عندما بدأت موجات الربيع العربي تصل إلى دمشق، وراح يشم عبيرها الشعب السوري، القابع في سجن كبير، هو سورية، التي يحكمها الأسد /الأب ثم الابن منذ عشرات السنين. في تلك اللحظات التاريخية التي لاتنسى لم يدر في خلد السوريين المنتفضين سلميًا ضد حكم الطاغية أن هذه الثورة الجماهيرية يمكن أن يحولها النظام/ العصابة إلى حرب ضروس يمارس فيها كل أنواع القتل، ولتكون المقتلة الأسدية، بحيث باتت سمة المرحلة، لما ارتكب فيها من عنف وقتل وتعذيب، وانتهاكات لكل القوانين الإنسانية المعولمة، ولكل القوانين الوضعية في سورية، وأيضًا كل الشرائع السماوية التي ترفض الظلم.
خرج الناس أواسط آذار/ مارس 2011 لايلوون على شيء، وكل مناهم وهمهم أن يسود العدل وتتحقق المساواة المفتقدتين، مع الحرية والكرامة المغيبتين قسرًا منذ خمسن عامًا أو يزيد. وعندما تكون الثورة سلمية يستبعد الناس أن تتحول إلى حرب وسلاح وعسكرة، لكن مع حكم النظام الإجرامي الطغياني كل شيء ممكن، وكل شيء قمعي لابد من توقع حدوثه، مع نظام لايتنازل عن الحكم إلا بالقوة، والتي سبق وأن خطف الوطن السوري بها وعبرها. وكان ماكان من تهديم للبنية التحتية السورية، لتصل إلى مانسبته 65 بالمئة، هدمًا لبنية تحتية في سورية، عمل الشعب السوري على إقامتها بكده وعرق جبينه، خلال سنوات طويلة من كم الأفواه وإلغاء الانسانية.
ثم كانت الحرب بالكيماوي ضد غوطة دمشق الشرقية والغربية، وخان شيخون في إدلب، والعديد من الأماكن الأخرى في الجغرافيا السورية، التي استخدم فيها نظام الأسد سلاحًا كيماويًا أوهمنا أنه يخبئه ليكون سلاحًا ضد المحتل الصهيوني الخارجي الذي يحتل الجولان وفلسطين. لكنه تبين بالواقع الممارس أن هذا الكيماوي المحرم دوليًا، كان موجودًا ومخزنًا لاستخدامه ضد السوريين، أي ضد الشعب الذي يُفترض أنه شعبه. ناهيك عن سلاح البراميل الذي اخترعه نظام الأسد ليرميه فوق رؤوس البلاد والعباد، ويحصد عبره مع باقي الأسلحة النوعية الروسية الحديثة، ماينوف عن مليون شهيد سوري ذهبوا على مذبح الحرية والكرامة حيث خرجوا من لأجلهما.
كما زج في غياهب المعتقلات والسجون ماينوف عن 900 ألف معتقل، مازال معظمهم مختفين ولايعترف النظام القمعي بوجودهم، بل يخرج على الشعب السوري بين الفينة والأخرى بقوائم الموت حيث يدعي زورًا وبهتانًا أنهم ماتوا نتيجة أمراض وأزمات قلبية، وليس كما هي الحقيقة التي نعرفها جميعًا، وهي أنهم قتلوا جراء التعذيب الممارس ضدهم، وقوائم قيصر تشهد وتوثق ذلك، حتى سمي سجن صيدنايا عالميًا بالمسلخ البشري؟
أمام هذا المشهد الصعب والمآلات الانسانية المؤلمة، يتحدث الكثيرون اليوم عن نهايات للحرب ضد السوريين، ومن ثم يجري الحديث مطولًا أمميًا ودوليًا عن ماتسمية القوانين الدولية (العدالة الانتقالية) وهي ضرورة كما تراها المنصات الأممية وصولًا إلى نهاية الحرب المحتملة، وأيضًا المصالحة الشعبية، كي تتمكن أنساق المجتمع السوري من الحياة والتعاون فيما بينها، دون عودة إلى الحرب والانتقام. حيث يرى فريق أممي أن عدم وجود عدالة انتقالية تمسك بيد الناس وتعيد لهم بعض حقوقهم المسلوبة، لن يكون هناك أي تعايش حقيقي وطبيعي بين الناس.
وهو معطى فكري تنظيري انساني صحيح وضروري للعيش المشترك، ومن أجل إعادة وصل ما انقطع بين مداميك المجتمع السوري الأثنية والطائفية والسلطوية. لكن المشكلة بالأساس لدى السوريين هي بقاء هذا النظام المجرم، الذي لايرى في بقائه أي سورية عاقل أية إمكانية للعيش المشترك، وهو قَتل وما برح يقتل الكثيرين، ومازالت سجونه ممتلئة بالسوريين، دون أي حركة جدية للإفراج عن هؤلاء المغيبين قسرًا. ناهيك عن التغيير الديمغرافي المماريس ضد فئة بعينها من السوريين أكثر من سواها، وتهجير قسري لنصف المجتمع السوري إلى الشمال السوري خارج سيطرة النظام أو إلى بلاد اللجوء في كل أصقاع العالم.
إذًا المشكلة مازالت لدى النظام وداعميه الذين يرفضون الولوج في أية عملية سلمية جدية، والتجربة ماثلة أمامنا عبر ثمان جولات للجنة الدستورية، ولم تحصل عبرها الحالة السورية سوى على المزيد من قبض الريح.
العدالة الانتقالية ضرورية ومطلوبة لكن من يقوم بها؟ وهل يقبل بها المجرم الأسدي أولًا ؟ أم أن الأمل مازال ضعيفًا من أجل أي إنجاز جدي نحو هذه العدالة الانتقالية البعيدة كل البعد عن ملاذات حقيقية وممكنة، بوجود نظام القتل الطغياني الأسدي.
المصدر: صحيفة إشراق