لا شك أن قمة سوتشي الأخيرة بين الرئيسين الروسي والتركي تختلف عن سابقاتها من اللقاءات نظرًا للتطورات والمستجدات الدولية والإقليمية، فروسيا اليوم أصبحت أكثر حاجة لتوطيد العلاقات مع تركيا تماشياً مع الاستراتيجيات المستجدة بعد الحرب على أوكرانيا وهذا يعني أن الملفات المختلف عليها لا بد من تليين تناقض مواقف البلدين فيها لزيادة ذلك التعاون بينهما.
ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس أردوغان عن تواصل جهاز الاستخبارات التركي مع جهاز الاستخبارات في دمشق، لكن المستجد الجديد هو ذكره أنه إذا سلكت تركيا طريق التعاون مع دمشق لحل مسائل التنظيمات الإرهابية فإن ذلك سيكون أكثر صواباً طالما كان ممكناً وفق رؤية الرئيس بوتين، وهذه الرؤية الروسية ليست جديدة بل كانت تصر عليها منذ عدة سنوات ولكن لم يتم ذكرها من قِبل الجانب التركي سابقًا. علاوة على أن الرئيس أردوغان طالب في مستهل حديثة بالوصول إلى نتائج ملموسة على أرض الميدان في مكافحة الإرهاب وأنه ينتظر دعم صديقه بوتين في هذا الملف، وهذا يتوافق مع تصريحات جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي عندما قال إنه من حق دمشق أن تزيل التنظيمات الإرهابية من أراضيها وأنه ليس من الصواب اعتبار المعارضة المعتدلة إرهابيين.
ولو أضفنا على ما سبق توقف العملية العسكرية ضد قسد والتي أعلنت عنها تركيا مراراً وتكراراً تأتي في إطار هذا التنسيق والتفاهم التركي الروسي، وبالطبع إن هذا التنسيق قد مر على طهران ودمشق، لكن هذا لا يعني أن هناك خطوات كبيرة قد اتخذت في هذا الإطار وإنما من الواضح أن تَسارع تلك الخطوات زاد بشكل أكثر وضوحاً من ذي قبل وأن تأثير تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وخاصة في مسألة الغذاء والطاقة جعلت الجميع يتأنى ويتراجع عن حدة مواقفه فالسعي نحو التهدئة بات الخيار الاستراتيجي المفضل أكثر لدى أنقرة.
على أوروبا أن تكون ممتنة لتركيا إزاء تدفق الغاز الطبيعي من روسيا إليها دون انقطاع. تصريح هام من الرئيس الروسي يرسل من خلاله رسائل مهمة ويعطي زخماً ودعماً سياسياً لتركيا للاستمرار في سياستها التي تتبعها في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، وفي نفس الوقت يقول للأوروبيين والعالم إن العقوبات الغربية على روسيا لم تؤثر عليها وإن أوروبا ما زالت تحتاج الغاز الروسي. وربما الرسالة الأهم أنه ممكن لتركيا أن تلعب دور الوسيط المالي بين روسيا والغرب وخاصةً أن البنوك الروسية تتواجد في تركيا واعتماد خمسة بنوك تركية نظام المدفوعات الروسية مير وأن كثيراً من الشركات الروسية توجهت نحو تركيا التي بدورها رفضت فرض عقوبات على روسيا واعتبرت أنه لا بد من وجود طرف ثالث شبه محايد من أجل إبقاء قنوات التواصل فعالة رغم القطيعة بين روسيا والغرب وفي حال نجحت تركيا في أداء هذا الدور فإن مكاسبها المالية والسياسية وحتى الاستراتيجية ستكون كبيرة جداً وبهذا تكون تركيا نوعاً ما نجحت في تحويل تبعات الحرب الروسية الأوكرانية من تبعات سلبية كارثية إلى تبعات إيجابية تستفيد منها وتستغلها في ملفات أخرى.
تحاول تركيا تكثيف جهودها ضد قسد مستفيدة من التوتر الجديد الحاصل بين الولايات المتحدة الأميركية والصين حول زيارة بيلوسي لجزيرة تايوان، فقمة طهران قد أوضحت أن الفرقاء الثلاثة روسيا وإيران وتركيا متفقون على أن التواجد الأميركي يرسخ فكرة تقسيم الأراضي السورية، علاوة على أن واشنطن هي من تحمي قسد التي تعتبرها تركيا الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وفي حال خروج الولايات المتحدة الأميركية من الشمال السوري يصبح التفاهم أسهل مع روسيا حول الوضع السياسي في سوريا.
ما يهم تركيا هي الحدود الشمالية لسوريا التي تتواصل مع العراق وتركيا من الناحية الجغرافية، وحتى السكانية أما بقاء الأميركيين في مناطق أخرى من الجغرافية السورية فلا أظن أن هذا يقلق أنقرة أو حتى أنها ممكن أن تنشغل به، ولكن هذا المطلب لا يمكن اعتباره واقعياً فالتواجد الأميركي في سوريا يعتبر مطلباً لبعض الدول العربية من أجل إحقاق التوازن العسكري والاستراتيجي مع روسيا ومع إيران ولذلك لا يمكن لواشنطن أن تستمع لأنقرة وتتجاهل حلفاءها الآخرين في المنطقة.
من الواضح أن قمة سوتشي رسخت التعاون التركي الروسي في مجالات عدة ولعل أهمها القراءة الاستراتيجية المشتركة في ملفات عدة كالطاقة والغذاء والتبادل التجاري المشترك بين الطرفين الذي سيزداد مع الأيام القادمة، وذلك لحاجة روسيا لتركيا في مسائل التحويل المالي والوساطة المالية بين الغرب وروسيا المستفيدة سياسياً وإعلامياً من زيارة أحد قادة الناتو (القوة العسكرية الثانية في الحلف) بعد المقاطعة الغربية لها وفرض عقوبات عليها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا