ليست مفاجأة أن تكون الاستدارة التركية هذه المرة نحو النظام السوري، فهي حلقة جديدة ضمن سلسلة من المتغيرات التي رانت على مواقف أنقرة. البعض سماها سياسة تصفير المشاكل، فيما اعتبرها آخرون امتدادا في مسار التحولات السياسية والميدانية، سواء من جهة تعميق التحالف مع روسيا وإيران، أو من جهة العبء الكبير الذي يشكله الوضع الداخلي السوري على تركيا، والذي يضغط في لحظة سياسية مهمة، ألا وهي اقتراب الاستحقاق الانتخابي في العام المقبل.
ومع أن التصريحات الصادرة من أنقرة هذه الأيام، حول الاتصالات مع النظام السوري، وإمكانية إعادة العلاقات معه، ودعم تركيا لفكرة السلام بين دمشق والمعارضة السورية، تبدو كلها خروجا واضحا عن الخط السياسي الذي انتهجته في هذا الملف خلال أكثر من عشر سنوات، لكن أساس هذا التوجه لم تُوضع لبناته الآن، فقبل بضعة أشهر أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على التصريحات التي ذكرها المستشار إبراهيم كالن قبل عامين، عندما قال إن هناك تواصلا مع دمشق عبر القنوات الاستخباراتية بين البلدين، تلاه تصريح لوزير الخارجية التركي تحدث فيه عن لقاء جرى بينه وبين وزير الخارجية السوري قبل عام من الآن، وحديث عابر بينهما على هامش مؤتمر عدم الانحياز، قبل فترة قصيرة. وأخيرا تصريحات للرئيس التركي نفسه يقول فيها، ألا أطماع لبلاده في الأراضي السورية، وأنه لا يستبعد إجراء حوار مباشر من الحكومة السورية.
يبدو واضحا أن هذه المواقف التركية هي نتاج لمنظومة أستانة، التي تشكلت لرعاية مصالح الأطراف الرئيسية المتحاربة في سوريا وهي، تركيا وإيران وروسيا، حيث إن الحرب في سوريا كانت تجري بين أطراف تدعمها تركيا سياسيا وعسكريا وماليا وإعلاميا، وأخرى تدعمها كل من روسيا وإيران سياسيا وعسكريا وماليا أيضا. ومنذ أن شاركت تركيا في أستانة، كانت النتائج على الأرض سقوط حلب بيد النظام السوري وتلتها مناطق أخرى، واليوم يبدو أن هنالك تطورات أتت وأخرى ستأتي بعد قمة طهران بين بوتين وأردوغان ورئيسي، وكذلك بعد قمة سوتشي بين الرئيسين الروسي والتركي، حيث تبدو هنالك مؤشرات على إمكانية حصول حديث هاتفي بين الرئيس التركي ورئيس النظام السوري في الأيام المقبلة، فبعد اللقاء الأخير في سوتشي، ذكر الرئيس أردوغان أن بوتين طلب منه التعاون مع النظام السوري، ويبدو واضحا أنه كان هنالك إصرار تركي على روسيا في قمة سوتشي، باتجاه تنفيذ العملية التركية التي وعدت بها أنقرة في الشمال السوري. في المقابل كان هنالك مقترح روسي لتركيا، في التحرك لتطبيع العلاقات مع دمشق، كحل أفضل من العملية العسكرية. وقد سبق ذلك قيام موسكو بدفع كل من الأكراد والنظام السوري للتعاون العسكري في ما بينهما، في سبيل كبح جماح أنقرة من القيام بالعملية العسكرية. ويبدو أن هذه الخطوة نالت مباركة واستحسان واشنطن أيضا. السؤال الآن هو، هل من السهل على تركيا أن تذهب إلى مصالحة مباشرة مع النظام السوري؟
إن التغيرات في السياسة الخارجية التركية لم تقتصر على الملف السوري فقط، بل شملت عدداً كبيراً من الدول، ومتابعة هذه التغيرات تشير إلى أنه منذ عام ونصف العام من الآن، بدا أن هناك سلوكاً سياسياً تركياً مختلفاً عن سابقاته، شمل مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل والاتحاد الأوروبي وأمريكا أيضاً، لكن التأخر في الانفتاح على الملف السوري كان بسبب مراهنات على حلول أخرى، بدلا من التطبيع مع نظام الأسد، منها القيام بعملية عسكرية في الشمال السوري، وتوسيع المنطقة الآمنة كي تستوعب مليون لاجئ سوري، لكن تعذر حصول موافقة الأطراف الدولية والإقليمية الموجودة على الأرض السورية على العملية، دفع تركيا للقبول بالضغوطات الروسية والإيرانية بالانفتاح على النظام السوري. وقد بدا المؤشر على ذلك واضحا عندما زار وزير الخارجية الإيراني قبل قمة طهران كلا من دمشق وأنقرة، وتحدث بصورة مبهمة عن سلام ما. لكن وجود وزير الخارجية السوري في إيران أثناء انعقاد قمة طهران بدا وكأنه ليس مصادفة، ثم حصل التطور في قمة سوتشي بين أردوغان وبوتين، التي طلب فيها الأخير من الرئيس التركي فتح الحوار مع النظام السوري، ومع كل ذلك فإن حصول تطبيع كامل بين دمشق وأنقرة ليس بالأمر السهل في الوقت الحالي. قد يبدو ما يسمى مكافحة الإرهاب هو القاسم المشترك بين الطرفين، وكذلك إبعاد الوحدات الكردية عن الحدود، وقد تحدث وزير الخارجية التركي عن إمكانية دعم النظام في ما يتعلق بمحاربة (قسد)، لكن اختلاف الأهداف بين الطرفين قد يقضي على أي أمل بالانفتاح السريع. أنقرة تريد ضمان وقف عمليات حزب العمال الكردستاني، تسهيلا لإعادة مليون لاجئ سوري في غضون الأشهر المقبلة. ودمشق تريد استعادة سيطرتها على شمال سوريا، وهذا يتطلب انسحاب الأتراك وتقليص دعمهم للمعارضة السورية. فهل يدخل العامل الانتخابي في قرار الانفتاح التركي على النظام السوري؟ يذهب البعض إلى جعل الانتخابات التركية في العام المقبل هي أساس بوادر التطبيع من قبل أنقرة. صحيح أن النقطة الأهم بعد عام 2019 كانت الانتخابات المحلية التركية، التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية بلديات كبرى ومهمة مثل إسطنبول وأزمير وغيرها، ما دفع الحزب للتفكير بشكل جدي لإيجاد حل للملف السوري، لكن الحقيقة هي أبعد من مسألة الانتخابات ووجود اللاجئين السوريين، هي قرار سياسي تركي بإعادة التموضع في الملفات الأساسية في المنطقة، كما أن أنقرة بدأت تعتقد أن روسيا وإيران يمكن أن يقدما لها ما يساعدها في ملف الاقتصاد، وكذلك في موضوع الإرهاب من خلال توسيع المنطقة الآمنة في الشمال السوري، من دون عملية عسكرية. أيضا يدخل في هذا الجانب رغبة أردوغان في تلبية ما يريده بوتين بتطبيع أولي مع النظام السوري، عله يقطف بعض ثمار موقفه المزدوج في الحرب الأوكرانية، بين روسيا من جهة والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرى، بعد أن لم تتحقق رغبته في العملية العسكرية في الشمال السوري.
يقينا لقد خسرت المعارضة السورية أكبر داعميها، وإذا كانت الكيانات الرسمية لهذه المعارضة، التي دربتها وسلحتها أنقرة، مثل المجلس الوطني السوري، والجيش الوطني السوري، ما زالوا يؤكدون أن مصيرهم مرتبط بالمصير التركي، فالأكيد أن حسابات أنقرة ليست مرتبطة مصيريا بمصير المعارضة السورية. كما يبدو أنه في الوقت الذي تأخذ فيه موسكو قرارات بالنيابة عن النظام السوري، فإن أنقرة تأخذ قرارات بالنيابة عن المعارضة السورية، وتقول إنها قدمت الدعم الكامل لهم ولهيئة التفاوض، لكنها اليوم تؤكد أن المسار السياسي لا يشهد تقدما، بسبب ما وصفته بمماطلة النظام السوري، حسب بيان الخارجية التركية، الذي جاء في رد فعل على التظاهرات التي خرجت في الشمال السوري مستنكرة دعوة تركيا للمصالحة بين النظام والمعارضة، لكن العبرة في التطبيق وليس في اتخاذ القرارات. فالنظام السوري يريد مصالحة مجانية من دون أن يقدم أي شيء للمعارضة، حتى مسألة الانتقال السياسي ضربها عرض الحائط.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
المصدر: القدس العربي