قد تكون آثار تفشي فيروس كورونا الأبعد أمداً على الشرق الأوسط، كما لوحظ، اقتصادية أكثر من كونها طبية. قد يغيّر انهيار أسعار النفط والتباطؤ الأوسع نطاقاً أولويات الدول الراعية ويحوّل مواردها بعيداً عن وكلائها في المنطقة، مما يؤدي إلى نشاط أقل جودة -وإنما ربما أكثر تفرعاً وأقل قابلية للتنبؤ به. وبالتطلع إلى المستقبل، وإذا كانت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا تثير مزيداً من انعدام الأمن العملياتي وعدم الاستقرار السياسي في دول المنطقة، فقد يكون لدى “الوكلاء” من غير الدول حالياً هامش أكبر للمناورة وحدهم -بما في ذلك البحث عن رعاة جدد، سواء من داخل المنطقة أو من خارجها.
* *
لم تؤد الأزمة الصحية والاقتصادية العامة التي سببها فيروس كورونا إلى إيقاف -أو حتى إبطاء- وتيرة القتال المدعوم من الخارج في ليبيا أو الهجمات المتقطعة التي يشنها داعش” وهجمات الميليشيات المدعومة من إيران في العراق. لكن هناك، في الوقت الحالي على الأقل، حربان بالوكالة تنحسران من بين الحروب الكبيرة الأخرى المستعرة في المنطقة، بمعناهما الواسع: فقد خفت حدة القتال في محافظة إدلب السورية؛ كما تقلّصت الجبهات الناشطة في اليمن أو توقف نشاطها؛ حيث تسعى العديد من الدول الراعية الخارجية، وخاصة المملكة العربية السعودية، إلى وقف إطلاق النار بشكل واضح. وتبيّن هذه اللمحات السريعة بعض الاتجاهات المتباينة -أو حتى المتناقضة- في المنطقة التي تأثرت بوصول أزمة فيروس كورونا.
من المؤكد أنه ما يزال من المبكر للغاية، وبالتالي من السابق جداً لأوانه، في ظل طفرة هذا الفيروس ومسار التباطؤ الاقتصادي القفز إلى أي استنتاجات حاسمة. وربما يسهم فيروس كورونا في بعض التحوّلات الكبيرة في المنطقة -على الأرجح من آثاره الاقتصادية الثانوية الوخيمة، وانتشاره السياسي المحتمل، أكثر من أي مشاكل طبية مباشرة. أو ربما سيمر هذا الفصل، مثلما مرت جائحة “الإنفلونزا الإسبانية” الأكثر شدة بكثير في الفترة 1918-1923، من دون التسبب بأي تحوّلات جوهرية في الشؤون العسكرية أو السياسية الدولية. ومع ذلك، هناك عدد قليل من الاتجاهات الجديدة المؤقتة التي تستحق الذكر فعلاً.
أولاً، ربما يؤدي فيروس كورونا إلى تسريع أو تعزيز نمط من الحذر النسبي أو التراجع، بدلاً من إطلاقه، من جانب العديد من الدول الراعية الرئيسية تجاه “وكلائها” المسلحين في المنطقة. ففي سورية، كانت الولايات المتحدة قد قللت بشكل كبير من وجودها ودعمها لكل من المعارضة و«قوات سورية الديمقراطية». بينما كانت روسيا وتركيا وإيران تتجه نحو إبرام مجموعة من الاتفاقات، وإن كانت هشة، لتحديد مناطق نفوذها من دون اللجوء إلى صراع عسكري شامل. وبالمثل، كان السعوديون يبحثون عن مخرج في اليمن حتى قبل انتشار فيروس كورونا بشدة. وفي العراق، أصبح نمط الهجمات الميليشياوية المحدودة، ومتدنية المستوى، والسريعة، راسخاً بشكل كبير، قبل فترة طويلة من انتشار الفيروس.
وبالمثل، على الحدود اللبنانية، كان كل من “حزب الله” وإسرائيل يمارسان أساساً دورة مألوفة من الاستفزازات والعمليات الانتقامية من حين لآخر، لكنها دورة بعيدة عن التصعيد بشكل متبادل. ولم يساهم فيروس كورونا في زيادة هذا التفاعل أو تقليصه إلى أي حدّ جدير بالملاحظة. ومن المفارقات، على الجبهة الفلسطينية، أن يكون فيروس كورونا قد أضاف مسبقاً سبباً لقيام تعاون في مجال الصحة العامة والأمن الانتقائي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحتى بين إسرائيل وحماس في غزة.
لذلك، يمكن القول إن فيروس كورونا لم يسهم في معظم الحالات سوى في إضافة عنصر آخر من الحذر أو التشتيت إلى المزيج القائم أساساً. وتنشغل الدول الراعية للقوى الوكيلة الآن، وبشكل مفهوم، في استجاباتها المحلية لأزمة كورونا –وربما أصبحت هي أيضاً أكثر قلقاً بشأن قدرتها الاقتصادية على المدى المتوسط لتمويل المزيد من المواجهات العسكرية المشحونة. وحتى إذا لم تسيطر بشكل كامل على عملائها المحليين، وحتى إذا استمرت في دعم عمليات مضايقة محدودة، فمن المرجح إلى حدّ كبير أن تفضل تجنّب الانخراط في نزاع كبير آخر وسط محاولتها التعامل مع كورونا.
ثانياً، حتى في حالة أي دولة راعية بعينها، تبدو هذه التأثيرات متفاوتة. على سبيل المثال، وكما أشار زميلاي سونر جاغابتاي ودنيز يوكسل، عزّزت تركيا دعمها لعملائها المتواجدين في طرابلس في الحرب الأهلية المستمرة في ليبيا، حيث تكون أقل تعرضاً لمخاطر صحية أو اقتصادية أو قتالية مباشرة. وفي الوقت نفسه، حدّت من دعمها لعملائها في إدلب، حيث تكون هذه المخاطر أكبر بكثير حالياً.
ثالثاً، يُعزى الاستثناء الواضح لهذه الحكاية التحذيرية إلى بعض الجماعات الجهادية الناشطة في المنطقة. لم يعد تنظيم “داعش” وكيلاً لأحد في الوقت الحالي، لكن من الواضح أنه يستغل الفراغ الذي تركه تراجُع الآخرين الناتج عن انشغالهم بفيروس كورونا. وفي كل من العراق وسورية، وصلت هجمات التنظيم إلى أعلى مستوى لها في آذار (مارس). ويحرك مقاتلوه الشباب عملية بروز التنظيم من جديد، وهم الذين اعتادوا العيش تحت الأرض، خالين من المسؤولية عن أي مناطق مدنية، ومعزولين نسبياً (وربما أكثر مناعة) من الإصابة بعدوى فيروس كورونا، وأقل قلقاً من الفيروس من الناحية الإيديولوجية. ومع ذلك، ففي حال إصابتهم بفيروس كورونا، قد يؤدي عدم وصولهم إلى الرعاية الطبية إلى الحد المفاجئ من أنشطتهم.
رابعاً، قد تكون آثار كورونا الأبعد أمداً، كما لوحظ، اقتصادية أكثر من كونها طبية. فقد يغيّر انهيار أسعار النفط والتباطؤ الأوسع نطاقاً أولويات الدول الراعية ويحوّل مواردها بعيداً عن وكلائها في المنطقة، مما يؤدي إلى نشاط أقل جودة -وإنما ربما أكثر تفرعاً وأقل قابلية للتنبؤ به. وبالتطلع إلى المستقبل، وإذا كانت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا تثير مزيداً من انعدام الأمن العملياتي وعدم الاستقرار السياسي في دول المنطقة، فقد يكون لدى “الوكلاء” من غير الدول حالياً هامش أكبر للمناورة وحدهم -بما في ذلك البحث عن رعاة جدد، سواء من داخل المنطقة أو من خارجها.
وإذن، في الوقت الحاضر، من المحتمل أن يؤدي فيروس كورونا إلى نشوء هدوء مؤقت في البعض من الحروب بالوكالة المتعددة والمأساوية في المنطقة، في أعقاب موجة أولية من العمليات الجهادية وغيرها من العمليات الأخرى المحدودة. ومع ذلك، تبقى التداعيات على المدى المتوسط غير واضحة المعالم بشكل لا مفر منه، من حيث النطاق أو الاتجاه على حد سواء. وفي هذا الصدد، ما تزال التداعيات السياسية والعسكرية والاقتصادية الكاملة لمرض “كوفيد- 19” مبهمة بقدر الفيروس نفسه.
*زميل “برنشتاين” في معهد واشنطن ومدير “منتدى فكرة”
المصدر: (معهد كارنيغي) /الغد الأردنية