هذا النص مقدمةٌ لبناء طبقةٍ ثانيةٍ من مقاربة تأميم سورية، ومقاربة السوري العادي بوصفه مادة الحل النهائي. ولأن المقدّمات بيوتُ الأسئلة، ولأن الفلسفة تعيش في الأسئلة، يلجأ الكاتب إلى الفلسفة، لجوءًا يراه ضروريًا لتأسيس السياسة الوطنية إذا أردناها أصيلةً وأكثرَ تماسكًا هذه المرّة. ويستأنف الكاتب في هذا النص مسار تفكيرٍ في المسألة السورية بدأ في سياق مشروع تأميم سورية المنشور في “العربي الجديد” (بصورة رئيسة المقالات المنشورة بين 31 يوليو/ تموز 2021 و25 إبريل/ نيسان 2022، وأهمها “بيان تأميم سورية.. محاكاةُ قرارٍ تاريخي لحلٍ نهائي” المنشور في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021). ويأتي استئناف هذا التفكير المنشور بعد عددٍ كبيرٍ من التفاعلات والآراء والتصويبات والنقد، وبعد الاسترشاد بحصيلة مجموعةٍ من حوارات بشأن المشروع.
يمكن أن نبدأ من الاعتراف بأننا جميعًا ندرك الآن أن التفكير والحوار في المسألة السورية يدوران بين مجموعةٍ من المُتألمين، ويُعقَدُ في ضوء الألم، ولنا في ذلك وجهة نظرٍ تنظر بإيجابية إلى هذا النوع من التفكير وأهميته، ولكن ثمّة مسألة أخرى تفرض علينا أن نهتم بحضورها قبل أن نبدأ الكتابة في هذه المرّة، وهي أننا (نحن السوريين)، أيضًا نفكِّرُ في ضوءِ الخيبة: خيبة الأمل بكل شيء. هذا، على ما يبدو، ترك أثره في تسيير معظم النقاشات على واحدٍ من حدّين: إما على حد الفتور، أو على حد الانفعال. وصار من النادر أن نرى المسألة السورية في مساحةٍ منطقيِّة بين الاثنين. هذا الاعتراف مهمٌ لجماعة السوريين العاديين غير المقلوبين فحسب، السوريون الذين عرفوا كيف يُنتجون جماعةً وطنيةً معاصرةً في 2011، أو الذين عاصروا آلية امتلاك هذا النوع من المعرفة في أقل التقديرات، أو بتكثيفٍ شديد: الذين يعرفون كيف يعاصرون، والذين درَّبوا أنفسهم على ذلك. وللمعاصرة هنا دلالاتٌ كثيفةٌ تحيل على فهم العصر الكوني بالمجمل، وتَعلُّم طريقة تواصل عمومي إنسانية وكونية. وأما المقلوبون المؤدلجون، فهؤلاء جميعهم لا يعنيهم فعل التفكير، لأنهم لا يتحمّلون مشاقه، ولأن الحقائق عندهم قد حُسمت منذ زمنٍ بعيد، ولأن هناك من يفكّر عنهم، وإليه يتبعون.
الجماعة الوطنية المعاصرة خاب أملها؛ ففترت هِممُ أفرادها، وتوارت حماستهم خلف طوابير الخبز والوقود والمواصلات، وحماية الأبناء من المخدّرات والرصاصات: المُسدّد منها والطائش؛ أو خلف مراسي القوارب المطاطية (إن رست)، ومحطّات القطارات الباردة، وطوابير الإقامات الدائمة، واحتضان الطيبين وعنصرية البغيضين. لكن شيئًا لن يتغير من دونهم، ومن هنا: من الحاجة إلى هذه الجماعة الوطنية أكثر من أي وقتٍ مضى، من الحاجة إلى ما سمّاها الكاتب في مقالاتٍ سابقة “هيئة التحرير الوطنية”، من مثلٍ شعبي عادي “لا يحك جلدك مثل ظفرك”، نتابع التفكير من جديد من خلال هذا النص.
الجماعة الوطنية السورية، بالمعنى المُعاصر الذي بدأ في لحظة 2011، هي إمكانٌ زماني: إمكانٌ لأنها، مثل كل القضايا التاريخية، مسألةٌ تتحقّق من ضمن مجموعة مُمكناتٍ أخرى لم تتحقق؛ وزمانيةٌ لسببين: الأول لأنها جماعةٌ تفهم ذاتها بموجب فهمٍ جديدٍ لم يلتفت إلى السرديات الجامدة، وأدوات الفهم المهيمنة عادةً في الجماعات الخلدونية (مثل الطائفة، والقبيلة، والعرق، والدين، والملَّة، والحزب المؤدلج، والعشيرة، والجماعات الباطنية، والنخب المتعالية، وإلى ما هنالك). والسبب الثاني لأنها معاصرة بالمعنى الذي يفيد الانتماء إلى الزمان الكوني الراهن: يعني أنها معاصرةٌ لأنها فهمت الانتماء إلى الوطن بدلالة العصر، والانتماء إلى الكونية؛ فصارت سورية وطنًا لأنها صارت إمكانية الكون التي نمتلكها الآن (ثم هنا). لا يدّعي كل هذا الكلام صلاحيةً من أي نوع خارج حدود 2011، أو روح 2011. والآن في 2022، ثمّة جماعاتٌ وأفراد ينتمون عقائديًا (ونخبويًا) إلى ما قبل 2011، يتحكّمون بمصير هذه الجماعة الوطنية التي تراجعت وفترت: من هذه الجماعات النظام المجرم وجماعات العنف التي تدور في فلكه. وللأسف، منها أيضًا المعارضة الرسمية، وجماعات العنف المحسوبة عليها.
بناءً على ذلك، يمكن استعارة “العناية”، ذلك المصطلح الهايدغري الرشيق؛ لنقول إن لحظة 2011 هي لحظة “العناية بالزمان” (بالمعنى الهايدغري): الزمان السوري الجديد الذي يجعل سورية وطنًا ممكنًا في الزمان الراهن. ونسأل كيف يمكن أن يعنينا زمننا الراهن مرّةً أخرى؟ كأننا إذا جاوبنا عن هذا السؤال نجيب عن إمكان إنتاج الجماعة الوطنية السورية من جديد، وجعل سورية وطنًا ممكنًا بعد كل الذي حدث. كيف يعود السوري العادي معنيَّاً بكل كبيرة وصغيرة في كل الذي يحدُث لبلده، وفيها، وعنها، داخل البلاد، وخارجها؟
قد يبدو التفكير العمومي في هذا النوع من الأسئلة محكومًا بثنائية التشاؤم والتفاؤل، فالمتفائل معنيٌ بالزمان، والمتشائم لا يعنيه الزمان كثيرًا، بل ربما يمقته، الأمر الذي يجعل هذه الثنائية تفرض نفسها، في مقدّمات أي تفكيرٍ مستقبلي؛ فيصير تجاوزها غير ممكنٍ موضوعيًا: وكأن عملية ضبطها موضوعيًا أولويةٌ لكل تفكيرٍ في الحل وفي المستقبل، وربما ثمّة ضرورةٌ لضبطها فلسفيًا وعلميًا وتاريخيًا وحتى سياسيًا خارج إطار المقاربات الذاتية واللغة الوصفية. ويركِّز الباقي من هذا النص على اقتراح صيغة لهذا الضبط.
لنتذكّر أن معطيات العقل (intellect) كلها كانت تميل إلى التشاؤم في إمكانية تحقّق ثورة في سورية في 2011 (أو تحقق حراك؛ لتجنّب التشويش الذي قد ينجم من الخلاف النخبوي في توصيف الحدث). ولكن الثورة تحقّقت بإرادة السوريين العاديين، وبتفاؤلهم بإرادتهم هذه. وكأن عبارة غرامشي المدهشة “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة” كانت تنطبق على الحدث بصورة كاملة. (بالمناسبة كانت الخلايا التي أطلق عليها الشباب “خلايا غرامشي” قبيل الثورة بدايةً فلسفية نحو فكرة التنسيقيات). وهذا النوع من التفاؤل هو الذي نفهمه من عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”؛ ففي المخزون الشعبي ظل الشاعر أبو القاسم الشابي حاضرًا بقاعدته الشهيرة: تحت إرادة الشعب يستجيب حتى القدر. تتحرّك هذه الإرادة المُدَّعمة بالتفاؤل بقابلية للإنسانية، أو بنزوعٍ (شهيةٍ) (Appetition) إلى شيءٍ كثيفٍ إنسانيًا، وهذا النزوع عند ليبنتز هو محرّك الإرادة الأولي؛ منظورًا إلى الإرادة بوصفها رغبة، ولكن ليست أي رغبة، بل رغبة يحرّكها العقل. وفي الأحوال كلها، السوري العادي هو خلية هذه الإرادة غير القابلة للتقسيم، هو الـ”موناد” (Monad) بلغة ليبنتز، وإذا أمعنا على خطى ليبنتز، نقول: السوري العادي هو منادولوجيا الثورة، هو المُقدّس الصغير في الثورة الذي يسعى، بقدر ما يستطيع، إلى الاقتراب من الكمال الذي يسود الكل. النزوع عنده كان إلى الحياة، الحب، الذات، الأمان، الحميمية في البيت الأول، إلى ما شاءَ الحُلمُ المشروعُ من صور الوجدان، ومن صور الإنسان بوصفه إنسانًا فحسب، وهنا مكمن المعاصرة، وهذا هو المهم. ولهذا كان هذا النزوع نوعًا من التفاؤل في الانتماء إلى العصر، والإرادة كذلك: إرادة انتسابٍ إلى العصر تمهيدًا لصياغة وطنٍ مُمكن للبشر العاديين، يتسع لطقوسهم وعقائدهم ورغباتهم كلها في فضاءٍ أخلاقي كوني.
اليوم، في 2022، لم يعد غرامشي ملائمًا لتصنيع التفاؤل في سورية، فذاك المشهد ضاع لأن الإرادة فترت، ولم يستجب القدر، بل انقلب الأخير على الاحتمال المُمكن. وهنا جوهر المشكلة في المسألة السورية على مستوى التفكير بين السوريين اليوم: لم تعد الإرادةُ معاصرة، وغلبت كفة تشاؤم العقل على تفاؤل الإرادة. ولأن للتشاؤم ما يسوِّغ وجوده عقليًا؛ لا يبدو أن لمشكلة التشاؤم حلًا إلا الذي يمرّ من العمل على غرار مبدأ أدورنو: التشاؤم نظريًا والتفاؤل عمليًا. ولا يبدو لنا العمل إلا باستئناف ما بدأ به السوري العادي، ولكن بتكتيكاتٍ جديدة: يعني استئناف ابتكار وجودنا من التصاقنا بمفهوم الزمان، من إعادة دخولنا في العصر. ومن هذا الدخول نستكمل الدخول إلى الوطن. ربما لم تعد ساحاتٌ مثل العمري والساعة والعاصي وغيرها متاحةٌ لنا، ولكننا اليوم لدينا إمكانُ استخدام ساحات العالم كله، من ألاسكا إلى نيوزيلاندا، كلها مساحاتٌ مكانيةٌ لننتج زماننا، لنعتني بزماننا بصورة مشروعٍ وطني يتسلّح بإرادةٍ لا تلين للمُعاصرة، ومن ثم التفاؤل في بناء مشروع وطنٍ بدلالة الإنسان السوري العادي. ربما من دون ذلك سنعيش بالحنين أطول (Nostalgia)، ونتشارك التشاؤم، ويتحوّل الحنين إلى صورة من صور النحيب على حميميةٍ لن تعود، وإذا صَدَق كانط؛ فحتى العودة إلى المكان لن تفيد في علاج الحنين؛ فالحنين عنده هو أمنيةُ المريض به الواهمة بإيقاف الزمان بين لحظتي الرغبة والوصول إليها؛ وترجمة ذلك سوريًا كالآتي: إما أن نعمل فنتفاءل، أو أن نبقى نعيش وهم توقف الزمان بين لحظة “الشعب يريد” الماضية ولحظة سقوط النظام المأمولة، يعني إما أن نصبح خارج الزمان أو أن ننتج زماننا ونعتني بإنتاجه.
المصدر: العربي الجديد