تواجه الحكومات في جميع أنحاء العالم معضلة كبيرة بسبب جائحة كورونا: هل يجب أن تبذل قصارى جهدها لوقف انتشار الفيروس والإبقاء على الخسائر البشرية عند أدنى مستوى ممكن، أم ينبغي أن تمنح الأولوية للتخفيف من حدة الضرر الاقتصادي الذي تسبب به الوباء أثناء العمل على الحد من انتشار الفيروس؟ وتتمثل الإجابة المثالية في إيجاد نقطة مثالية بين الاثنين، والتي تقلل من التأثيرات السلبية لكل منهما.
مع ذلك، وبسبب الافتقار إلى المعلومات الحيوية حول فيروس كورونا التي تسمح بتقديم تنبؤات صحية، اضطرت الحكومات إلى الاختيار بين فرض عمليات الحظر الشاملة المعيقة للاقتصاد، والحفاظ على استمرار الاقتصاد على حساب ارتفاع معدل الإصابة.
وقد اختارت الغالبية العظمى من الدول الحل الأول، بهدف تحمل الألم المالي ثم إعادة تشغيل اقتصاداتها بمجرد السيطرة على الوباء. وتمكنت تلك الدول التي تتمتع بعملة قوية، واستقرار للأسعار، وعدم وجود فائدة، من دعم اقتصاداتها مالياً. لكن تلك الدول التي لا تتمتع بمثل هذه المميزات اضطرت إلى الاستعانة بالقروض منخفضة الفائدة من صندوق النقد الدولي.
لكن استجابة حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للوباء كانت مختلفة قليلاً، والتي تميزت في البداية بإظهار القليل من الاهتمام بتهديد الفيروس وإظهار الثقة المفرطة بالنفس. ووُصفت الحكومة تركيا بأنها الدولة الأكثر استعدادًا للتعامل مع الوباء. وقال المسؤولون إن المصانع ستنتقل من الصين إلى تركيا بمجرد انتهاء الأزمة، كما أكدوا أيضاً على أن حزمة دعم مالية بقيمة 2.5 مليار ليرة (360 مليون دولار) لدعم دخل الأسر الفقيرة ستكون كافية لحماية البلاد.
ولكن عندما بدأ الفيروس في الانتشار، اضطرت الحكومة إلى تغيير موقفها، وفرضت تدريجياً قيوداً مشددة وحظراً للتجول، وزادت من الاختبارات والحجر الصحي للأتراك العائدين من الخارج.
وأخيرًا، وبإصرار اللجنة العلمية التي استعانت بوزارة الصحة لإسداء المشورة بشأن فيروس كورونا، أعلنت الحكومة عن فرض حظر تجول في نهاية الأسبوع في المدن الكبرى. لكنها لم تقترب حتى الآن من فرض عمليات حظر أطول وأكثر شمولاً.
ومع ارتفاع عدد الإصابات بوتيرة متسارعة، غيرت الحكومة نظرتها إلى الفيروس وبدأت تأخذ التهديد على محمل الجد، فلماذا قاومت الحكومة إذن اتخاذ مثل هذه الإجراءات منذ البداية؟ يبدو أن الحكومة تخشى أن لا تتمكن من الخروج من الآثار الاقتصادية إذا فرضت هذا النوع من الحظر الشامل.
تعلم الحكومة جيداً أنها لا تملك الأموال اللازمة للدعم في ظل استمرار تعثر الشركات المصنعة، ولا لتوفير شبكة أمان للملايين الذين فقدوا دخلهم بفضل الوباء. وكان بإمكانها أن تحصل على المساعدة من صندوق النقد الدولي، لكن انغلاقها الأيديولوجي أغلق هذا الباب. وبدلاً من ذلك، سارعت الحكومة إلى إطلاق حملة تبرعات وطنية تحت شعار “نحن مكتفون ذاتياً”، بينما تمنع أيضًا البلديات التي تسيطر عليها المعارضة من إدارة حملاتها الخاصة للمساعدة.
وتستمر الحكومة في التأرجح بين الإجراءات. فمن ناحية، انطلقت الشائعات التي تقول بأنها تخطط لتطبيق حظر كامل لمدة ستة أيام من 18 إلى 24 نيسان (أبريل)، وهي فترة تشمل أيضًا عطلة 23 نيسان (أبريل) الرسمية وتنتهي في بداية شهر رمضان. ومن ناحية أخرى، تم عرض حزمة جديدة من التدابير الاقتصادية على البرلمان.
أنا لست متخصصاً في علم الأوبئة، ولا يمكنني أن أقرّ بمدى فائدة هذه الفرضيات التدريجية لحالات الحظر. كان التباطؤ في معدل الإصابات الجديدة في بداية الأسبوع علامة جيدة. ولكن إذا كان الاندفاع الذي شهده يوم الجمعة الماضي لتخزين الإمدادات بعد أن أعلنت وزارة الداخلية فرض حظر التجول قبل ساعتين من تنفيذه لا يتسبب في رفع حالات الإصابات، فإن الإصابات الجديدة في البلاد قد تبلغ ذروتها بحلول نهاية نيسان (أبريل)، وآمل أن يكون هذا هو ما قد يحدث.
لكن الأخبار السيئة هي أن الضرر الاقتصادي الذي يلحقه الفيروس بالاقتصاد يزداد سوءًا مع مرور كل يوم، إلى حد ما يزال غير واضح. والأخطر من ذلك أنه يبدو من غير المحتمل أن يكون التمويل المتاح كافياً لمنع الانهيار الاجتماعي، حتى بالحد الأدنى.
بحسب أحدث توقعات صندوق النقد الدولي بشأن الأثر الاقتصادي للوباء، ستحدث خسارة في الدخل العالمي بنسبة 3 بالمائة، مع خسارة بنسبة 7.5 بالمائة في الاتحاد الأوروبي وخسارة بنسبة 5 بالمائة في تركيا. وكانت توقعاتي لمعدلات نمو صفرية أكثر تفاؤلاً بكثير. وقد استنتجت أنه بعد الخسائر التي تجاوزت 20 بالمائة في الربع الثاني من هذا العام، ستبدأ التروس الاقتصادية في الدوران مرة أخرى على مدار بقية العام، ويمكن للنمو في الربعين الثالث والرابع أن يخفف الكثير من هذه الخسائر ويترك الناتج المحلي الإجمالي عند حوالي مستوى العام الماضي.
وحتى لو كان هذا السيناريو المتفائل صحيحاً، فإن مستوى البطالة وفقدان الدخل هو أمر مخيف في حد ذاته. وقد صل الوباء إلى تركيا في وقت كانت فيه البطالة مرتفعة بالفعل، حيث تجاوزت قليلاً 4 ملايين شخص في كانون الثاني (يناير).
أتوقع أن يصبح ما لا يقل عن 3 ملايين شخص عاطلين عن العمل في الأشهر المقبلة. وفي هذه الحالة، وحتى لو يكن هناك نمو في القوة العاملة، فإننا ننظر إلى مستوى بطالة يتجاوز الـ20 بالمائة. والأسوأ من ذلك، أن معدل البطالة طويلة الأمد -الأشخاص الذين يبحثون عن عمل لمدة عام أو أكثر- سيقفز إلى معدلات مرتفعة. وقد ارتفع عدد العاطلين عن العمل لفترات طويلة إلى 750 ألف شخص في العام 2017، وبحلول العام 2019 ارتفع إلى أكثر من مليون شخص، أو واحد من كل أربعة أشخاص عاطلين عن العمل. وإذا دفع فيروس كورونا عدد العاطلين عن العمل إلى 7 ملايين، فإن التقدير المتفائل هو أن ثلث هؤلاء سيكونون عاطلين عن العمل لفترة طويلة، وهذا يعني 2.3 مليون.
عندما تأخذ هذه الجماهير، الذين ليسوا مؤهلين للحصول على إعانة البطالة، وتضيفهم إلى ملايين الموظفين الذين من المرجح أن يتم تسريحهم ودعمهم بدفعات شهرية حكومية بقيمة 1.170 ليرة (170 دولارًا) التي تمنح للعمال في إجازة غير مدفوعة، يتضح من هنا مقياس الانهيار الاجتماعي الذي يهدد تركيا.
في مواجهة هذا التهديد، فإن حزمة التحفيز الجديدة المقدمة إلى البرلمان غير كافية على الإطلاق. وتمنع الحزمة أصحاب العمل من تسريح الموظفين، لكنها تعطيهم الحق في إرسال الموظفين في إجازات غير مدفوعة الأجر. وعندما يتم تمرير القانون، سيؤدي هذا إلى نشوء فئة جديدة من الأشخاص “العاطلين عن العمل” الذين ما تزال لديهم وظائف على الورق، ولكنهم مجبرون على تقاضي مبلغ 170 دولارًا شهريًا الذي توفره الحكومة.
وبالنسبة للعديد من العمال غير المسجلين الذين فقدوا وظائفهم، وجميع الباعة الجوالين والتجار المحليين والحرفيين الذين اختفى دخلهم، لا توفر الحزمة شيئًا. وسيتعين عليهم الاستفادة من أي دعم متواضع تقدمه وزارة الأسرة والخدمة الاجتماعية.
من هذا المنطلق يتضح ما يجب على الحكومة أن تفعله؛ وهو أنه يجب منح كل مواطن ستة أشهر من الدعم المستقر عند مستويات الحد الأدنى للأجور. هذا هو الحل العملي الوحيد. ليس هناك جدوى من الجدل حول مقدار العطاء ومن يستحق الحصول عليه. وسيستفيد الأشخاص الأكثر احتياجًا إلى حد كبير من هذا، بينما لن يحدث الدعم فرقًا كبيرًا جدًا للأغنياء.
بطبيعة الحال، هذا يثير السؤال عن مصدر هذه الأموال. والجواب ليس بهذه الصعوبة. يمكن تأمين بضعة مليارات من الدولارات من صندوق النقد الدولي، ويمكن خفض الإنفاق العام غير الضروري وتأجيل المدفوعات المضمونة من الخزانة للشركات التي نفذت مشاريع البنية التحتية للشراكة بين القطاعين العام والخاص لمدة عام. وهناك طرق أخرى. لا نتوقع هنا حدوث أي معجزات، لكن من شأن مثل هذه الاجراءات أن تخفف من الضرر إلى حد كبير. ويبقى السؤال: ما مدى قدرة وإدارة أردوغان على اتخاذ مثل هذه الخطوات الجذرية؟
*اقتصادي، أكاديمي، أستاذ اقتصاد وكاتب تركي. ترأس غورسل قسم الاقتصاد في جامعة غلطة سراي من 1996-2007 ، وعمل نائبًا لرئيس الجامعة من 2004-2007. شغل منصب مدير مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية في جامعة بهجيشهر منذ العام 2008.
المصدر: – (أحوال تركية) / الغد الأردنية