علمت القوة العظمى المنفردة -عن غير قصد- بقية العالم كيفية محاربتها – والفوز.
* * *
مع بزوغ فجر صباح يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كانت الولايات المتحدة تعتبر فعليا قوة غير قابلة للتحدي. لم تكن القوة العظمى الوحيدة التي بقيت على المسرح العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل عقد من الزمان فحسب، بل أصبحت الولايات المتحدة، إذا كان ثمة شيء، أكثر هيمنة حتى مما كانت عليه مقارنة ببقية العالم. كانت روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي قد اختزلت إلى اقتصاد أصغر من اقتصاد البرتغال. وكانت أوروبا مركزة على الداخل وتتشاجر حول الاتحاد النقدي. وكان الاقتصاد الياباني الذي كان صاعدا ذات مرة قد كف عن الصعود. وكانت الصين ما تزال مجرد نمر صاعد. وكتب المؤرخ في جامعة ييل، بول كينيدي Paul Kennedy، أن الإمبراطورية الرومانية في أوج قوتها لم ترق إلى مستوى الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية على العالم التي بلغتها الولايات المتحدة في ذلك الوقت. في كتابه الشهير الذي صدر في العام 1987 بعنوان “صعود وسقوط القوى العظمى” The Rise and Fall of the Great Powers، كان كينيدي قد أعلن أن الولايات المتحدة في حالة تدهور، لكنه غير رأيه مع بداية القرن الجديد، وكتب: “لم يكن هناك أي شيء أبدا بمثل هذا التفاوت في القوة. لا شيء”.
على الرغم من الصدمة الرهيبة التي جلبها ما حدث في وقت لاحق من ذلك الصباح -أسوأ هجوم على الإطلاق يُشن على الأراضي الأميركية- فإن رد واشنطن خلال الشهرين المقبلين أعاد فقط تأكيد هيمنة الولايات المتحدة. بعد أن رفضت طالبان تسليم الجاني وراء أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تنظيم القاعدة، قامت الولايات المتحدة بمهاجمة أفغانستان -وإنما بطريقة جديدة حيرت المتشددين تماما. مسلحين بنظام تحديد المواقع العالمي، (GPS)، ومعدات استهداف بالليزر يمكن من خلالها “رسم” قوات طالبان على الأرض، وجهت حفنة من ضباط وكالة المخابرات المركزية وقوات العمليات الخاصة قنابل ذكية قوية موجهة، تمكنت من تدمير قوات طالبان. واندفع الناجون إلى الجبال. وركض هارباً معهم مؤسس تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، وإرهابيوه، الذين فروا جميعا إلى معقلهم الجبلي في “تورا بورا”. ومع انغلاق الأنشوطة على هؤلاء، بدا لبعض المسؤولين الأميركيين أن “الحرب على الإرهاب” الوليدة ربحت تقريبا.
وكما أخبرني غاري بيرنتسن Gary Berntsen، ضابط وكالة المخابرات المركزية المسؤول عن العملية، في مقابلة لاحقا -وسجله في كتابه الصادر في العام 2005، “المهدة: الهجوم على بن لادن والقاعدة” Jawbreaker: The Attack on bin Laden and al-Qaeda -سُمع بن لادن في اللاسلكي وهو يطلب من أتباعه أن يغفروا له. وأرسل بيرنتسن بسرعة رسالة إلى واشنطن يطلب فيها المزيد من القوات، وقال فيها: “دعونا نقتل هذا الطفل في مهده”. وقال بيرنتسن أنه في غضون أشهر قليلة، “كان من الممكن أن نطبق على هيكل قيادة القاعدة بأكمله”.
كان عندئذ حين بدأت الأمور تسوء بشكل رهيب بالنسبة لواشنطن.
بحسب ما ذُكر، طلب بن لادن المختبئ في الجبال من مقاتليه أن يصلوا -ولكن بالنسبة له، على الأقل، حدث نوع من المعجزة. رفض البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية، منصرفي الذهن إلى خططهما لغزو العراق ومصممين على الاحتفاظ بمجرد “بصمة صغيرة” في أفغانستان، السماح للقوات الأميركية بالاندفاع لمحاصرة إرهابيي القاعدة العالقين، في ما كتب الخبير في الشأن الأفغاني، بيتر بيرغن Peter Bergen، لاحقا أنه كان “واحدا من الأخطاء العسكرية الأكثر فداحة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث”. وعندئذ، تمكن ابن لادن من الفرار إلى باكستان، واختفى لما يقرب من 10 سنوات.
ثم جاء التحول الكارثي الذي أحدثه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش نحو العراق، والذي ترك أفغانستان مفتوحة على مصراعيها أمام عودة لطالبان. وأثبت احتلال العراق، وقد أصبحت القوات الأميركية الآن مكشوفة على الأرض، أنه برنامج تعليمي استكشافي للجهاديين في نوع جديد من الحرب غير المتكافئة ضد قوة عظمى مفرطة في التمدد، تشنها مجموعات متشددة مسلحة أصغر حجما وأكثر قدرة على التخفي والتسلل، مستخدمة أسلحة جديدة مثل العبوات الناسفة التي كشفت عن أسوأ نقاط ضعف الولايات المتحدة. وبعد ذلك انتشرت العديد من هذه التكتيكات من العراق إلى أفغانستان. وفي نهاية المطاف، جددت حركة طالبان نفسها في الفراغ الذي تركه الأميركيون المنشغلون في أماكن أخرى، واستخدمت أساليب حرب العصابات غير المتكافئة هذه في سبيل تحقيق هدف استراتيجي طويل الأجل هو الصمود في وجه واشنطن والبقاء بعدها.
أخيرا، في 31 آب (أغسطس) 2021، طردت حركة طالبان المنبعثة من جديد الولايات المتحدة إلى خارج البلاد جملة وتفصيلا. وترك استيلاء المسلحين المذهل على السلطة الذي استمر 10 أيام واشنطن وهي تعاني من الإذلال. وكما أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، في خطاب ألقاه في ذلك اليوم، فإنه استقر على “إنهاء حقبة من العمليات العسكرية الكبرى التي هدفت إلى إعادة تشكيل دول أخرى”. ويشمل هذا النهج الجديد الآن الشرق الأوسط بأكمله: في أواخر تموز (يوليو)، أعلن بايدن أيضا أن الجيش الأميركي سينتقل إلى دور تدريبي في العراق بحلول نهاية العام، استعدادًا للمغادرة، على ما يبدو.
ونتيجة لذلك، لا أحد يحتفل بالذكرى العشرين لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) الآن أكثر من المتشددين الإسلاميين في جميع أنحاء العالم. لم يتمكن أربعة من رؤساء الولايات المتحدة -جورج دبليو بوش، وباراك أوباما، ودونالد ترامب، والآن جو بايدن- من هزيمة طالبان، وهي قوة قيل إنها لا تتجاوز 75 ألف شخص فقط. بعد أن سئموا من الصراع، كان آخر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة عاكفين بقوة على سياسة الانسحاب من آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وكان هذا هو الهدف الرئيسي لتنظيم القاعدة منذ البداية، بداية من ابن لادن، الذي قال إنه يسعى إلى طرد “الصليبيين” من المنطقة. وسوف يتجاوز الاحتفال الإسلامي إلى حد بعيد رشقات رصاص البنادق التي أطلقتها طالبان في الهواء في 31 آب (أغسطس).
وكما قال خبير مكافحة التمرد، ديفيد كيلكولن David Kilcullen، فإن “كل جماعة جهادية على ظهر هذا الكوكب حصلت على طاقة ونشاط هائلين من حقيقة أن هذه المجموعة الصغيرة، طالبان، تفوقت على الولايات المتحدة الكافرة”.
لم يتعامل بايدن وفريقه حقا مع هذا الواقع النفسي الكئيب الجديد. ومن الواضح أن مصداقية بايدن في جميع أنحاء العالم قد تلقت ضربة خطيرة، على الرغم من أنه يبدو أنه ينكر ذلك. وبينما أكد مرة تلو المرة أنه كان على حق في المغادرة كما فعل، ذهب الرئيس إلى تصوير الجسر الجوي الذي استمر أسبوعين لإخلاء نحو 120 ألف شخص من أفغانستان على أنه نوع من الانتصار بدلا من كونه تراجعا مفاجئا. وتفاخر بايدن في خطابه الذي ألقاه في 31 آب (أغسطس) بالقول: “لا توجد أمة، ليست هناك أمة فعلت شيئا مثل هذا في كل التاريخ”. وأضاف أن الوقت قد حان لأن تنتقل الولايات المتحدة إلى تحديات جديدة: “نحن منخرطون في منافسة جادة مع الصين. نحن نتعامل مع التحديات على جبهات متعددة مع روسيا. ونحن نواجه هجمات إلكترونية وانتشارا نوويا”.
وهذا صحيح وحقيقي بما يكف. لكن المفارقة النهائية قد تكون أنه مهما كانت رغبة بايدن في المضي قدما، فإن الولايات المتحدة الآن أقرب إلى العودة إلى المربع الأول: مواجهة أفغانستان تغص بالجهاديين وحركة طالبان مكتسبة جرأة جديدة تدير البلاد، تماما كما كان الوضع سائدا في صباح يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001. والفار الأكبر: لم تعد الولايات المتحدة تلك القوة العظمى المذهلة التي كانتها في السابق. وسيسعى آخرون، وليس الجهاديون فقط، إلى الاستفادة من ذلك -ولا سيما الصين وروسيا.
يقول كيلكولن Kilcullen، مؤلف الكتاب الذي صدر في العام 2020 بعنوان “التنانين والأفاعي: كيف يتعلم البقية محاربة الغرب”The Dragons and the Snakes: How the Rest Learn to Fight the West، وهو فحص هائل لخسارة الولايات المتحدة قوتها النسبية في العقود الأخيرة: “إن تأثير ذلك على سمعتنا وقدرتنا على حشد الحلفاء للقضايا المستقبلية كبير للغاية فقط. في المستقبل المنظور، في أي وقت يقول فيه الأميركيون لأحد ما: “افعل ما نريد، أو سنستهدفك بجيشنا”، سيكون الرد: “أي جيش؟ تقصدون ذلك الذي خسرتم به الحرب للتو مع طالبان””؟
يمكن لبايدن وجهاز الأمن القومي الأميركي ادعاء تحقيق بعض الانتصارات الكبرى على مدار العشرين عاما الماضية. قُتل ابن لادن في النهاية بعملية أميركية، وكذلك أبو مصعب الزرقاوي، الزعيم الأصلي لتنظيم القاعدة في العراق، وأبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وسورية” (داعش). وبالإضافة إلى ذلك، لم تتعرض الولايات المتحدة لأي هجوم من الخارج منذ 11 أيلول (سبتمبر). وقد أصبح تنظيما القاعدة و”داعش”، اللذان أهلكتهما الضربات الأميركية لقيادتهما، مجرد صدفتين فارغتين من نفسيها السابقتين- في الوقت الحالي. كما أن الولايات المتحدة، التي ما تزال القوة العسكرية والاقتصادية المهيمنة في العالم، ليست على وشك سحب قواتها من القواعد الأمامية الرئيسية مثل تلك الموجودة في ألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية (بالإضافة إلى الكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والبحرين). ويقول العديد من الدبلوماسيين وخبراء الأمن أن بايدن، برفضه فكرة أن الولايات المتحدة تستطيع احتلال الأراضي الأجنبية وتحويلها، محق في إعلان تحول استراتيجي رئيسي بعيدا عن الإفراط في استخدام القوة العسكرية.
ويقول إيرل أنتوني واين Earl Anthony Wayne، سفير الولايات المتحدة السابق الذي يتمتع بخبرة واسعة في أفغانستان: “جزء مما فهمناه خطأ كان التفكير في أننا نستطيع فعل الكثير بقوتنا الصلبة. هناك مكان معين لاستخدام القوة الصارمة ضد أهداف صلبة محددة تقوم بأنشطة إرهابية. يمكن أن يكون هذا ذا قيمة. ما حدث هو أننا حاولنا استخدام هذه القوة الصلبة على نطاق واسع، معتقدين أنها يمكن أن تساعدنا في تغيير دول بأكملها، وفي هذه العملية، ارتكبنا أخطاء جسيمة خلقت في الحقيقة المزيد من الإرهابيين الجدد”.
في الواقع، يقول خبراء السياسة الخارجية إن الشيء الجيد الوحيد الذي ظهر خلال العشرين عامًا الماضية هو أن واشنطن تعلمت دروسًا جديدة قيمة حول مخاطر التمدد العسكري المفرط، وهي دروس تذكر بإذلال سابق تعرضت له أميركا: فيتنام. والقاسم المشترك الذي يربط بين فيتنام والعراق وأفغانستان هو أن حركات التمرد القومية -سواء كانت الفييت كونغ، أو طالبان أو الجهاديين العراقيين – ستكون نمطياً قادرة على الصبر والديمومة حتى بعد المحتل الأجنبي. كان الزعيم الفيتنامي السابق هوشي منه قد قال: “سوف تقتلون عشرة منا، وسنقتل واحداً منكم، وفي النهاية، سوف تُستهلكون”. وقد أحب الطالبان أن يقولو: “لديكم ساعات اليد، لكن لدينا الوقت”. كانت الرسالة هي نفسها، والدرس -وهو أنه لا ينبغي على الولايات المتحدة “البحث عن الوحوش لتدميرها”، على حد تعبير الرئيس الأميركي السابق جون كوينسي آدامز- هو درس أراد أن يبيعه على الشعب الأميركي الآن رئيسان مختلفان تماما، ترامب وبايدن. وإذا ظل الدرس مستفادا، فإنه قد يثبط هذا النوع من الثقة المفرطة التي أدت إلى غزو العراق وسياسة أفغانستان الفاشلة لمكافحة التمرد ، والتي كان المسؤولون الأميركيون يكيلون لها الثناء لسنوات ويعرضونها على أنها أكثر نجاحًا مما كانت عليه حقاً.
وهو درس اضطرت جميع القوى العظمى إلى تعلمه عودة إلى الإمبراطورية الرومانية، التي واجهت مشاكلها الخاصة في التغلب على حركات التمرد المحلية غير المؤمنة، كما قال إدوارد جيه واتس Edward J. Watts، المؤرخ في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو. وأضاف واتس: “إذا كنت تريد أن تدخل، فعليك أن تكون ملتزمًا بالبقاء هناك لفترة طويلة حقًا أو حتى إلى أجل غير مسمى. هذا هو الدرس الذي لم تتعلمه الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان”.
ومع ذلك، يجب على الولايات المتحدة الآن أن تتعامل مع العواقب. لقد نجح ابن لادن وفريقه الصغير من الأتباع إلى البقاء لفترة طويلة بعد حياة الزعيم الإرهابي عندما يتعلق الأمر بهدفه المتمثل في القتال أعلى بكثير من فئة وزن “القاعدة” -لإرهاق الأميركيين كما فعل المجاهدون ذات مرة مع السوفيات. وفي إحدى الأوراق التي عُثر عليها في مجمع ابن لادن في أبوت آباد بعد مقتله، كتب أن هدفه النهائي هو “تدمير أسطورة المنَعة الأميركية”.
وفي ذلك، كان ناجحًا ببراعة، في ما يرجع بشكل أساسي إلى غطرسة عدوه.
ربما كانت المفارقة النهائية في رد الفعل الأميركي على هجمات 11 أيلول (سبتمبر) هي أن جورج دبليو بوش ومساعديه الصقور -وبشكل أساسي في ذلك الحين، وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، ونائب الرئيس ديك تشيني، كانوا مصممين على إثبات منَعة الولايات المتحدة واستعصائها على القهر بعد 11 أيلول (سبتمبر). لم يتم تقديم أي سبب على الإطلاق لغزو العراق، ولكن كان من الواضح أن القضاء على طالبان في أفغانستان لم يكن كافياً بالنسبة لفريق بوش. ومن خلال العديد من الروايات التي تم نشرها منذ ذلك الحين، أرادت الإدارة أن ترسل إلى العالم رسالة مفادها أن القوة الأميركية تظل مرعبة في حد ذاتها. لم تكن للرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين، أي علاقة بأحداث 11 أيلول (سبتمبر)، لكن الرجل القوي استخُدم كملصق مخيف لشرير من أجل تبرير إستراتيجية جورج دبليو بوش الجديدة: توجيه ضربات “وقائية” ضد الدول التي يُزعم أنها تؤوي إرهابيين.
يقول إيفو دالدر Ivo Daalder، سفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي: “لقد زادت السهولة التي تخلصوا بها من طالبان من إحساسهم بأن ميزتنا التكنولوجية كانت كبيرة جدًا بحيث أننا يمكن أن نقضي على الحكومات من دون أن ندمّر الدول”.
منتفخة بالثقة المفرطة– وقد يقول البعض بالغطرسة- لفقت إدارة بوش قضية واهية (وكاذبة في نهاية المطاف) مفادها أن صدام كان على صلة بتنظيم القاعدة ويمتلك أسلحة دمار شامل. وبعد ذلك، خلافًا لنصائح معظم حلفائه وفي تحد للرأي العام العالمي، غزا جورج دبليو بوش العراق. وكان الأثر عكس الذي قصده تماماً.
يقول كيلكولين في مقابلة: “الخطأ الأكثر أهمية كان غزو العراق. يمكنك حقًا أن تؤرخ لتراجع الهيمنة العسكرية الأميركية به. ذلك كان الخطأ الرئيسي الذي تصدر البقية”.
كانت النتيجة أن إدارة بوش تركت أفغانستان مكشوفاً أمام حركة طالبان العائدة إلى الظهور تدريجياً. وبغزوها العراق لتصبح بذلك قوة احتلال في قلب العالم العربي، فتحت الإدارة باباً عصياً على الإغلاق للإرهاب الإسلاموي الجديد الموجه إلى واشنطن. وأدى الاحتلال الأميركي للعراق -والطريقة الوحشية التي نفذه بها الأميركيون؛ بالاعتقالات الجماعية وضرب العراقيين الأبرياء الذين انتهى بهم المطاف في كثير من الأحيان إلى سجن أبو غريب أو معسكر بوكا- إلى ظهور تهديد إسلاموي جديد بقيادة الزرقاوي. وكما قال تقرير لمعهد بروكينغز في العام 2015 عن معسكر بوكا، فإنه “إذا لم يكن المعتقلون جهاديين عندما وصلوا، فقد أصبح العديد منهم كذلك عندما غادروا”. وانتشرت تلك الحركة الإسلاموية لاحقاً إلى اليمن، والصومال، وشمال إفريقيا، وتحولت لاحقًا إلى تنظيم “داعش” بقيادة أبو بكر البغدادي. وقد انتشر “داعش” الذي وُلد في احتلال العراق، مثل الخلايا السرطانية عائداً إلى أفغانستان وسورية وأماكن أخرى، واتخذ أشكالًا جديدة واستخدم تكتيكات جديدة أكثر ذكاءً.
وهكذا، كانت البداية الافتتاحية لغزو العراق -حملة “الصدمة والرعب” سيئة السمعة- في الواقع “ذروة نموذج الضربة الدقيقة الأميركية عالية التقنية، المقودة بالاستخبارات، للهيمنة على ساحة المعركة” كما كتب كيلكولن، الذي أضاف: “هذه الطريقة في الحرب، التي كانت الولايات المتحدة رائدتها في العام 1991 (بداية حقبة “القنبلة الذكية” في حرب الخليج الأولى) والتي أُجبر الجميع، من الحلفاء والأعداء على حد سواء، على أن يحسبوا لها حساباً منذ ذلك الحين، بدأت في التراجع من تلك النقطة فصاعدًا”.
بدلاً من ذلك، سيتم في العقدين التاليين إنزال الأميركيين من علياء “القنبلة الذكية” وإجبارهم على الاشتباك على الأرض مع جميع الأعداء الجهاديين الجدد الذين ولدوا في ظروف الغزو -بتكلفة هائلة في الأرواح والأطراف والأموال، وصبر الولايات المتحدة.
* * *
في الأثناء، تكيف هؤلاء الأعداء. اندمج الجهاديون في الأماكن والمجتمعات التي عملوا فيها بحيث أصبح من الصعب فصلهم عن عامة السكان. وبعد سنوات من خبرة الاقتراب من الموت الذي تجلبه الطائرات من دون طيار والغارات الجوية، “أصبحوا أكثر صلابة، وأكثر ذكاءً، وقدرة على التخفي، وأكثر فتكًا بكثير بمرور الوقت”، كما كتب كيلكولن. حتى أن الجهاديين طوروا تقنيات خاصة بهم، مثل الأسلحة التي يتم تشغيلها عن بعد، وتكتيكات مثل استخدام الخلايا الصغيرة المستقلة التي تقاتل في أسراب قتالية متفرقة، والتي قال كيلكولن أن الغرب نفسه يمكن أن يتعلم منها.
يقول جوزيف ناي Joseph Nye، الدبلوماسي المخضرم والاستراتيجي الشهير في جامعة هارفارد، إنه نتيجة الإفراط في تطبيق النزعة التدخلية الأميركية، فإن “الضرر الذي سببه “القاعدة” يتضاءل مقارنة بالضرر الذي ألحقناه بأنفسنا”. ووفقًا لبعض التقديرات، قُتل ما يقرب من 150.00 من أفراد الجيش الأميركي ومن المتعاقدين العسكريين الأميركيين، وبلغت التكلفة الاقتصادية للحروب التي أعقبت 11 أيلول (سبتمبر) أكثر من 6 تريليونات دولار. أضف إلى ذلك عدد القتلى من المدنيين الأجانب واللاجئين. كانت التكاليف هائلة”.
وحتى بعض الديمقراطيين الذين شككوا في انسحاب بايدن السريع من أفغانستان يوافقون على أن واشنطن بالغت في العمل والتمدد استراتيجياً. يقول النائب الديمقراطي راجا كريشنامورثي Raja Krishnamoorthi، عضو لجنة المخابرات بمجلس النواب: “أعتقد أنها ستكون هناك العديد من المجلدات التي ستُكتب عن أخطائنا- ستكون أفغانستان بمثابة دليل مرجعي تقريبًا حول كيفية عدم القيام بالأشياء في المستقبل. أحد الدروس هو أننا سيئون حقًا في بناء الدولة، وأننا لا يجب أن نهدر المال أو الوقت وأثمن مواردنا، شعبنا، على بناء أو فرض حكومة في أرض أخرى من دون التقاليد أو الثقافة اللازمة لدعمها”.
يصف جيمس دوبينز James Dobbins، أول مبعوث أميركي إلى أفغانستان ما بعد طالبان، ولاحقاً الممثل الأميركي الخاص لأفغانستان وباكستان، فترة العشرين عامًا هذه بأنها “الجيل الضائع في السياسة الخارجية الأميركية”. ويقول إن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) كانت “الزناد”. في الفترة من العام 1945 إلى العام 2000، كما يجادل، كانت لكل رئيس أميركي إنجازات مهمة في السياسة الخارجية تُحسب في رصيده، ولكن منذ ذلك الحين، لم يكن لدى أربعة رؤساء أي شيء يمكن أن ينسَب إليهم الفضل فيه تقريبًا. وأشار إلى أن أوباما نجح في تحقيق إنجازين رئيسيين، “الاتفاق النووي الإيراني” و”اتفاقية باريس”، لكن ترامب قوضهما. فلماذا هذا السجل الهزيل في العقدين الماضيين؟ يقول دوبينز إن السبب، في جزء منه، هو أن كل رئيس منذ جورج دبليو بوش كان يحاول تنظيف الفوضى التي صنعها ذلك الرئيس بعد 11 أيلول (سبتمبر).
يقول دوبينز: “ربما كان غزو العراق أسوأ قرار منفرد في السياسة الخارجية الأميركية منذ العام 1776”. لكن الأسباب تكمن أيضًا في انهيار الإجماع الوطني، الذي تفاقم بسبب الأزمات الاقتصادية في الداخل، وخاصة الركود العظيم الذي أعقب العام 2008.
ويضيف دوبينز: “كانت لدينا زيادة كبيرة في جيل من الأشخاص الذين لا يؤمنون بالهدف الأميركي الذي وجه السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الولايات المتحدة الركيزة الأساسية للنظام الدولي. وتعود الإجابة إلى زيادة التفاوت في الدخل. لدينا جيل كامل لم يشهد تدفق فوائد هذا النظام العالمي إليهم، حيث تتدفق 90 في المائة من فوائد النظام الدولي إلى أعلى 10 في المائة”.
والأسوأ من ذلك أنه خلال فترة العشرين عامًا نفسها، لاحظ بقية العالم تعثرات الولايات المتحدة العديدة في الحرب على الإرهاب -وتعلموا أساليب جديدة لمقاومة الولايات المتحدة وإذلالها. وقد استخدمت الصين وروسيا المستنقع المزدوج للولايات المتحدة، في العراق وأفغانستان، لاكتشاف وسائل جديدة لتحدي واشنطن. وأصبح الأوروبيون، الذين يشعرون بالاشمئزاز من انسحاب بايدن الأحادي، يتحدثون مرة أخرى عن السير في طريقهم الخاص استراتيجياً. ويكمن الخطر في أن يعمد الخصوم إلى استغلال نقاط ضعف الولايات المتحدة بكثافة أكبر.
تتمثل إحدى المخاطر في أن بكين، التي تلاحظ إحجام بايدن عن نشر الجيش على نطاق واسع، قد تسعى إلى تهديد تايوان بشكل أكبر –بحيث تجبر الرئيس الأميركي على الإفراط في التعويض في محاولة لإثبات أنه ليس ضعيفًا. يقول كيلكولن: “يمكن أن يشجع ذلك بايدن على أن يكون أكثر دعمًا لتايوان مما يجب”.
من الواضح أن كارثة العراق كانت زلة إستراتيجية هائلة، لكن هناك عوامل أخرى كانت تلعب دورًا في انعكاس مسار الثروة في الولايات المتحدة. في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أدرك الكرملين أن الولايات المتحدة ما تزال تركز على النفوذ العسكري التقليدي وأنها تعثرت في الشرق الأوسط وأفغانستان. ويقول كيلكولن أن بوتين توصل إلى طرق للتعامل مع واشنطن بشكل غير متكافئ من خلال العمل في منطقة رمادية “حدية” تتجنب الاكتشاف وتتيح إمكانية الإنكار.
وعنى ذلك، من الناحية العملية، تعيين “رجال خضر صغار” -عملاء روس لا يمكن تحديدهم بوضوح كجنود روس- للسيطرة على شبه جزيرة القرم في أوكرانيا. كما عنى أيضًا استخدام الأساليب السرية لتقويض الديمقراطية الأميركية؛ حيث استغل عملاء الكرملين الانقسام السياسي الداخلي للولايات المتحدة من خلال اختراق انتخابات 2016 و2020 وتوجيه دفق هائل من المعلومات الرقمية المضللة إلى الولايات المتحدة، مما زاد من التوترات بين الحمر والزرق. وبسبب إفراط واشنطن في التمدد في الخارج والانقسامات السامة في الداخل، لم يعد الكرملين يرى الولايات المتحدة كقوة عظمى لا منازع لها، وإنما كقوة عملاقة جريحة، مقطّعة ومخترقة في أماكن لا حصر لها، بينما ديمقراطيتها تفشل. ولا شك أن بوتين يخطط للاستمرار في تقطيعها.
يقول كيلكولن إن الصين اتبعت نهجًا مختلفًا، من خلال ملاحظتها عن كثب أنه كما هو ظاهر “في العراق وأفغانستان، فإن الجيوش الغربية ممتازة في القتال الفني المتطور، لكنها سيئة جداً في ترجمة النجاح في ساحة المعركة إلى نتائج ناجحة خارج التعريف التقني الضيق لـ”الحرب” “. وسعت بكين إلى استغلال هذا الضعف من خلال توسيع تعريفها للحرب ليشمل الأسلحة الاقتصادية والسياسية -على سبيل المثال، مبادرة “الحزام والطريق” التي تغطي معظم الكرة الأرضية. وفي كتابه، يقتبس كيلكولن من أحد الاستراتيجيين الصينيين قوله إن الصين يجب أن “تكون مستعدة لشن حرب قد تؤثر على جميع مجالات الحياة في البلدان المعنية، والتي يمكن خوضها في مجال لا تهيمن عليه الأعمال العسكرية”.
وكتب كيلكولن إن الكثير من هذا هو رد فعل على “فشل الولايات المتحدة المتكرر في تحويل النصر في ساحة المعركة إلى نجاح إستراتيجي، أو ترجمة هذا النجاح إلى سلام أفضل”. بدلاً من ذلك، على مدى العقدين الماضيين، سمحت القوة العظمى الوحيدة لنفسها بالتورط في “سلسلة لا نهاية لها على ما يبدو من الحروب المستمرة وغير الحاسمة التي استنزفت طاقتنا بينما ازدهر خصومنا”.
*مايكل هيرش Michael Hirsh هو مراسل صحفي رفيع وكاتب عمود في مجلة فورين بوليسي. وهو مؤلف كتابين: ”هجوم رأس المال: كيف حول حكماء واشنطن مستقبل أميركا إلى وول ستريت Capital Offense: How Washington”s Wise Men Turned America”s Future Over to Wall Street “؛ و”في حرب مع أنفسنا: لماذا تهدر أميركا فرصتها لبناء عالم أفضل” Capital Offense: How Washington”s Wise Men Turned America”s Future Over to Wall Street .
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: How the U.S. Got 9/11 Wrong
المصدر: – (فورين بوليسي) / الغد الأردنية