عن العدالة الانتقالية والأولويّات

محمد أمين الشّامي

سأبدأ من حيث انتهى مقال المركز الدُّولي للعدالة الانتقالية ICTJ وأقتبس التّالي: “ليست العدالة الانتقالية عنصرًا واحدًا أو عمليّة واحدة، ولا هي صيغة فريدة جامدة تؤول إلى استنساخ المؤسَّسات، بل هي أشبه بخريطة وشبكة تدنيك إلى وجهتك: ألا وهي مجتمع أكثر سلامًا وعدلًا وشمولًا للجميع، صفّى حساباته مع ماضيه العنيف وأحقَّ العدالة للضَّحايا“. وبعيدًا عن التَّركيبة اللُّغوية الرَّكيكة، سأقف عند عبارة “صفَى حساباته مع ماضيه العنيف وأحقَّ العدالة للضَّحايا”.

تصفية الحساب، عقلانيًّا، تعني لقاءً بين طرفين تتوافر لديهما الرَّغبة في وضع نهاية للقضايا العالقة بينهما وتدفعهما الإرادة ذاتيًّا إلى ذلك –ونعني هنا القضايا التي أدَّت إلى وقوع الصِّدام بينهما- بموجب قرار سيادي منهما، أي: هي عمليّة جرد للمشكلة القائمة بينهما، نقاطًا ومنعرجات، من حيث الأسباب والفاعلين والنتائج، ليُّصار إلى الاتِّفاق على وجوه القصاص عبر تحديد المذنبين ومعاقبتهم وتسمية الضَّحايا وتعويضهم، ومن ثم وضع استراتيجية إعادة إعمار ما دمَّره الصِّراع ورسم ملامح التَّعايش المستقبلي بين الأطراف المتنازعة ووضع أسس متينة للمستقبل، وكلُّ ذلك بموجب قرار سيادي ورغبة حقيقيّة وإرادة حرّة واعية تحت سقف الوطن. إذن، يوجد شروط لا بد من مراعاتها بتسلسلها المنطقي للوصول إلى حلٍّ حقيقي ودائم للصِّراع. فهل الشُّروط/الأسس المذكورة متوافرة في الحالة السّوريّة؟ هل يمتلك النِّظام أو المعارضة قرارهما السِّيادي كي يلتقيا ويناقشا القضايا الشّائكة العالقة بينهما؟ لا أظن، فنحن نعلم أنَّ القرار هذا لدى الجانبين قد رُهِن منذ زمن بعيد إلى أطراف أخرى تدخَّلت في النِّزاع وجيَّرته لمصالحها الذّاتيّة أو الاستراتيجيّة وحسب، وأطالت عمره مادام يحقِّق لها أهدافها الجيوسياسيّة أو الاقتصاديّة أو الإيديولوجيّة أو حتّى النَّفسيّة والاجتماعيّة. إذن، هذا أوَّل شرط/أساس قد سقط.

فهل تتوافر رغبة حقيقيّة وإرادة واعية للعمل على تصفية القضايا العالقة بين الطَّرفين (إذا اعتبرناهما غير مرتبطين بالقرار السِّيادي)؟ أجزم أنَّ الرَّغبة والإرادة غير متوافرين على الأقل من جانب النِّظام، وهذا ما تدلِّل عليه مواقفه الزِّئبقية في مناقشات اللَّجنة الدُّستوريّة وفي غيرها من المناسبات الَّتي أثبتت توجُّه النِّظام إلى اللعب على عامل الوقت واعتماده على انعدام الحرفية لدى الجانب الآخر أو فقر أدواتها لديه. أمَّا عن الطَّرف الآخر فأكيد أنَّ الرَّغبة والإرادة موجودتين، بل هما فائضتان لديه ومفروضتان عليه بآن معًا، طالما أنَّ الأمر فيه مصلحة شخصيّة بمعزل عن الصّالح العام، وهذا ليس بالاتِّهام بل هو قراءة لواقع الحال وليس الضَّمائر. وهذا شرط/أساس آخر قد هدم أيضًا.

ولكيلا أطيل في تفنيد باقي الشُّروط، سأنتقل مباشرة إلى لبِّ القضيّة: ما هي ملامح هذا الوطن الَّذي ينبغي الاتِّفاق على أنَّه السَّقف الَّذي سيتمُّ تحته العمل على تحقيق العدالة الانتقاليّة المرجوّة في المستقبل، أو المظلَّة الجامعة لشعب مزَّقته الحرب؟ الواقع يقول إنَّ طرح هذا السُّؤال يوازي ويعادل الدُّخول في حقل ألغام عن سابق إصرار وتصميم. هل يا ترى هذا الوطن الَّذي يحمل اسم الجمهورية العربية السّوريّة هو نفسه الَّذي يريد الكردي السّوري أن يكون الجمهوريّة السّوريّة مثلًا؟ هل الوطن الَّذي يريد المسلم السّوري أن يرد في دستوره أنَّ دين الدَّولة هو الإسلام، هو نفسه الَّذي يريد السُّوري المسيحي أو السّوري العَلماني أو السّوري اللّاديني ألّا يذكر فيه دين الدَّولة كونها كيانًا اعتباريًّا؟ ولا أود المتابعة في طرح تساؤلات ستشي بنظرة تشاؤميّة، حيال بعضٍ ممّا ما يزال يفرِّقنا (رغم أنَّ البعض يعتبرها هامشيّة)، إذ لوَّنتها الأحداث المتتابعة والمواقف المتخاذلة كذلك منذ أن فقد العمل الثَّوري بوصلته العادلة ووضع البندقية برسم الإيجار، وتحوَّلنا من مؤسَّسات ثورة إلى مؤسَّسات معارضة!

أكمل الاقتباس من مقال المركز الدَّولي للعدالة الانتقالية: “ما من طريق واحد يُتَّبع، فلكل مجتمع طرق شتّى يسلكها تحدِّدها طبيعة الفظائع المرتكبة وخصائص المجتمع نفسه، بما في ذلك ثقافته وتاريخه وبناه القانونيّة والسِّياسيّة وقدراته بالإضافة إلى انتمائه الاثني ودينه وتكوينه الاجتماعي والاقتصادي”، وهذا ما أشرت إلى انعدامه آنفًا بصيغة أكثر خصوصيّة بالنِّسبة لواقعنا المزري الَّذي نعيشه الآن، فالنِّظام نجح على مدار نصف قرن من الحكم، وأكثر من عقد من الانتقام والهدم، في إرجاع الإنسان فينا إلى منطلقاته البُدائيّة وأعادنا إلى عقليّة ساكن الكهوف الأوَّل من حيث التَّفكير أوَّلًا وأخيرًا بكيفيَّة البقاء على قيد الحياة وحسب. وبالتّالي، باتت المسافة بيننا وبين الأفكار الَّتي قامت عليها المجتمعات الحديثة شاسعة تحتاج إلى إرادة أنبياء وصبر رسل للملمة الصُّفوف من جديد وبناء الضَّمائر.

وأختم بما ختم به المركز مقاله: “سرعة مسير المجتمع على هذا الدَّرب والمسافة الَّتي يقطعها منه يعتمدان على الجهود الحثيثة والدَّؤوبة المبذولة، وعلى مدى تعاون الأطراف المعنّية كلها، بدءًا من الفاعلين الحكوميّين والسِّياسيّين، مرورًا بالضّحايا (؟) ومنظَّمات المجتمع المدني، وصولًا إلى المواطنين العاديين” فهل أدركتم سبب تشاؤمي؟

للخروج من هذه المتاهة الَّتي ندور في حلقاتها المفرغة منذ عقد من الزَّمان أرى أنَّه لا مفرَّ من أن ننتهي أوَّلًا من النِّظامين، الحاكم والمعارض، بكلِّ شخوصهما المترهِّلة وأدواتهما الصَّدئة كشرط رئيس لا مناص منه، ونستردَّ قرارنا السِّيادي لبناء موقف ثوري موحَّد، ونسترجع إرادتنا الشَّعبيّة الحرّة كشرط مهيِّئ للقادم من الخطوات، وبعدها سيكون علينا أن نعمل بموجب فكرة مفادها أنَّ الوطن لنا جميعًا، ماضيه وحاضره ومستقبله لنا جميعًا، وأنَّ نهضته نهضة لنا ووقوعه نهاية لنا جميعًا، وعندها يمكن أن نجتمع ونتفاهم ونضع الخطط لمسارات العمل ونحدِّد الخطوات اللّازمة لانطلاق عمليَّة المحاسبة وتحقيق العدالة الاجتماعية تحت سقف هذا الوطن، أمّا ما عداه فعبث، وهذا ما نراه الآن. لكن كيف سننتهي من النِّظامين؟ سؤال بحجم قضيّة.

المصدر: إشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى