه مع الكاتب الصحفي الأستاذ عادل حمودة الذي كان سيطبعه في دار نشر “الفرسان” التي يمتلكها..كان ضمن أسباب تدخلهما ، محاولة الوقوف مع الرجل، في ظروف مادية كانت صعبة.
اقترح الأستاذان “الخولي” و”عارف” عليِ أن أذهب إليه لعمل حوار تمهيدي ينشر في “البيان” قبل نشر الحلقات، فسعدت بهذه المبادرة التي ستعرفني بهذا “الغامض” الذي كان مصدر ثقة عبد الناصر، وكانت أدواره معه شديدة السرية، وكان ضمن ثمانية أشخاص أسسوا جهاز المخابرات المصرية بقيادة زكريا محيي الدين عام 1953 ،وأسس إذاعة صوت العرب التي أطلقت بثها يوم 4 يوليو 1953، وكانت قصته الخالدة مع الثورة الجزائرية حيث كان مهندس الاتصال بين قادتها وجمال عبد الناصر، وكان طرفا في خطة بدء كفاحها المسلح يوم 1 نوفمبر 1954 بالتنسيق مع الزعيم الجزائري أحمد بن بيلا، وكذلك أدواره السرية مع المعارضة الإيرانية ضد حكم شاه إيران، ودوره السري في دعم دول الخليج للتحرر من الاستعمار البريطاني، ومع ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا عام 1969، ودوره في ثورة اليمن، ودوره في مسألة شديدة الغموض والسرية وهي ربط عرب المهجر في أمريكا اللاتينية مع ثورة 23 يوليو 1952، وأخيرا اسناد عبد الناصر له مهمة تأسيس تنظيم “الطليعة العربية”.
بالطبع فإن هذا “التاريخ السري” للرجل عكس نفسه في تصورات عندي حول طبيعة شخصيته وأنا أستعد للذهاب إليه في المرة الأولي، فبالرغم من صدور كتب له ،أشهرها “عبد الناصر وثورة الجزائر” إلا أنه كان من الملفت أن صوره الشخصية شحيحة في الأرشيف الصحفي، وظهوره الإعلامي غير موجود، غير أنه وبعد استقباله الحميمي، جعلني أشعر كما لوكنت أعرفه من سنوات، أو أنني واحد ممن كانوا من رجاله في معاركه.
كانت شقته بسيطة لكنها أنيقة،وكان يحتفظ في صالونها بجهاز تسجيل كبير الحجم، وعلي الحائط صورة كبيرة لجمال عبد الناصر، وحين لاحظ تأملي لجهاز التسجيل..قال لي:”الجهاز ده تاريخه معايا..كان هو أداتي في مهامي السرية، علشان كده محتفظ به”..ثم أشار إلي أركان الصالون:”هنا كان يجلس جمال عبد الناصر، وهنا كان أحمد بن بيلا وقادة الثورة الجزائرية، وهنا كان يجلس معمر القذافي، وهنا كان يجلس الجماعة بتوع إيران ومنهم إبراهيم يزدي “أول وزير خارجية لإيران بعد ثورة الخميني”، وكان يجلس بتوع الخليج، وفلسطين، وغيره وغيره..الشقة اللي قصدنا أخذتها لأحمد بن بيلا”.
نشرت الحوار في جريدتي البيان و”العربي”، مع تغييرات في الجريدتين..ففي”البيان” ،كشف عن قصته الغامضة في أمريكا اللاتينية حيث قضي فيها مايزيد عن شهر ونصف، بدءا من يونيو 1959 للقاء عرب المهجر في، المكسيك والبرازيل والأرجنتين وشيلي وبيرو وأروجواي..وفي”بنما” وبعد أن زارها حدثت محاولة تحرير “قناة بنما” من سيطرة الأمريكيين، وعرف الخبر من صحيفتي”هيرالد تربيون”و”نيوزويك الأمريكية” وهو في الطائرة الأمريكية “T.W.A”عائدا من البرازيل إلي القاهرة يوم 6 أغسطس 1959، وقالت الصحيفتان،أن السلطات الأمريكية اكتشفت وجود جاسوس لعبدالناصر مكث عدة أيام فى بنما لهذا الغرض.
أما في جريدة “العربي”فتحدث عن شخصيات عرفها الجمهور في مسلسل رأفت الهجان مثل”رأفت الهجان” و”محمد نسيم “نديم قلب الأسد” و”محسن عبد الخالق “محسن ممتاز” وكشف عن قصة تكليف عبد الناصر له تأسيس تنظيم الطليعة العربية” وإعداده للمشروع في 800 صفحة ، ودور الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين فيه، وتحدث عنه بمحبة صافية، قائلا :”أحمد كان أمانة وصدق وعقل راجح، أعرض عليه أي أمر فيدلي بدلوه الصائب، هو الوحيد الذي كان يوجد لديه مسودة من مذكراتي وتاريخي كله، وحين توفي حدثتني السيدة الفاضلة زوجته.. قالت لي: توجد أوراق خاصة بك، قلت له هذه ذكري مني لأحمد، وأنا اعتبره حيا..كان الرئيس عبد الناصر يقدره كل تقدير، ولايسمح لأحد أن يوقع به أمامه”
تواصلت علاقتي به وتعمقت.. كانت أبوية منه، وكنت شديد الحرص عليها، وطوال وجودي في مكتب البيان وحتي مرضه الأخير ورحيله يوم 7 فبراير عام 2003 لم تنقطع الاتصالات بيننا، ويتخللها زياراتي إليه، واستماعي لشكاويه المتكررة من ضعف نظره وتردده علي الأطباء، واطلاعي علي الكثير من اهتماماته ومنها “شجرة عائلة الديب في أنحاء الجمهورية”، وإصراره علي رفض وساطتي لإجراء حوار مع المذيع اللبناني”سامي كليب” ضمن برنامجه “زيارة خاصة” علي فضائية الجزيرة، وكان صديقي الصحفي محمد سليمان فايد مصور البرنامج هو الذي طلب وساطتي عنده، وكان رده النبؤة:”الجزيرة دي عميلة..الواد الأصفراوي ده اللي اسمه أحمد منصور بيهاجم جمال عبد الناصرعلي طول”.
حين ذهبت إليه بعد أن دعاني في نهايات عام 2002 فوجئت به يقول لي :”أنا الأيام دي بشوف حاجات غريبة، حبيبي وأستاذي جمال عبد الناصر بيجي لي كل شوية ويكلمني، آخرها كان ليلة امبارح، وبيتهيأ كتير لي أن أحمد بن بيلا ماشي معايا..انت كنت ديما تطلب حوار جديد فيه حاجات غير اللي اتكلمنا فيها في الحوار القديم، إيه رأيك نعمله دلوقتي”..قلت له:”حالا”.
وبدأنا الحوار الذي كشف فيه عن أسرار كثيرة، منها، إن لديه أكثر من 30 جواز سفر، سافر بهم في مهامه السرية للدول العربية..كل جواز يحمل اسما مختلفا ومهنة مختلفة..قال:”سافرت إلي سوريا في ديسمبر 1953 وبقيت فيها سرا ثلاثة أسابيع..ذهبت إلي حمص، ومنها إلي حماة ، وكان اعتمادي علي مدرس مصري هناك، وانتقلت إلي حلب وبواسطة خبير مصري معار لزراعة القطن عرفت كل كبيرة وصغيرة عن حلب..كان يقدمني إلي الناس علي أنني ابن خالته، وذهبت إلي اللاذقية، أما في لبنان فكنت بوظيفة حامل لحقيبة دبلوماسية، وفي العراق سافرت علي أنني باحث في وزارة الخارجية وموفد لمتابعة تقارير السفارات، وتعاملت في بغداد مع أستاذ جامعي مصري كان يعمل في احدي جامعاتها، وعن طريقه كنت أتنقل وأقضي سهراتي وأقابل من أريد بعيدا عن عيون أجهزة نوري السعيد رئيس الوزراء ، وفي اليمن ذهبت في أوائل أكتوبر 1953 تحت اسم “محمد مبروك” مفتش بوزارة الخارجية”.
نشرت الحوار علي حلقات في شهر يناير 2003، وبعد شهر بالضبط توفي يوم 7 فبراير

 المصدر: اليوم السابع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى