من أين يأتي العالم بالحلول للمشكلات والصعوبات، بل الكوارث، التي يصنّعها ويستدرجها ويقع فيها؟ لا جدل في أن الصورة أصبحت أكثر وضوحاً، مع تلاقي الأزمات الكبرى وتقاطعها، فمن الحروب (العالمية) إلى الجوائح، إلى التغيّرات المناخية المتسارعة، إلى فشل كل الخطط والمشاريع النظرية والوهمية لمكافحة الفقر والتطرف والإرهاب، لا يزال تعلّم الدروس وعدم تكرار الإهمال والأخطاء غير كاف، وكأنه يتعمّد القصور.
وإذ أضافت حرب أوكرانيا، خلال ستة شهور، عبثاً في الشأن النووي يبدو روسياً إرادياً منفرداً حتى الآن، إلا أنه قد ينزلق إلى الاستسهال والتعميم ما دام كل طرف لا يرى خياراً لنهاية الحرب إلا بـ”نصره” أو بـ”نصره”. لكن المرارات التي كشفتها الحرب أو فجّرتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، انعكست على العوالم المتقدّمة والنامية والمتخلّفة سواء بسواء، مع الفوارق البديهية المتوقعة.
مع انشغال المجتمعات كافةً بـ”كلفة المعيشة” وأسعار الغذاء والوقود، والدواء والاستشفاء طبعاً، و”نهاية الوفرة” كما وصفها الرئيس الفرنسي، وضرورة التقنين في استخدام الماء والكهرباء، والتقشّف في الاستهلاك… تبدو “العولمة” في صدد الانقلاب إلى الوجه الآخر للحياة المعاصرة التي بشّرت بالانتهاء منه، من عولمة الرفاهية إلى عولمة التعاسة.
فعلى رغم أن العالم سيظل معتمداً على سلاسل الإمداد التي عمل على تطويرها، إلا أن تراكم الأزمات (بمسؤولية جلية للدول الكبرى) بدّلت العولمة من عنوان للازدهار إلى تنافس على الجشع، ومن مشروع “كوني” لتنمية البلدان المتواضعة الموارد إلى اقتصادات هشّة، ما إن تنتكس حتى تنزلق إلى أزمات اقتصادية حادة، وإلى مجاعات واضحة أو مقَنّعة. تكثر “المناحات” حالياً في العالم الغني الخائف من تراجع رفاهيته، أما العالم الفقير فاعتاد منذ زمن تقشّفاً قسرياً في كل شيء، وكفاحاً للتكيّف مع ما تحت التقشّف في العقد الأخير.
تبدو أزمة 2008 المالية كحادث عابر مع ما يشهده العالم اليوم، وسط التوقعات التحذيرية، الجزعة والمتشائمة، للخريف والشتاء وللسنة المقبلة. ولا أي مؤسسة غربية، مالية واستثمارية، ولا أي بنك مركزي أو هيئة حكومية، تغامر حتى بسيناريوات رمادية، فكل التوقعات سوداوية (التضخّم إلى ارتفاع، وأي محاولة لخفضه قد تتسبب بالركود أو زيادة البطالة، توقعات النمو تكاد تكون صفرية)، ولا اختلاف بين التقارير إلا بمقدار الصراحة أو الشفافية، خصوصاً إذا كان هناك استحقاق انتخابي مقبل (إسبانيا وإيطاليا)، لكن يُفهم منها عموماً أن ثمة حاجة ملحة إلى إجراءات “مؤلمة”/ “قاسية”، ولعل في ذلك شيئاً من “المواساة” لحكومات ودول مأزومة عربية وأفريقية وآسيوية، أو غارقة في انهياراتها المتداخلة (لبنان، سوريا…)، إذ تجد أنها، مع فوارق كفاءة الدولة والحكم الرشيد، شبه “متساوية” في القلق والمعاناة مع دول راكمت خبرة في احترام شعوبها، لكن المؤكّد أنها لن تكون متساوية بإمكانات التعافي وتجاوز الأزمات.
من جائحة “كوفيد 19” في 2020 إلى شيء من الانفراج في 2021، كان يُفترض أن تكون 2022 سنة انتعاش الاقتصادات بعد خروجها من قيود الحجْر والإغلاق، فإذا بها تندفع إلى الركود. هكذا لخّصت “منظمة التعاون والتنمية” حال العالم، مشيرة إلى أن الترابط الاقتصادي العولمي جعل اقتصادين “صغيرين” (روسيا وأوكرانيا تشكّلان 2 في المئة فقط من التجارة العالمية) يطلقان أزمتي الغذاء والطاقة. لم تمضِ أيام قليلة على زحف الدبابات الروسية نحو الغرب الأوكراني حتى لمس كل شخص في كل بلد أن أسعار طعامه ووقوده ومشترياته الأساسية بدأت ترتفع، واستمرت تتقافز ولم يعد لها الآن أي سقف (بريطانيا رفعت أخيراً كلفة استهلاك الغاز 80 في المئة، وهو لن يكون الرفع الأخير… أسعار الوقود في البلدان غير الميسورة تكاد تكون بمستوى أسعار أوروبا وأميركا، وأحياناً أعلى منها كما في لبنان مثلاً).
لا شك بأن الدول المقتدرة ستتدبّر أعباءها بأساليب عدة، تنشغل حالياً في تصميمها وتخشى ردود الفعل الاجتماعية (إضرابات بريطانيا تتكثف. جماعة “السترات الصفراء” تحظى بتأييد 60 في المئة من الفرنسيين، وكل النقابات اتفقت على تحرك متصاعد. الإدارة الأميركية تحاول خفض انعكاس التضخّم على انتخابات التجديد النصفي للكونغرس مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر)… لكن ماذا عن البلدان الفقيرة، وماذا عما يقرب من مئة مليون لاجئ يعيشون على المساعدات؟ مع انشغال الدول المانحة بأوضاعها الخاصة، باتت الأمم المتحدة وحدها معنيةً بالخطر الزاحف، وقد حذّرت من “إعصار مجاعات”. لكنها تراهن الآن على خط البواخر التي بدأت تنقل المحاصيل الأوكرانية للتخفيف من نقص الإمدادات ولو بوتيرة بطيئة وكميات محدودة، ففي أي وقت يمكن روسيا أن تعرقل هذا الخط وبأي ذريعة، إذ إنها تقصّدت تدمير مساحات زراعية واسعة واستخدمت أزمة الغذاء لتأليب العالم النامي على الدول الغربية التي فرضت عليها عقوبات شاملة.
تراوح التقديرات الغربية لتأثير العقوبات على روسيا بين تقليل وتضخيم، لكن الواقع هو الواقع، ومن المؤكّد أن اقتصادها ينزف ويجهد لتعويض خسائره عبر أسواق الصين والهند، وبأرخص الأسعار، فيما يحجب الغاز والنفط عن الدول الغربية، لكن استمرار الحرب يستنزفه. وفي المقابل، تعاني الدول الغربية نفسها من تلك العقوبات ومن تمويل أوكرانيا وتسليحها لتتمكّن من الصمود، لكن هذا خيارها الوحيد لإبعاد شبح “حرب عالمية” ستكون تداعياتها أكثر كارثيةً على كل صعيد.
بمعزل عن حروب البشر، استكملت الطبيعة بانوراما التعاسة بسلسلة مؤشرات مخيفة لتغيّر المناخ: فيضانات، جفاف، حرائق… فيما لا يزال الوباء ومتحوراته تحوم في الأجواء وتقتل. هذه الظواهر لا تنتظر “مفاوضات سلام” ولا تعترف بهدنة، وخبراء المناخ الأكثر رصانة يدقّون النواقيس ولا يلمسون الاستجابات اللازمة على رغم أن العواقب باتت محسوسة. الفيضانات في أكثر من 20 بلداً كما الجفاف الذي هبط بمنسوب الأنهار العملاقة (في الدانوب ظهرت هياكل سفن حربية ألمانية غارقة منذ الحرب العالمية الثانية)، كما الحرائق التي محقت ملايين الهكتارات، حملت كلّها أخطر تهديدات للمحاصيل الزراعية وللصناعات المحلية في وقت هو الأسوأ بكل المقاييس، معطوفةً على أزمة الطاقة.
العالم يحاول بصعوبة شديدة التكيّف مع هذه الأزمات، لكنه يبدو أصغر منها ومستَبَقاً بها. ينتظر أن تنهي حرب أوكرانيا نفسها بنفسها على الأرض، فالدول الغربية لا تطرح مشروعاً لهذه النهاية لأنها لا تملك تصوّراً لما بعدها، والدول الشرقية ترى أن تصفية حساباتها مع الغرب لا تزال في بدايتها (تايوان ودول أخرى تقترب من الدوامة). في الأثناء، لا أحد يملك شجاعة التفكير في الإذعان لمتطلبات التغيّر المناخي أو في تطوير المكافحة الناجعة للأوبئة.
المصدر: النهار العربي