العراق على مائدة الضباع

إيفا كولوريوتي

بعد اشتباكات دامية ضربت العاصمة العراقية بغداد وامتدادها نحو محافظات الجنوب، وعلى رأسها البصرة أتى المؤتمر الصحافي لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر ليضع حداً لهذا الصدام العسكري بين تيارات سياسية كانت قبل أعوام محسوبة على خط واحد و لاتزال محسوبة على دولة اقليمية بعينها ، إعلان السيد الصدر إنهاء الاعتصام أمام البرلمان العراقي و طلبه من مناصريه الخروج من المنطقة الخضراء قد يراه البعض مؤشراً على فشل هذا التحرك من قبل التيار الصدري في ظل عدم إقرار المحكمة الاتحادية لحل البرلمان و هو مطلب الصدريين الأول للتهدئة ، إلا أن المراقب للساحة العراقية ما بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 قد يستشعر أن خطوة الصدر لفض الاشتباك تأخرت نحو 24 ساعة، وأن هذا القرار لم يأت حقناً للدماء و إنما قد يكون مؤشرا على صفقة سياسية أولى خطواتها انسحاب أنصار التيار الصدري من المنطقة الخضراء، فهل نحن بالفعل أمام خروج تيار الصدريين عن عباء ولاية الفقيه كما يحلم البعض أم أن للمشهد حيثيات مختلفة؟

تفاصيل الواقع السياسي

في البداية وقبل الخوض في تفاصيل الواقع السياسي العراقية الحالي يجب وضع بعض الوقائع أمام القارئ التي توضح له الصورة بشكل أكثر دقة ولغة بعيدة عن البروباغاندا الإعلامية.

أولاً: لا تشكل أحداث المنطقة الخضراء في 29 و 30 من آب/أغسطس حدثاً جديداً على الساحة العراقية وبالأخص ضمن التيارات السياسية الشيعية، فمنذ الأشهر الأولى لما بعد سقوط نظام البعث في بغداد شهدت مدينة النجف الأشرف سباقاً على النفوذ بين عدد من الزعامات الدينية هناك، والتي كان أحد فصولها الصدام بين أنصار السيد مقتدى الصدر وأنصار السيد عبد المجيد الخوئي والذي أنتج اغتيال الخوئي من قبل أنصار الصدر رغم نفيه ذلك حتى يومنا هذا، و مع توسع نفوذ التيارات الشيعية في الدولة العراقية بتنسيق وضوء أخضر من قبل المندوب السامي الأمريكي في وقتها بول بريمر زاد مستوى الصراع على السلطة بينها، فشهدنا في صيف عام 2005 تصادما عسكريا واسعا في بغداد ومحيطها بين أنصار التيار الصدري تحت مسمى جيش المهدي من جهة وعناصر ميليشيا منظمة بدر، ورغم التدخل الإيراني في وقتها لإنهاء هذه الأزمة عادت الاشتباكات لتتكرر مرة أخرى في صيف العام 2007 بين الطرفين المحسوبين على النفوذ الإيراني، في المشهد السياسي مؤخراً خرجت على الإعلام وعبر تسجيلات صوتية محسوبة لنوري المالكي أحد زعامات الإطار التنيسقي ورئيس الوزراء الأسبق تكشف حجم الخلاف العميق بينه و بين زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر ، بالمحصلة فإن واقع التيارات السياسية الشيعية في العراق يعمل ضمن قواعد محاصصة في النفوذ والسلطة والفساد الاقتصادي لكن ضمن توافق محدد، هذا المشهد برأيي قد طرأ عليه أحداث يمكن أن تكون بوابة لتغيير ما عنوانه التيار الصدري.

الغضب الشعبي

في الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 شهدت العاصمة العراقية بغداد وبعض مدن الجنوب احتجاجات شعبية شبابية ضخمة رافضة للواقع الاقتصادي المزري وتطالب بإسقاط المنظومة السياسية الفاسدة ، و بالرغم من أن هذه الاحتجاجات والتي تعرف باسم ثورة تشرين/أكتوبر لم تحقق تغييراً ملموساً في المشهد الاقتصادي والأمني بشكل عام إلا أنها اعتبرت من قبل بعض الساسة العراقيين وعلى رأسهم زعامات التيار الصدري فرصة لتصدر الساحة العراقية والاستغلال هذا الغضب الشعبي من الوجوه التقليدية ، و بناء عليه بدأ الخطاب الصدري يصبح أكثر حدة و أكثر مناغمةً مع المطالب الشارع العراقي الجنوبي بشكل ساهم برفع أسهم التيار شعبياً وهو ما كان جلياً مع نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

حادث الاغتيال

في الثالث من كانون الثاني/يناير عام 2020 وأثناء خروجه من مطار بغداد الدولي عبر موكب ضخم استهدفت واشطن الجنرال قاسم سليماني الذي قتل بلحظتها، وقتل معه أحد أكثر الشخصيات العراقية نفوذاً أبو مهدي المهندس، غياب هاتين الشخصيتين عن الساحة العراقية حدث مهم للغاية و مؤثر مباشر لطبيعة النفوذ الإيراني على التيارات و الميليشيات العراقية الشيعية من جهة وعلى علاقات هذه التيارات مع بعضها البعض، وحسب العديد من التقارير الغربية والعربية فإن خليفة سليماني وهو الجنرال اسماعيل قاآني لم يستطع أن يفرض كلمته بشكل مطلق على الواقع السياسي العراقي كما كان الحال مع سليماني، كما شكّل غياب المهندس فراغاً كبيراً في جمع الزعامات الشيعية ضمن توجه واحد كما أدخلهم هذا الفراغ في صراع على من سيكون له اليد العليا وعلى رأس تلك الزعامات كان السيد مقتدى الصدر.

هذه المحددات الجديدة على المشهد العراقية أنتجت شارعاً شيعياً غاضباً و متململ من الواقع السياسي و الأمني والاقتصادي الفاسد و المتهالك من جهة ، وطبقة سياسية متصارعة فيما بينها تسير ضمن توجهين، الأول عنوانه الإطار التنسيقي وهو المؤمن بأن طهران أعلم و أدرى و يعمل على إبقاء المحاصصة للسلطة و النفوذ كما هي خلال العقدين الماضيين، والتوجيه الثاني يتصدره السيد الصدر الراغب بكرسي أكبر ونفوذ أعظم وحصة مضاعفة مستغلاً حقيقة أن إيران غير معنية بمن يتصدر الساحة ما دامت مصالحها محمية.

قد يرى البعض أن ما جرى في المنطقة الخضراء في مساء 29 من آب/أغسطس الماضي بداية تغيير حقيقي في العراق يخرجه من تحت عباءة النفوذ الإيراني ويعيد تحديد قواعد العلاقات بين البلدين، كما قد يسترسل هؤلاء بالحديث على أن عواصم اقليمية وعالمية وعلى رأسها واشنطن قد تستغل هذا الحدث لتحرير العراق، لكن الحقيقة المرّة هي أن واشنطن نفسها منزعجة من ما جرى في المنطقة الخضراء، فالأمريكيون الذين قدّموا العراق على طبق من ذهب لإيران لن يرغبوا بأي تغيير في الواقع هناك لتخوفهم من عاملين إثنين الأول، وهو أن تسبب حالة الانفلات الأمني والحرب الأهلية لتضرر صادرات العراق من النفط وهو كابوس سينزل كالصاعقة على الاقتصاد العالمي، أما العامل الثاني فهو صعود قوى سنية يصعب التحكم بمشروعها.

و للمرة الرابعة خلال عقد يعتزل السيد مقتدى الصدر الحياة السياسية و لن تكون الأخيرة برأيي ، كما أن الاشتباكات بين التيارات السياسية في العراق يومي 29 و 30 آب/أغسطس لن تكون الأخيرة في جغرافيا لم تحظ بسلام منذ أكثر من خمسين عاماً ، سيخرج الساسة العراقيون للحديث عن بداية جديدة واتفاق جديد و يدعون الشارع العراقي للصبر على الضيم والامتنان لحكمتهم الفذّة، ليعودوا بعد هذه الدماء للجلوس على طاولة واحدة ويتقاسمون الحصص، أما الشباب العراقي فسيعود للبحث على طرق للهجرة ووطن لا يتصارع على زعامته ضباع.

محللة سياسية يونانية مختصة في شؤون الشرق الأوسط

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى