لم يعد خافياً أن أسباب التدخل الروسي في سورية عام 2015 وموجباته، والنهج الذي اتبعته القيادة الروسية سياسياً وعسكرياً، في تعاطيها مع الشأن السوري، لم تعد كما كانت بعد قرابة سبع سنوات من وجود قواتها وقواعدها البحرية والجوية على الأرض السورية، فالتفرّغ الكامل وشبه الموافقة الأميركية والإسرائيلية أعطت قاعدة حميميم مطلق الصلاحية بالعمل ضد كل ما يهدّد سلطات بشار الأسد وحكمه، واستطاعت، بجهدها العسكري المفرط، قلب المعادلات، واسترجاع كثير من الجغرافيا السورية، ومحافظتي حلب ودرعا، إلى عهدة نظام الأسد مع كامل أرياف حمص وحماه والجزء الأكبر من أرياف إدلب. لكن الخطأ الذي وقعت به موسكو أنها لم تستطع أن تترجم منجزاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية، سواء بإيجاد توافقات إقليمية حول الشأن السوري، أو بصياغة وتطبيق حل سياسي يستند لتغير المعادلات العسكرية على الأرض. وقد تسبّب سعي موسكو إلى استكمال مهمتها بالسيطرة على كامل الجغرافيا السورية، مستعينة بالجهد الإيراني وأدواته، بإخفاقات سياسية، اضطرّتها للدخول في مسارات جانبية وحلول مجتزأة، قاعدتها الحفاظ على رأس هرم السلطة في سورية، والدخول في حكومة وحدة وطنية، تُمنح فيها عدة حقائب هامشية لبعض أطياف المعارضة السورية، فقرأت قرار مجلس الأمن 2254 وفق مصالحها ومصالح حليفها الأسد، وانفردت مع تركيا وإيران في مسار “أستانا” لإجبار السوريين على القبول بما يقرّه هؤلاء في اجتماعاتهم، مع الحفاظ على وجود السوريين ومن الضفتين بوصفهم ضيوف شرف، مهمتهم الإيماء بالموافقة العمياء وشرعنة المسار واجتماعاته.
المهلة التي وضعها الرئيس الروسي بوتين، عندما أعلن تدخله في سورية، كانت أربعة أشهر، ثم تضاعفت تلك المدة عشرات المرّات، ولم تتحقق أهدافه في سورية. وكانت الموافقة الإسرائيلية والأميركية الضمنية للروس تحت وعود منحتها موسكو لدول الإقليم، بتحجيم دور إيران ومنع مليشياتها من التمركز والتمدّد، خصوصاً في الجنوب السوري. وكرّر الروس تلك الخدعة والوعود المضللة التي مارسوها عند تدخلهم في سورية، عندما أعادوا الجنوب السوري للأسد، بعد إقناع الأردن وإسرائيل بضمان حدودهم واستقرارها، عبر دور روسي فاعل يقضي بإبعاد المليشيات الإيرانية لمسافة 40 – 80 كم على الأقل عن خط فك الاشتباك في الجولان المحتل وعن حدود الأردن.
صدّق الأردن الوعود الروسية الذي توجّهت أنظاره مادّياً إلى مليار دولار من عائدات معبر نصيب، لكنه دفع أكثر مما جناه من المعبر على جهود مكافحة المخدرات والسلاح التي بدأت بالتدفق عبر حدوده مع سورية. وأكد الأردن، في أكثر من تقرير، أن بلاده أصبحت معبراً للمخدّرات نحو الخليج، بعد أن ضبطت أجهزته العسكرية والأمنية عشرات المرّات مئات الملايين من الحبوب المخدّرة، وبطرق شتى، كانت تأتي من سورية. وأكد الأردن، بالأدلة والوثائق، أن تهريب المخدّرات من الأراضي السورية ليس عبر شبكات تهريب فقط، بل أيضاً عبر دعم حكومي وعسكري ومليشياوي من أجهزة استخبارات نظام الأسد، ومن قادة مليشيات حزب الله والحرس الثوري الإيراني. وبذلك فشلت روسيا بالإيفاء بتعهدّاتها للأردن أو على الأقل تهاونت بالتعامل مع فساد أجهزة استخبارات الأسد ومع التمدّد الإيراني وتهديده للأردن.
أصبحت العمليات الإسرائيلية على حدود الجولان شبه أسبوعية، من حيث نسف مراكز استطلاع إيرانية، أو إلقاء مناشير فوق ثكنات جيش الأسد تتوعد ضباطها وتهدّدهم بالاغتيال إن استمروا بعملهم عملاء ونشطاء بنقل المعلومات الاستطلاعية إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، بعد أن وصلت مراكز تنصّت ومراقبة إيرانية إلى مقربة من حدود الجولان، وهذا فشل آخر بالتزام موسكو بما تعهدت به لتل أبيب.
أمام هذا الواقع، تحرّكت الآلة العسكرية الإسرائيلية لنسف كل ما تعتبره مهدّداً لأمنها، وفي كامل المسرح الجغرافي السوري، فأخرجت مطار دمشق الدولي عن الخدمة، ثم ألحقت به مطار حلب الدولي (مطار النيرب)، ودمرت ألف صاروخ إيراني في مستودعات مصياف، عدا عن عشرات الغارات الجوية على مناطق الكسوة والسيدة زينب ومحيط مطار دمشق الدولي ومطار المزّة العسكري، حيث دمرت عشرات مستودعات السلاح التي تُخزّن فيها أسلحة إيرانية. وانتقلت الضربات الإسرائيلية إلى الساحل السوري، بعد أن رصدت أجهزة استطلاعها أسلحة إيرانية تدخل إلى سورية عبر ميناء طرطوس، الواقع تحت النفوذ الروسي المطلق، وأسلحة أخرى تصل من خلال ناقلات النفط الإيرانية في مصب بانياس، فقصفت إسرائيل شحنة من العناصر الحساسة التي تُركّب على رؤوس الصواريخ لزيادة دقّة إصابتها في منطقة الحميدية في ريف طرطوس على الحدود مع لبنان كانت في طريقها إلى حزب الله، ثم قصفت الطائرات الإسرائيلية ست شاحنات محمّلة بطائرات مسيّرة قادمة من مصب بانياس نحو مستودع للحرس الثوري الإيراني في قرية أبو عفصة بريف طرطوس، على مقربة من بطارية دفاع جوي روسية التي شغّلت محطات كشفها، فكان نصيبها التدمير بصواريخ طائرات التغطية الإسرائيلية، وصمت الروس عن الحادثة.
أريحية إسرائيل في العمل في الأجواء السورية من دون رادع، أو أي أعمال مضادّة باستثناء بعض صواريخ الدفاع الجوي السوري، القديمة والبالية وغير المجدية، والتي كان معظمها يعود ليسقط على منازل المدنيين، وصمت الدفاعات الروسية، وتطنيش حليف الأسد في طهران، رغم امتلاكه منظومات دفاع جوي (باور 373) فوق الأرض السورية، وهذا ما أغضب الحاضنة الشعبية للأسد، يقول أحد الموالين:
أخبرنا قادة قاعدة حميميم إن “روسيا ليست ملزمة بالدفاع عن سورية، وروسيا ليست ملزمة بتحديث عتاد الجيش السوري، وروسيا غير ملزمة بالرد على الطيران الإسرائيلي، وروسيا غير قادرة على السماح بتشغيل منظومة الدفاع الجوي إس_300 التي سلمتها لجيشنا، إذا روسيا غير ملزمة بشيء عملياً، إذاً روسيا شو عم تساوي عنا؟”. يرد عليه موال آخر: عملياً، تفعل روسيا الكثير، فقد سيطرت على القرار العسكري والسياسي مناصفة مع إيران، واستحوذت على كامل عقود النفط والغاز في المتوسط من دون أي نية باستخراجه أصلاً، وسرقت معمل السماد الآزوتي في حمص، وطردت 90% من العاملين فيه، وسرقت المرفأ في طرطوس، وأيضاً طردت 90% من العاملين، وأنشأت قواعد عسكرية لها في مناطق متفرقة من سورية، بدءاً من الجنوب مروراً بالوسط، وصولاً إلى الشمال والشمال الشرقي.
وتتحدّث صفحات الموالين صراحة عن دور روسي فاعل ساعد ويساعد أسماء الأخرس (زوجة بشار الأسد) بوضع يدها على أموال رامي مخلوف الموجودة في الخارج، وطبعاً بعد اقتطاع نسبة 50% عمولة لها، وهي بمليارات الدولارات. وروسيا تسرق ما نسبته 25% من النفط الخام المهرّب من شرق الفرات إلى مناطق الدولة السورية عمولة لشركاتها الأمنية، “فاغنر” وغيرها، وتستحوذ روسيا مجاناً على ربع إنتاج سورية من الكهرباء، لتشغيل معمل السماد الذي تسيطر عليه ولقاعدتها الجوية في حميميم، وأمنت حماية شخصية لقائد مليشيات النمر، سهيل الحسن، وتدفع شهرياً عوائد لمستشارة الأسد الإعلامية، لونا الشبل، من عوائد مناجم الفوسفات التي سرقتها روسيا، وتدفع رواتب للفيلق الخامس، وهو هجين غريب عجيب من اللصوص وقطاع الطرق والدواعش ومزيج من الشبّيحة والإرهابيين. ويمتعض الموالون من منح روسيا بطاقات أمنية لكبار الإرهابيين السابقين ولكبار الشبّيحة، ثم تكتفي بإصدار تقارير تفصيلية عن عدد الصواريخ الإسرائيلية التي تستهدف المواقع السورية، وفرض روسيا على الحكومة السورية توقيع عقود تسليح لخردة روسية وبأسعار باهظة الثمن، وتشترط دفع نسبة كبيرة من قيمة العقود مقدّماً، وفقط من عام 2017 إلى نهاية 2019، استلمت روسيا 17 مليار دولار من الخزينة السورية. ويعتبر أهل الساحل أن ذلك ساهم بتدمير الاقتصاد السوري كلياً، وسبّب انهيار الليرة السورية. ويختم أحد الموالين متساءلاً: يومياً توجه إشارات إلى العلويين في الساحل بأن أي حركة تمرّد ضد بشار الأسد سنعتبرها موجّهة ضدنا أيضاً.. ما السبب؟
ثم تختتم الجوقة ببرنامج سياسي على أهم فضائية لنظام الأسد لتخصص ساعتين من البثّ المباشر لانتقاد الدور الروسي، بل انتقاد دور كامل محور “المقاومة والممانعة” في سورية في سابقة لم تحصل من قبل .. وأمام الحقيقة التي تفجّرت بوجه الروس، ومثلها أمام الإيراني، بعد أن علمت حاضنة النظام حقيقة الدور الروسي الباحث عن مصالحه فقط، والمستثمر في الجغرافيا السورية ورقة مواجهة ومساومة ومبارزة مع الغرب، وأمام الإهانة التي يتلقاها السلاح الروسي الذليل أمام هجمات الطيران الإسرائيلي، كان لا بد من إجراءٍ يحفظ ماء الوجه، فكان قرار سحب منظومة إس 300 من سورية بذرائع مختلفة، منهم من قال لتعويض نقص الدفاعات الروسية في الحرب الأوكرانية، وقال آخرون لعدم قدرة ضباط جيش الأسد على استيعاب تقنية استخدام المنظومة، والأكثر قالوا إنها قد تكون مقدمة لانسحاب روسي من سورية.
لا نملك قدرة معرفة الأسباب الحقيقية لخطوات روسية كثيرة في سورية، لكن ما بات معروفاً أن بوتين ووزير خارجيته لافروف أضاعا عدة فرص في سورية، وما كان في مقدورهما تحصيله بالأمس أصبح محالاً اليوم، وغداً سيكون المتاح روسياً أقل من اليوم، فمتى يتحرّك العقل الروسي من سباته الشتوي؟ ويبقى السؤال الأهم: يمكن الرد على المعارضين حكم الأسد عبر القصف والقتل، لكن ماذا عن الموالين الرافضين اليوم الدور الروسي في سورية؟
المصدر: العربي الجديد