منذ بداية الثورة السورية وإلى الآن مازلنا (نبحث) عن طريق نحو مستقبل خالٍ من الاستبداد والقمع الفكري والسياسي والظلم الاجتماعي وإلى جانب ذلك نبحث عن وسائل أكثر أمانًا نحو الانتقال إلى طريق العدل لمحاسبة كل من كان له صلة بالحرب والقمع والقتل والدمار لتحقيق أهداف الثورة السورية حيث أصبحت مسألة الاقتصاص من مجرمي الحرب كمشهد (مطلب) أساسي في حياة المواطنين السوريين، ومن هنا تأتي أهمية العدالة الانتقالية في عملية التحول إلى مجتمع ديمقراطي خالِ من مجرمي الحرب، وهنا تكمن إشكالية وسؤال مهم:
هل مفهوم العدالة الانتقالية واضح كما يجب في منظور المجتمع السوري؟ الجواب سيكون من خلال هذا النص وبدايةً تعريف العدالة الانتقالية من المنظور الأكاديمي والعلمي ويليه التعريف من وجهة نظري الشخصية ورأيي في مفهوم العدالة الانتقالية:
-عرفتها الأمم المتحدة: أنها مجموعة من العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لمعالجة ما ورثه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لضمان المساءلة وإحقاق العدل وتحقيق المحاكمة.
-وعرّفها المشرع التونسي مؤخرًا أنها: مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان.
وعرفتها الدكتورة غادة حلايقة: عبارة عن المؤسسات أو الممارسات الوطنيّة التي تحدّد وتعالج المظالم التي ارتُكبت في فترة حكم ورئاسة سابقة كجزء من عملية التغيير السياسي، ويمكن القول بأنّ جميع أنواع العدالة هي العدالة الانتقالية. فهذه التعاريف كلها تصب في موضوع حكم قضائي من المساءلة وتحقيق العدل وعدم انتهاك حقوق الإنسان كما يرسي لنا ملاحظات مهمة بأن تحقيق العدالة الانتقالية تأتي في مرحلة ما بعد الصراع أو النزاع ومحاسبة جميع المجرمين دون تحديد خطة معينة ببدء المحاسبة، هل من الأعلى إلى الأسفل أو العكس.
-ومفهومي هنا للعدالة الانتقالية أنها طريقة النظر إلى الجرائم بغض النظر إلى فاعلها وهي لغة عدم الإفلات من العقاب بأي وسيلة من الوسائل أو بأي شكل من الإشكال ومحاسبة جميع من كان له صلة بجرائم الحرب من الأعلى إلى الأسفل في محاكم وطنية وبلجنة قضائية وطنية لعدم تكرار الانتهاكات ومراعاة قواعد القانون الدولي الإنساني وحقوق الانسان.
بمفهومي للعدالة الانتقالية ورأيي خالفت التعاريف السابقة وأضفت للتعاريف صيغة جديدة، ويتلخص رأيي بالتالي أنه لا تتحقق العدالة الانتقالية إلا بمحكمة وطنية وبتدابير قضائية فقط ولا يتحقق هذا إلا بالبدء من الهرم ثم إلى الاسفل لأننا شاهدنا في فترات السابقة على سبيل المثال الحالة السورية محاكمة بعض السوريين مثل إياد غريب وعلاء موسى بتهمة ارتكابهم جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان ولكن الغريب في الأمر هنا أنه في الوقت ذاته كان رفعت الأسد المسؤول عن( مجزرة حماة) وقتل المدنيين يتجول براحته في سورية ويعيش في فرنسا منذ 30 عامًا، لم يخضع للمحاكمة على ارتكابه هذه الجرائم كما حكم عليه أربع سنوات في محكمة فرنسية بتهمة /غسل الأموال/ وتم إفلاته من المحاسبة وهنا يراودني سؤال مهم هل هذه هي العدالة الانتقالية التي تحققها المحاكم الأوربية؟
برأيي لا، فهذه فقط العدالة الانتقائية تتم وفق اختيار أشخاص معينة لمحاسبتهم بينما المجرمين الدمويين الكبار مازالوا يفلتون ويهربون من المساءلة ويتم غض الأبصار عنهم لذلك إذا لم نبدأ من الهرم سيكون مصير بشار الأسد مثل رفعت الأسد وسيحاسبون بعض الأشخاص من الأسفل فقط بمحاكمهم وبعقوبات من قوانينهم. أضيف هنا أيضًا أننا نحن أصحاب الحق في هذه المسألة فحقنا نحن أن نحاكمهم بمحاكماتنا وضمن قوانيننا وعدم السماح بإفلات أحد من المساءلة من جميع الأطراف.
بعد تسليط الضوء على مفاهيم العدالة الانتقالية والتركيز على الجانب (القضائي) فيها بمحاكمة كل من كان له صلة بجرائم الحرب هنا أطرح سؤالًا آخر مكمل للسؤال الأول هل يمكننا أخذ تجارب بعض الدول وتطبيقها في الحالة السورية لتوضيح مفهوم العدالة بالنسبة لنا بشكل أوسع؟ مثل( جنوب إفريقيا والبوسنة ورواندا).
بدايةً سنتعرف على تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية وهل يمكننا تطبيقها في سورية؟
تعد تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا من أبرز تجارب تطبيق هذا النظام في العالم فبعد انتهاء نظام التمييز العنصري وماصاحبها من حرب دامت ثلاثين عاماً من (1960-1990)قادها حزب المؤتمر الوطني الافريقي ضد هذا التمييز، ودخلت البلاد في مرحلة الانتقال الديمقراطي في عام 1990 بعد إطلاق سراح زعيم حركة المؤتمر الوطني نيسلون مانديلا بعد 27 عامًا في السجن، وكانت هذه التحولات ثمرة مسار قائم على المفاوضات ونهج المصالحة لتجنب كل أشكال الانتقام وتوصل في النزاع لحالة من تسوية مفادها (العفو) والنتيجة في عام 1990 تمت أول انتخابات في جنوب أفريقيا متعددة الأعراق وفاز فيها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا وقام مانديلا بتشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة يترأسها القس” ديزموند توتو “ومنها بدأت عملية مصالحة حقيقية بين الماضي والحاضر لمحو مخالفات الماضي.
أما بالنسبة لتجربة (راوندا والبوسنة)
راوندا الدولة التي وجدت وبدأت بصفحة جديدة مع نفسها بعد حرب دموية دامت أربع سنوات وأسفرت عن مقتل أكثر من مليون إنسان في إبادة جماعية في راوندا وحدها، بعدها قاموا بخطوات جدية نحو الانتقال حيث أنشأت حكومة مابعد الحرب لجان مصالحة لزيادة روابط مجتمعية من خلال محاكمة الجاني في محكمة عامة أمام أسرة الضحايا ونجحت التجربة .
أما في البوسنة فبعد ثلاث سنوات من حرب أهلية قامت محكمة جنائية دولية بعد مطالبة الحكومة البوسنة والضحايا بمحاكمة مجرمي الحرب الذين تورطوا بالإبادة الجماعية ونجحت التجربة لكنها لم تكف المجتمع البوسني بسبب فساد سياسي وعفو عفا عنها الزمن.
-بعد الخوض المبسط بتجارب العدالة الانتقالية لتوضيح المفهوم سننتقل للشق الثاني من السؤال كيف يمكن أن نستفيد من تطبيقها في سورية؟ برأيي الحالة في سورية تختلف تمامًا عن ماجرى في جنوب افريقيا والبوسنة ورواندا وعن أي تجربة أخرى لأنه أولًا: طبيعة تركيبة المجتمع السوري القائم منذ سنوات عدة على الثأر والانتقام لضحاياه يختلف عن مبدأ العفو مقابل الاعتراف الذي كان جزءًا من عقيدة جنوب أفريقيا وما زال، وثانياً: مقارنة زمنية ففي كل من راوندا والبوسنة طالت من ثلاث إلى أربع سنوات بينما سورية دامت أحد عشر عامًا فقد يكون عامل الوقت ضعيف في المقارنة بين الدول الثلاث لكن أثرها قوي ثالثًا: والأهم حالة “الاعتراف” كيف سيتم تحول لمسار العدالة الانتقالية بينما لم يعترف أي طرف من أطراف النزاع أنه مسؤول عن جرائم الحرب في سورية إلى الآن وكل طرف يرى نفسه محق بمحاربة الآخر.
من وجهة نظري فقد أصبحت الحالة السورية أضخم من بناء العفو والمصالحة وجبر الضرر كما ذكرت سابقًا إن الحل الأمثل الذي قد ينجح في سورية هو ( حكم قضائي وطني ) لمعاقبة كل مجرمي الحرب دون استثناء وآليات خاصة تناسب طبيعة مجتمعنا ومأخوذة من عقيدة فكرية لشعبنا غير ذلك فالتجربة السورية في حالة من التعقيد تجعلنا نفقد الأمل بتطبيق هذه التجربة أو الانتقال نحو الديمقراطية ودولة الدستور والعدالة وتطبيق العدالة الانتقالية الحقيقية وليس الانتقائية.
المصدر: اشراق