مسار إيران في سورية

فايز سارة

تحلو للبعض إعادة التفكير بالسياسة والسلوك الإيراني الراهن في سوريا، وهو نهج بدأ قبل نحو أربعة عقود ونصف من السنوات؛ إذ تعود بداياته إلى فترة صعود آية الله الخميني وأنصاره إلى السلطة عام 1979، والتي ترافقت مع تغييرات معلنة في سياسة إيران الخارجية، كان بينها انفتاح واسع باتجاه نظام حافظ الأسد في سوريا، وتبني القضية الفلسطينية، وسعي إلى تصدير الثورة إلى الخليج بما فيه العراق، وهي بعض ملامح التغييرات في استراتيجية إيران، بعد إسقاط نظام الشاه محمد بهلوي، وحلول الخميني وأنصاره مكانه.

ما يدفع إلى إعادة التفكير بالسياسة والسلوك الإيراني في سوريا، أمران أولهما الحطام الذي صارت إليه الأخيرة، وهو حطام متعدد الأوجه والمستويات، طال مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحوّل البلاد إلى ركام دولة ومجتمع بعد حرب مستمرة منذ أحد عشر عاماً، وليس من أفق لنهايتها، والأمر الثاني، أن سوريا لم تعد تحت سلطة واحدة، بل موزعة على كيانات أمر واقع، يتقاسمها نظام الأسد في خط حلب من الشمال إلى درعا في الجنوب، ومجلس سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي، ومناطق السيطرة التركية في الشمال الغربي، وكيان محدود توجد فيه «داعش» وسط البادية السورية، والأهم من الكيانات، أن سوريا صارت تحت احتلالات متعددة، تتشاركها بمستويات مختلفة الدول الكبرى فيها روسيا والولايات المتحدة، والإقليمية بينها إيران وتركيا إلى جانب وجود محدود لدول عربية وأجنبية، تندرج في إطار التحالف الدولي للحرب على داعش والذي كرس وجود وإمكانية دخول قوات لدول أجنبية وعربية، تشكل ملامح حلف دولي في ظاهرة قوى الاحتلال الأجنبي في سوريا، ولا يمكن تجاوز الحضور الإسرائيلي في الظاهرة، وإن كان تعبيره مختلفاً عن الشكل التقليدي للاحتلال.

لقد تصور البعض، أن مشروع إيران في سوريا، تحويل الأخيرة إلى ما يشبه إيران بما للأخيرة من بنية دولة ومجتمع، فتصبح كياناً تابعاً أو ولاية إيرانية، حسبما كرر مسؤولون إيرانيون مراراً، والأمر في الحالتين، يتطلب إعادة بناء سوريا بشكل يتوافق مع البنية القائمة في إيران، وباستثناء أن إيران لا يمكنها إعادة البناء بسبب ضخامة تكلفة إعادة الإعمار، فإن إيران كانت شاهداً ومشاركاً في التدمير، ولم تمانع التدمير الذي يتحمل نظام الأسد المسؤولية المباشرة عنه، بل إنه قام به بمشاركة حلفائه من روس وإيرانيين وميليشيات تتبعهم، وبهذا المعنى، فإن إيران لن تقوم بالإعمار، ولن تشارك فيه إلا باعتباره عملية استثمارية مربحة من جهة، ومتوافقة مع مصالح إيران الأبعد من جهة أخرى.

والأمر في كل الأحوال، يقودنا إلى ما ترغب أن تكون عليه حالة سوريا من جانب إيران، ما دامت أنها لن تقوم بإعادة الإعمار، ولن تشارك فيه إلا بما يتفق مع مصالحها، وكلاهما يجعل سوريا تدور في فلك حالة العراق جارها في الشرق المحكوم بميليشيات وشخصيات، توفر سيطرة إيرانية كاملة على عراق اليوم، وهو حال لا يختلف كثيرون، أنه الأسوأ في تاريخ العراق نتيجة عملية تدمير شاملة، تعددت أطرافها، وتواصلت مراحلها على مدار العقود الماضية وسط حضور ملموس لإيران في كل المراحل من الحرب الإيرانية – العراقية 1980 – 1988 إلى يومنا الحالي الذي تستفرد فيه إيران بالعراق، وتؤثر بشكل قوي في مختلف شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مستوى الدولة والمجتمع في آن معاً.

ويشكل التدمير بما صار إليه، مرحلة من مراحل السيطرة الإيرانية في سوريا، سواء بما يجسده ذلك من تدمير القوى والطاقات الوطنية المستقلة، ومثلها قوى ممانعة السيطرة الإيرانية ومقاومتها في الدولة والمجتمع، بل وعبر خلق بيئات وبنى تساعد الإيرانيين في تحقيق أهدافهم وأهمها جعل سوريا واحدة من قواعد استراتيجية إيران في شرق المتوسط، والتغلغل في كل مناحي الحياة في السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة، وخلق بيئات تساعد على التمدد الإيراني في مستوى السلطة والمجتمع، ولعل الفقر وغياب الأمن والاستقرار بين أبرز تلك البيئات، وتأسيس وتطوير أدوات السيطرة، وبينها نشر التشييع الإيراني، وتوطينه في أواسط السوريين، وتأسيس جماعات شيعية مسلحة على نحو ما هو عليه الحال في لبنان والعراق، وربط كل ما سبق بالمال الإيراني.

لقد حققت إيران الكثير فيما سبق، وهي تواصل خطواتها في سياق السيطرة الشاملة، وهو مسار يبدو أن لا أحد في العالم مهتم بما يقوم به الإيرانيون في سوريا باستثناء بعض البلدان العربية، وبعضها ينطلق من حسابات ضيقة لا من باب الأخطار الاستراتيجية على البلدان العربية، ومثل ذلك الاعتراضات الإسرائيلية، التي تعارض إيران فقط من باب اقتراب قواتها من خط وقف إطلاق النار في الجولان وتمركزها بالقرب منه.

وينقلنا واقع الحال إلى النقطة الثانية، وهي تعدد سلطات الأمر الواقع، وقوى الاحتلال الأجنبي، وكلاهما في المنطقة الباردة من سياسة إيران السورية، ويستند الموقف الإيراني في هذه النقطة إلى سعي طهران نحو تثبيت سياساتها وتقويتها باعتبارها النقطة المحورية، وهي لا تريد فتح معارك فرعية مع أي طرف كان، بل هي تسعى للاستفادة من الاختلافات والصراعات بين كل الأطراف لتمرير سياساتها، ولعل انخراطها إلى جانب روسيا وتركيا في تحالف آستانة لتنسيق سياسة الأطراف الثلاثة في سوريا مثال على الموقف الإيراني رغم أن تركيا دولة متدخلة بخلاف موقف إيران في سوريا، كما أن معارضتها لعملية تركية واسعة في منطقة سيطرة مجلس سوريا الديمقراطية شرق الفرات مثال آخر، والمثال الأهم سكوتها عن الضربات الإسرائيلية لقواتها في سوريا وأهداف الميليشيات الشيعية التابعة لها ولنظام الأسد.

إن الكلام عن الموقف الغربي الأوروبي – الأميركي من سياسات وسلوكيات إيران بما في ذلك الجرائم التي ارتكبتها وميليشياتها هناك، أمر لا معنى له، فهذا آخر ما تهتم به السياسة الغربية، التي أدارت ظهرها للقضية السورية برمتها، وطبيعي ألا تهتم بواحد من موضوعاتها أو تفرعاتها، خصوصاً، أن الولايات المتحدة هي من سلمت العراق إلى إيران، وسكتت عن تغول حزب الله على السلطة في لبنان، وهي مجرد أمثلة في سياسات وسلوكيات إيران وأدواتها في المنطقة، التي لا تجد قوى موازية في المستويين الإقليمي والدولي للرد عليها.

المصدر: الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى