العالم يذوي

كورنيليوس أديباهر * وأوليفيا لازارد

تُعتبر ندرة المياه في إيران عاملًا يسهم في زعزعة الاستقرار على المستويَين المحلي والإقليمي. تعرّضت أحواض المياه الجوفية في محافظة خوزستان الواقعة في جنوب غرب إيران للاستنزاف، وسجّل سدّ الكرخة المجاور أدنى مستويات له على الإطلاق. وإذا اتّجهنا مسافة 700 كيلومتر إلى الشمال الشرقي، نلحظ نشأة ظواهر الانخساف الأرضي بمعدّل مثير للقلق يصل إلى 25 في المئة سنويًا في بعض أجزاء المحافظة.

باتت هذه المشاهد شائعة ليس في إيران فحسب، بل أيضًا في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، وبالطبع، لا يعرف التدهور البيئي أي حدود وطنية. إن معظم العواصف الرملية التي تسبّب تلوّث الهواء السام في محافظة خوزستان الواقعة في غرب إيران مصدرها العراق، فيما يسهم جفاف الأهوار في إقليم بلوشستان الواقع في شرق إيران في تدهور نوعية المياه وزيادة ملوحتها، كما هي الحال في أفغانستان المجاورة.

تُعزى هشاشة إيران في مجال الموارد المائية إلى عوامل عدة. فقد تراجع إجمالي مخزون المياه في البلاد بأكثر من 200 كيلومتر مكعّب على مدى العقدَين الأخيرَين – ما يعادل خسارة بمقدار مسبح أولمبي من المياه لكل شخص من سكان إيران البالغ عددهم 80 مليون نسمة. يُشار إلى أن هذا الواقع لا ينجم فقط عن ظواهر طبيعية مثل التآكل أو ارتفاع درجات الحرارة، كما تروّج له سردية النظام، بل يُعزى هذا الخلل في الدورة الهيدرولوجية في البلاد، وما يحمله من موجات جفاف وتصحّر وسيول، أيضًا إلى عقود من سوء الإدارة السياسية.

في مستوى أساسي، تعود التحديات المائية التي تواجهها إيران إلى نموذج اقتصادي يرى في الموارد الطبيعية مثل المياه سلعًا ينبغي أن تُستغل من خلال الهندسة والتكنولوجيا. ونتيجةً لذلك، يحدث التدهور المائي مدفوعًا بالسحب المُفرط للمياه الجوفية، ما يعني أن استخدام المياه يفوق بثلاث مرات معدّل تجدّدها الطبيعي، ما يسبّب حالة جفاف ناجمة عن الأنشطة البشرية. ويتمثّل الخطر في أن مياه إيران الجوفية القديمة تنضب من دون أن تتجدّد.

يؤدّي الاستخدام الجائر للمياه الجوفية إلى تراجع منسوب المياه، ما يتسبّب بمزيدٍ من الضخّ العشوائي من الأحواض المائية، وبالتالي إلى ازدياد ملوحة المياه، إضافةً إلى نقص محاصيل القمح، ما يُلحق الضرر بالمزارعين من أصحاب الملكية الخاصة المحرومين أصلًا. صحيحٌ أن الآبار غير القانونية تُعدّ جزءًا من المشكلة، إلا أنها غالبًا الحلّ الوحيد أمام المزارعين لكسب رزقهم. ومن شأن إقفالها أن يسبّب البطالة ويشعل أيضًا الاضطرابات الاجتماعية، ولا سيما أن الحكومة لا تملك الأموال اللازمة لتحديث تقنياتها. بالإضافة إلى ذلك، تشهد نوعية المياه خارج المناطق الحضرية تراجعًا ملحوظًا. وفي ظل بقاء هذه المشاكل من دون معالجة، يضطر فقراء المناطق الريفية للنزوح إلى المدن، حيث يقطن أساسًا أكثر من 70 في المئة من الإيرانيين.

علاوةً على ذلك، تُعتبر بعض المصالح السياسية والاقتصادية جزءًا من التعقيد المنهجي المحيط باستخدام المياه. ويُعدّ بناء السدود لتوليد الطاقة الكهربائية أحد العوامل المسبّبة للتدهور البيئي، ما ساهم في جعل أجزاء من الأراضي غير صالحة للعيش. فعند بناء البنى التحتية الكهرمائية، لا تتم مراعاة سلامة الموارد المائية على المدى الطويل، ناهيك عن أن هذه الأعمال مرتبطة بالفساد داخل النظام. وتشير تقارير إلى أن عناصر من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني يمارسون ضغوطًا على الحكومة، بالتواطؤ مع شركات البناء، من أجل إنشاء سدود هدفها تحقيق الإيرادات بغضّ النظر عن العواقب الإيكولوجية أو البشرية التي قد تنجم عنها.

أسهمت منظومة العقوبات الدولية في تعزيز شعار الاكتفاء الذاتي الذي يرفعه النظام الإيراني، ما أدّى إلى إنتاج واسع النطاق لمحاصيل تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه كالفستق والقمح والأرزّ. واقع الحال أن “جدار العقوبات” يؤدّي إلى خفض التمويل الحكومي المتاح لانتهاج سياسات سليمة بيئيًا، وأيضًا إلى عرقلة عملية الانتقال إلى اقتصاد أقل اعتمادًا على الموارد، من خلال منع الحصول على التكنولوجيات الخضراء. علاوةً على ذلك، وبعيدًا عن الجوانب الاقتصادية البحتة، تحدّ العقوبات أيضًا من التواصل الشخصي، مثل التبادلات الأكاديمية وعمليات نقل المعارف، بما فيها تلك المرتبطة بالقضايا البيئية.

وفي ظل استنزاف الموارد المائية الناجم عن الأنشطة البشرية، الذي يُمكن عكس تأثيراته بدلًا من اعتبارها أمرًا واقعًا، يبدو ندرة المياه في صدد أن تصبح سريعًا مصدر قلق رئيسًا للإيرانيين. فقد شهدت محافظة خوزستان احتجاجات على خلفية تحويل مسار الأنهار في العام 2018 ثم في العام 2021. وفي تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، سار الآلاف على مجرى نهر زاينده رود الجاف احتجاجًا على تحويل مياهه إلى محافظة يزد المجاورة، قبل أن تتدخّل الشرطة لتفريقهم بالقوة. وفي وقت سابق من هذا الصيف، تمّ اعتقال ناشطين طالبوا الحكومة باتّخاذ تدابير لتجنّب جفاف بحيرة أورمية بالكامل.

تشير حملات القمع العنيفة التي تمارسها قوات الأمن، ناهيك عن الاعتقالات العلنية جدًّا التي طالت علماء البيئة في العام 2018، إلى الطابع الأمني الطاغي في هذه القضية. فالنظام يتعمّد قطع سبل الحصول على البيانات ويحدّ من الشفافية لأنه ينظر إلى الحراك البيئي باعتباره تهديدًا محتملًا له، نظرًا إلى قدرته على توحيد السكان. في هذا الإطار، يستغل النظام أيضًا التوترات القائمة لتأليب مجموعات إثنية أو محافظات (في خوزستان وأصفهان على سبيل المثال) أو قطاعات اقتصادية مختلفة (مثل الصناعة والزراعة مثلًا) على بعضها البعض.

لقد زاد مزيجٌ من العوامل مثل البطالة والتدهور البيئي وإخفاقات السياسات، احتمال حدوث اضطرابات اجتماعية، حتى أن المسؤولين أنفسهم باتوا يشكّكون في قدرة الحكومة على توفير إمدادات المياه من دون انقطاع في جميع أنحاء البلاد. لكن غياب التخطيط الإيكولوجي السليم والمستدام في إيران لا يهدّد استقرار النظام وحسب، بل أيضًا الأمن الإيكولوجي في المنطقة ككل. لذلك، تتطلّب معالجة القضايا المائية اعتماد مقاربة منهجية إيكولوجية متكاملة، بدلًا من الاكتفاء بتوفير استجابات تكنولوجية متسرّعة ومجتزأة.

يكمن مفتاح النجاح، ولا سيما في سياق العلاقات المتوترة التي تجمع معظم الجهات الخارجية بالنظام الإيراني، في معرفة كيفية بناء الثقة استنادًا إلى فهم مشترك للتهديدات الأمنية التي تقوّض الاستقرار الجماعي. فإطلاق حوار حول العمليات التجديدية التي من شأنها أن تصب بشكل ملموس في صالح المجتمع والاقتصاد الإيرانيَين سيكون مثمرًا أكثر من إلقاء عظات على الحكومة بضرورة مصادقتها على اتفاق باريس للمناخ وتطبيقه. ويعني ذلك زيادة الانخراط مع القوى الحكومية (الوطنية والمحلية) والمنظمات الدولية القائمة في البلاد، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومنظمة الأغذية والزراعة. علاوةً على ذلك، يمكن اللجوء إلى منظمات المجتمع المدني والتبادلات الأكاديمية من أجل تعزيز عملية جمع البيانات. وفي نهاية المطاف، وحده التأييد الشعبي سيحدّد مدى نجاح العمليات التجديدية المعقّدة أو فشلها.

في الختام، يُعتبر تجاوز مشكلة ندرة المياه خطوة أولى على مسار معالجة بعض العوامل الأساسية التي تسهم في زعزعة استقرار إيران. وفي حال تم التوصل إلى فهم أفضل لكيفية تعزيز قدرة النظام البيئي في أي دولة على الصمود والتعافي، فسيعود ذلك بالفائدة على المنطقة بأسرها.

يستند هذا المقال إلى دراسة صادرة عن مركز كارنيغي أوروبا بعنوان How the EU Can Help Iran Tackle Water Scarcity (كيف يمكن أن يساعد الاتحاد الأوروبي إيران على مكافحة ندرة المياه؟)

المصدر: مركز مالكولم كير – كارنيغي الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى